شعراء عراقيون يكتبون نصوصهم على جدران «فيسبوك»

أهم شاعر لا يطبع أكثر من 500 نسخة في بلد يسكنه 35 مليون إنسان

شعراء عراقيون يكتبون نصوصهم على جدران «فيسبوك»
TT

شعراء عراقيون يكتبون نصوصهم على جدران «فيسبوك»

شعراء عراقيون يكتبون نصوصهم على جدران «فيسبوك»

أخذت كتابة الشعر على جدران «فيسبوك»، تزداد بازدياد عدد المدونين والمتفاعلين في هذا الفضاء الأزرق، بغض النظر عن غثه وسمينه وهي ظاهرة تستحق وقفة متأملة، في طبيعة القصيدة واستجابة المتلقي لها. وفي الوقت الذي ازدحمت فيه الصفحات بخواطر يتبادلها المدونون ولا تستحق التوقف عندها، والتعاطي معها (شعرا)، نجد عدداً من الشعراء المعروفين وجدوا في الفضاء الإلكتروني نافذة يطلون منها على قرائهم، هاجرين تقريباً المنابر الورقية. هل لذلك علاقة بمحدودية منافذ النشر التقليدية، أم بسبب سرعة انتشار النص وزيادة حجم قرائه في هذا الفضاء؟
هنا آراء عدد من الشعراء العراقيين:

إبراهيم البهرزي: الحرية المطلقة في التعبير
من المؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي صارت منافسة للمطبوعات الورقية في مجال الاتصال الثقافي ولكن ليست الأسباب المتعلقة بمحدودية منافذ النشر أو سرعة الانتشار أو عملية تسويق النص وحدها ما يدفع إلى ذلك، وأعتقد أن لكل أسبابه ودوافعه.
على صعيد شخصي، يمكنني الزعم أنه ما من سبب من الأسباب المذكورة أعلاه كان دافعي لاختيار هذه الوسيلة تحديدا منصة وحيدة (تقريبا) للتعبير، وإنما سبب آخر، وأظن ثمة من يشترك معي بهذا السبب، وهو الحرية المطلقة في التعبير وتجنب إحراج المسؤول الثقافي في المطبوعة الورقية بسبب مضامين ربما لا تتوافق مع سياسة هذه المطبوعات. فمن اليقين أن لكل مطبوع ثقافي سياسة عامة، وبعض الشعر قد يجنح عن كل سياسة عامة لما ينطوي عليه من تأويلات ذات حساسيات مريبة للبعض!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التواصل البيني المباشر بين الكاتب وقرائه هو أكثر حميمية وحرارة لتوفر خاصية التعليق والردود على التعليقات أولا بأول ما يمنح الحالة طبيعة الندوة الأدبية الحية خاصة للأدباء الذين تمنعهم ظروفهم الشخصية من فرص التواصل المباشر مع قرائهم في عالم الواقع الفعلي.
مع ذلك لا بد من الإقرار أن للأمر جانباً سلبياً يتمثل في التراكم المجاني للشعر عبر هذه الوسائل ما يقود إلى رثاثة الشعر، خاصة بالنسبة للقراء الذين لا يمتلكون الحس النقدي المؤهل للفرز بين العادي والاستثنائي.
التراكم يفسد الذائقة الشعرية من منطلق أن الكثرة تغلب النوع، ولكن شأن كل تكرار يقود إلى الملل، إلا أن الملل نفسه سيقود يوما إلى ضرورة الاختيار الجيد وفقا لقانون الديالكتيك.

