كيف يبني الكاتب عالمه الروائي؟

مبدعون مصريون يتحدثون عن الزمان والمكان والتجربة في نتاجاتهم

إبراهيم عبد المجيد  -  مصطفى نصر  -  منير عتيبة  -  صفاء النجار
إبراهيم عبد المجيد - مصطفى نصر - منير عتيبة - صفاء النجار
TT

كيف يبني الكاتب عالمه الروائي؟

إبراهيم عبد المجيد  -  مصطفى نصر  -  منير عتيبة  -  صفاء النجار
إبراهيم عبد المجيد - مصطفى نصر - منير عتيبة - صفاء النجار

كيف يبني الكاتب عالمه الروائي والقصصي، ما هي العناصر الأساسية التي يستفيد منها، ويبلور من خلالها رؤيته لذاته ولواقعه والعالم من حوله، ثم كيف تعمّق الخبرة والتجربة هذا العالم، وتجعله دائم التجدد والعطاء؟
في هذا التحقيق آراء عدد من الأدباء عن طبيعة بناء نصهم الإبداعي، وكيف تتحول المعرفة الإنسانية داخله إلى معرفة مبدعة.
- إبراهيم عبد المجيد: المكان صانع الشخصيات
لكل رواية بناؤها الخاص الدال على أسلوب الكاتب، ويأتي تنوع التشييد من أسباب عدة، أولها، زمن الرواية ومكانها، وثانيها الشخصيات وتشابكها مع الأحداث الآنية للرواية أو الماضية أو اللاحقة لها؛ وذلك لأن الكاتب كل ما يكتبه مفعول به أكثر من أنه فاعل فيما يخص الشخصيات، وتحدد معرفته بتاريخ الأدب موقعه. قياساً على ما سبق وعلى سبيل المثال، تصف الرواية الكلاسيكية المكان بدقة شديدة جداً لاستحضار هوية المكان وروحه ليكون واضحاً تماماً بأبعاده المادية والمعنوية، بينما تتعامل الرواية الرومانتيكية مع المكان على حسب حالة الشخصيات أو البطل الذي يراه جميلاً أو قبيحاً على حسب حالته النفسية، أما الرواية الواقعية الجديدة التي ظهرت في أوروبا في الستينات والسبعينات فجعلت المكان له وجود مستقل تماماً عن الشخصيات وميّزته عنها وفحصته أدبياً بالأساليب التي جعلته الأهم من الشخوص. حينما قرأت ذلك في الروايات العالمية والدراسات شعرت بشيء مختلف، ألا وهو قدرة المكان في إنتاج الشخصيات وصناعتها وتحديد لغتها وسلوكها وتصرفاتها، فالشخصية الروائية الجالسة في قطار تحدد طرازه الخارجي الموحي بزمن نشأته تختلف عن شخصية أخرى تمشي مثلاً في الصحراء على كل المستويات؛ اللغة وأسلوب التحدث، وأيضاً حينما تفكر.
ويذكر أن الكاتب بعدما يلمّ بتاريخ الرواية وفنونها يمتلك الشجاعة التي تحرضه على أن يبني عالمه الخاص في أعماله الأدبية بأساليب متعددة تتجاوز صرامة الواقع بحاضره والماضي بسلطته والمستقبل بغموضه، وأنا فعلت ذلك في كل رواياتي؛ فروايتي «بيت الياسمين» هي رواية كوميدية في الأساس وتحمل بين ثناياها الكثير من السخرية، لكن كل فصل من فصولها العشرة جعلت له مقدمة قصيرة أو حكاية تراجيدية، بحيث يكون أمام القارئ تناقض أو تفاعل ما، وتركت للنقاد التفسير، قاصداً بهذا الأسلوب أن أكتب عالماً أوسع من عدد صفحات الرواية، وقد نالت الرواية إعجاباً كبيراً من النقاد والقراء على حد السواء. لقد اختلف البناء الروائي حينما قررت كتابة عمل أدبي تاريخي، حيث عكفت لسنوات كثيرة في دراسة الزمن الواقعة، أحداثه في الحرب العالمية الثانية والصحراء الغربية والإسكندرية حتى أبني الرواية بناءً صادقاً، وكل ما أتحدث عنه يكون في زمنه مجسداً. ومن المهم هنا أن أشير إلى أن ما يحيط الكاتب من ثقافات وفنون وعلوم هو مفيد ويؤثر في الكتابة بشكل أو بآخر.
- مصطفى نصر: المهم كيف تكتب
أغلب الوقت تطاردني أشياء مجهولة، تدفعني للكتابة، وكان توفيق الحكيم يصفها بالمرأة الحامل، لا بد لها أن تلد. قد تلد وهي راكبة الترام أو في الشارع، فلا يشغلني موضوع الرواية، وإنما الذي يشغلني أكثر، هو الشكل الذي سأحكي به حكايتي، فالقصة هي... كيف تكتب؟ لذا؛ أنتقل من مرحلة إلى أخرى. وحيث أعيش في عالم «ألف ليلة وليلة» مثلاً، يطاردني الشكل المكتوب به الليالي، فأكتب رواية «ليالي غربال»... أفكر طيلة الوقت في علم النفس، أبحث عن الدوافع المؤدية للفعل، وأعشق فن الموسيقى والسينما، والتاريخ الحديث.
تجربتي الإنسانية تعذبني دائماً، أخافها، أجيد الكتابة عن الآخرين، لكن عني صعب جداً، عندما مات ابني الشاب عام 95، توقع البعض أني سأكتب عن ذلك، لكنني لم أفعل، فقد عشت معذباً لفترة طويلة، مندهشاً لأن الناس لم تتغير، بينما تغير كل شيء فيّ، يحرضني البعض لكي أكتب سيرة ذاتية، فلا أعدهم بشيء، فكيف سأحكي عن موت أمي في طفولتي فجأة، وعن معاناتي بسبب موتها، وعن أحداث قاسية مررت بها. كان صديقي محمود قاسم يقابلني كل يوم – قبل أن ينتقل إلى القاهرة - ويعرف التفاصيل الصغيرة لعلاقة لي مع زميلة في العمل، ما زال محمود مندهشاً، كيف لم أكتبها حتى الآن.
- منير عتيبة: النص يكتب ذاته
عملية الإبداع معقدة للغاية، يتحكم فيها الوعي بمقدار واللاوعي بمقدار آخر، ففي مرحلة التحضير للعمل يكون الوعي هو المسيطر، وكذلك في مرحلة المراجعة قبل الدفع بالعمل للنشر، لكن في مرحلة الكتابة نفسها يكون للاوعي دور كبير، حيث يفاجأ الكاتب نفسه بالكثير مما يكتبه ولم يكن مخططاً له، البعض يظن هذا نتيجة «الإلهام»، لكني لا أؤمن بالإلهام بالمعنى الرومانسي القديم، وفي الوقت ذاته لا أنكر أن النص يكتب ذاته؛ لذلك أرى الكاتب الذي تشغله الكتابة بجدية يحرص على أن يمتلئ لا وعيه بكل ما يخدم كتابته، بالقراءة والمشاهدة والسماع والمناقشة والملاحظة والتفكير والشعور، وغيرها من العناصر. من الصعب تحديد أو وصف كيفية بناء النص الأدبي؛ لأن كل نص هو حالة مستقلة بظروفها الخاصة وظروف الكاتب عند كتابتها، مثلاً أنا كتبت رواية «أسد القفقاس» في أقل من شهر بعد عملية بحث تاريخي لمدة ستة أشهر، في حين كتبت رواية «موجيتوس» في خمس سنوات، بل إن لي قصة لا تتجاوز ثلاث صفحات كتبتها في ثلاث سنوات.