حميد قاسم: أنشر بلا اشتراطات
بالنسبة لي، صفحات «فيسبوك» أكثر فاعلية من الصحف والمجلات، على الرغم من غياب المكافأة المادية التي يتلقاها الشاعر عن نصه، لكنه يكسب ما هو أهم... الحرية.
في «فيسبوك» أنشر نصوصي بلا اشتراطات محرر ثقافي قد يكون مزاجه وذائقته لا تستسيغان كتابتك، وربما عمد بعضهم إلى التلاعب بنصك أو تشويهه... ويبقى العامل الأهم هو الانتشار.
لدي 5000 صديق ونحو 7000 متابع... أضمن أن عددا جيدا منهم يتابع ما أنشره من نصوص، في حين أن أكثر صحفنا انتشارا لا تبيع خمسة آلاف نسخة!
أهم شاعر عراقي لا يطبع أكثر من 500 نسخة من مجموعته الشعرية، ولا تسلني كم يوزع أو يبيع منها، وإذا صدرت مجموعته عن دار الشؤون الثقافية (الدار الحكومية للنشر) التي لا تطبع أكثر من 500 نسخة كذلك، فإنه سيأخذ منها 50 نسخة هدية من الدار فيما تبقى 450 نسخة تحت رحمة الغبار في مخازن الدار... في بلد يوصف بأنه بلد القراءة الأول عربيا لا توزع أكثر من 500 نسخة... وهذا يعني أنه لا قراء للشعر في أي محافظة عراقية، وإلا فماذا يعني أن تبيع 100 نسخة من كتابك في بلد يقطنه 35 مليون إنسان؟

علاوي كشيش: صرت محرراً لصفحتي
نشرت كثيرا من قصائدي في الصحف والمجلات بأنواعها. وكان النشر في هذه الصحف يتطلب التعرف على مسؤول الصفحة أو مخاطبته أو الاتصال به والرضوخ لوعوده، وربما تنشر القصيدة ويفوتني الحصول على نسخة، أو تنشر مع مواد أخرى تهبط فيها قيمة الصفحة، ثم إن القصيدة المنشورة ربما لا تصل إلى القارئ الذي أطمح إلى أن يقرأ قصيدتي، ناهيك من فترات الانتظار، إذ إن أغلب الصحف محكومة بتسلسل المواد الثقافية، وربما يتطلب هذا الأمر مني الانتظار لمدة شهر أو أكثر، فضلا عن مزاجية معينة تحكم محرر الصفحة، وربما رفض القصيدة من دون الاتصال بي. هذا في السابق. أما الآن فقد صرت أنا محررا لصفحتي في «فيسبوك»، وأجد أن قصيدتي تطير إلى قراء غير متوقعين فضلا عمن يتابعونني في النشر سابقا، مع ضمان أن قصيدتي تعبر الحدود وليس كالصحيفة الورقية، كما أنني أستطيع أن أضيف ما أشاء إلى قصيدتي أو أحذف منها ما أريد، والأجمل في الأمر أن تفاعل القراء بمختلف طبقاتهم وذائقتهم تأتيني استجابتهم من خلال إعجاب أو تعليق أو الاتصال بي لخوض حديث يخص القصيدة وفي هذا كله فوائد تتعدى مبدأ التشجيع وتطفر إلى الاهتمام وإبداء الرأي أو النقد النافعين.
فضلا عن أن نشر القصيدة لهذا اليوم يجعلها قد تحققت وأخذت ما تريد، وهذا يجعلني أشعر بولادة القصيدة القادمة التي تأخذ عددا من الأيام وتستمر بهذا لذة الكتابة على العكس مما كان في الصحف الورقية التي تجعلني أفقد أياما بانتظار نشر القصيدة بحيث أفقد أحيانا حماسي في الكتابة، فالقصيدة تأخذ وقتا حتى تولد ثم تنشر لتعقبها فترة قراءة واستراحة بانتظار القصيدة القادمة.
لقد حققت لي صفحتي في «فيسبوك» صداقات وعلاقات نافعة وناضجة مع شعراء عراقيين في الوطن وخارجه وعلاقات طيبة مع شعراء ونقاد عرب يعيشون في شتى بقاع العالم، وأنتفع بآرائهم وتزيدني وعيا بمسار تجربتي، هذا من الناحية النوعية، أما من الناحية الكمية فإن النشر في صفحتي يجعلني ذا تحفز مستمر للكتابة ولتطوير قصائدي وبهذا يزداد الكم ويصير أمامي الخيار واسعا إذا أردت إصدار مجموعة شعرية لأنني سأختار من القصائد أنضجها وأكثر تعبيرا وتجريبا وتأثيرا.