أحرص على أن تظل الفكرة في ذهني أطول مدة ممكنة قبل الشروع في الكتابة، ثم أتركها تكتب نفسها على الورق من دون تدخل مني ولا قيود. وغالباً ما يشغلني «كيف» أعرض الفكرة بقدر ربما يفوق «ماذا» سأقول من خلالها؛ لأني أؤمن أن الكيفية هي التي تحدد جودة العمل، وأن العمل الجيدة قادر على توصيل الكثير من الأفكار التي يمكن ألا تخطر ببال الكاتب ذاته؛ لذلك أحرص قدر الإمكان أن يكون بناء العمل مناسباً لفكرته، وأن يقدم شكلاً مختلفاً إن لم يكن جديداً أو مدهشاً في كل مرة. العلوم الإنسانية وبالأساس علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والتاريخ، إضافة إلى الأدب الشعبي والتصوف، وعلم الإدارة كلها مؤثرات عميقة جداً في شخصيتي وفي إبداعي، فهذه العلوم تمنح المعرفة بالذات وبالإنسان عبر التاريخ وعبر الحكايات وعبر علاقاته النفسية والمجتمعية، وهي معرفة ضرورية لمن يكتب أدباً، فالأدب بالأساس هو محاولة لمعرفة أكثر عن الإنسان.
- صفاء النجار: العالم بصفته إشكالية
يحاول الروائي في إبداعه احتواء العالم الخارجي في إطاره العام وتفصيلاته الصغيرة، أو تقديم عالم تخيلي موازٍ له قوانينه وآلياته. وفي الحالتين ينتقي أحداثاً وشخوصاً تتفاعل مع هذا العالم للوصول إلى رؤية معينة. وقد كرست الكتابة الجديدة لمفاهيم التجريب، وتشابك الواقع والحل، وتداخل الأزمنة، وكسر النمطية، وتفتيت الشخوص والأحداث»، فالكاتب يمارس تجربته ولا يعرف هويتها اﻷخيرة، ولا يستطيع أن يتنبأ بنهايتها، المهم أن يكون قادراً على تقديم عالم روائي متماسك فنياً.
عندما أبدأ في بناء عالم روائي، أحاول أولاً تحديد قوانينه العامة والقواعد التي تحكمه وطبيعة العلاقات بين شخوصه، ومدى توافق أو تنافر هذه الشخوص مع القواعد العامة للعالم، وأطرح في ذهني أسئلة عن تأثير هذا العالم على شخوصه، وما يترتب عليه من تحالفات وصراعات. وفي سياق الخبرة، أشير هنا إلى مصطلح «العلوم الإنسانية» إلى كل ما يتعلق بالأنشطة البشرية مثل علوم التاريخ، اللغات، الفلسفة، الاجتماع، الإعلام والاتصال، وكلها تستهدف توسيع وتنوير معرفة الإنسان بوجوده، وعلاقته بالكائنات والأنظمة الأخرى، وتطوير الأعمال الفنية للحفاظ على التعبير عن الفكر الإنساني. وما يميز العلوم الإنسانية عن العلوم البحتة والتطبيقية هو قدرتها على التشكيك والمساءلة وهز وتقويض المسلمات الاجتماعية والسياسية والدينية، حيث تنزع عنها السلطة والقداسة. وعندما تكون لدى الكاتب مرجعية إنسانية فهو يقدم في أعماله تساؤلات ويطرح إشكاليات مجتمعية وتاريخية أكثر مما يقدم إجابات وأطروحات جاهزة للعالم. وهذا يفيد القارئ ويجعله شريكاً في العملية الإبداعية وليس مجرد متلقٍ سلبي للنص.



«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
TT

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

وجدت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين في كلية الطب بجامعة نورث وسترن الأميركية، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية -تسمى بالشبكة المعرفية الاجتماعية- متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة، وهي على اتصال باستمرار مع تلك الشبكة.

يشار إلى اللوزة تُعرف أيضاً باسم «دماغ السحلية»، ومن الأمثلة الكلاسيكية لنشاطها الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية لشخص يرى أفعى؛ حيث يصاب بالذعر، ويشعر بتسارع ضربات القلب، وتعرّق راحة اليد.

لكن الباحثين قالوا إن اللوزة تفعل أشياء أخرى أكثر تأثيراً في حياتنا.

ومن ذلك ما نمر به أحياناً عند لقاء بعض الأصدقاء، فبعد لحظات من مغادرة لقاء مع الأصدقاء، يمتلئ دماغك فجأة بأفكار تتداخل معاً حول ما كان يُفكر فيه الآخرون عنك: «هل يعتقدون أنني تحدثت كثيراً؟»، «هل أزعجتهم نكاتي؟»، «هل كانوا يقضون وقتاً ممتعاً من غيري؟»، إنها مشاعر القلق والمخاوف نفسها، ولكن في إطار اجتماعي.

وهو ما علّق عليه رودريغو براغا، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية فاينبرغ للطب، جامعة نورث وسترن، قائلاً: «نقضي كثيراً من الوقت في التساؤل، ما الذي يشعر به هذا الشخص، أو يفكر فيه؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟».

وأوضح في بيان صحافي صادر الجمعة: «أن الأجزاء التي تسمح لنا بالقيام بذلك توجد في مناطق الدماغ البشري، التي توسعت مؤخراً عبر مسيرة تطورنا البشري. في الأساس، أنت تضع نفسك في عقل شخص آخر، وتستنتج ما يفكر فيه، في حين لا يمكنك معرفة ذلك حقّاً».

ووفق نتائج الدراسة الجديدة، التي نُشرت الجمعة في مجلة «ساينس أدفانسز»، فإن اللوزة الدماغية، بداخلها جزء محدد يُسمى النواة الوسطى، وهو مهم جدّاً للسلوكيات الاجتماعية.

كانت هذه الدراسة هي الأولى التي أظهرت أن النواة الوسطى للوزة الدماغية متصلة بمناطق الشبكة المعرفية الاجتماعية التي تشارك في التفكير في الآخرين.

لم يكن هذا ممكناً إلا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تصوير دماغ غير جراحية، تقيس نشاط الدماغ من خلال اكتشاف التغيرات في مستويات الأكسجين في الدم.

وقد مكّنت هذه المسوحات عالية الدقة العلماء من رؤية تفاصيل الشبكة المعرفية الاجتماعية التي لم يتم اكتشافها مطلقاً في مسوحات الدماغ ذات الدقة المنخفضة.

ويساعد هذا الارتباط باللوزة الدماغية في تشكيل وظيفة الشبكة المعرفية الاجتماعية من خلال منحها إمكانية الوصول إلى دور اللوزة الدماغية في معالجة مشاعرنا ومخاوفنا عاطفياً.

قالت دونيسا إدموندز، مرشح الدكتوراه في علم الأعصاب بمختبر «براغا» في نورث وسترن: «من أكثر الأشياء إثارة هو أننا تمكنا من تحديد مناطق الشبكة التي لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وأضافت أن «القلق والاكتئاب ينطويان على فرط نشاط اللوزة الدماغية، الذي يمكن أن يسهم في الاستجابات العاطفية المفرطة وضعف التنظيم العاطفي».

وأوضحت: «من خلال معرفتنا بأن اللوزة الدماغية متصلة بمناطق أخرى من الدماغ، ربما بعضها أقرب إلى الجمجمة، ما يسهل معه استهدافها، يمكن لتقنيات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة استهداف اللوزة الدماغية، ومن ثم الحد من هذا النشاط وإحداث تأثير إيجابي فيما يتعلق بالاستجابات المفرطة لمشاعر الخوف والقلق».