الشاعر سلام دواي: السبب الوحيد هو العزلة
بالنسبة لي، تجربتي مع «فيسبوك» لها أسباب مختلفة ولا تنحصر في محدودية منافذ النشر، أو الانتشار السريع، كان سببها الوحيد، هو العزلة، فأنا أقيم في أستراليا، وهذه الإقامة فرضت علي شروطها الصعبة، وأصعبها بالتأكيد هي العزلة عن الوسط الثقافي العربي والعراقي، هذا الحصار أدى إلى قطيعة مع النشر، والحضور والتفاعل، ثم وجدت نفسي تدريجيا أنقطع عن الكتابة لصالح الحياة العملية.
لقد كاد يكون هذا المصير نهائيا لولا دخولي هذا العالم الأزرق. «فيسبوك» أنعش علاقتي بالوسط الثقافي، ولبى حاجتي للتفاعل الثقافي مع أصدقائي المثقفين الأصليين وأضاف إليهم كثيرا من المثقفين الافتراضيين، أي أنه انتشلني من عزلتي وأعادني مثقفا فاعلا في وسطه من جديد، ليس على صفحتي الشخصية فقط، بل في الصحافة الورقية أيضا، فهي الأخرى أصبح لها حضورها القوي في هذا المجال وأصبحت تختار ما يناسبها لنشره على صفحاتها.
من جهة أخرى، فإن «فيسبوك» مساحة نشر واسعة، وكونية إذا كان المستخدم يجيد أكثر من لغة، وهذه خاصية تغري لاستغلالها مثقفين راسخين أو جدد على حد سواء.
إذا نظرنا من زاوية الشعر، فإن «فيسبوك» يمثل حلا، أو ردا على حصار النشر المفروض عليه من قبل دور النشر. لقد عانى الشعر منذ تسعينات القرن الماضي، من تهميش كبير ومنظم من قبل دور النشر، فصار من المستحيل أن تنشر هذه الدور كتابا شعريا حتى لو كان لأهم الشعراء، لكنها لا تتورع من نشر أي شيء يقرر كاتبه أنه شعر، إذا دفع الثمن، فأدى هذا إلى نشوء تلال من الكتب الشعرية السيئة، التي ساهمت أكثر في تهميش الشعر والإساءة إليه.
ومن وجهة نظر شاعر، أعتقد أن «فيسبوك» أعاد الاعتبار للشعر وجعله بالمواجهة التفاعلية بين المثقف النخبوي والعادي. إنه وسيلة نشر سريعة وفعالة تعزز الجيد، وتسقط الغث في لحظة نشره نفسها من خلال ردود الفعل الحية التي يتلقاها النص من قارئيه، بعكس دور النشر التي تنشر للذي يستطيع دفع الثمن، فشكلت منشوراتها الرديئة حاجزا عزز سوء الفهم لدى المتلقي.



«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ
TT

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون» سوريون... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث». رفضاً للتجاهُل وتغليب السكوت، تُصدر دار «رياض الريس للكتب والنشر»، من بيروت، كتاب «معتقلون ومغيّبون» في القضية السورية، بيقين أنّ «الفنّ يوثّق والأرشيف يتحدّث»، كما أعلن غلافه الأحمر بتسجيله هذا الموقف.

انطلق الكتاب من واقع اعتمال مسألة الاعتقال والتغييب في وجدان عموم السوريين، وتحوّلها لتكون «من المشتركات الوحيدة تقريباً بينهم اليوم». تؤكد إنسانية الملف، وبُعداه السياسي والحقوقي، أهمية الكتاب، ليُكمل ما أرسته الملاحقات والدعاوى والأحكام القضائية في بلدان اللجوء، وتحديداً أوروبا، ضدّ مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

يعود الكتاب إلى ما وثّقته «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» التي تؤكد «بلوغ حصيلة الاعتقال التعسفي في سوريا منذ مارس (آذار) 2011 حتى مارس 2024 ما لا يقلّ على 156757 شخصاً، فيما بلغت حصيلة الضحايا بسبب التعذيب خلال المدّة عينها ما لا يقلّ على 15393 شخصاً. أما حصيلة الاختفاء القسري حتى 30 أغسطس (آب) 2023، فبلغت ما لا يقلّ على 112713 شخصاً؛ بشكل أساسي على يد النظام، تليه جميع قوى الأمر الواقع المسيطِرة».

هو لا يدّعي النقد الفنّي ولا البحث التحليلي، وفق مقدّمته. «إنما الكتابة التوثيقية والراصدة، تُسهم في بناء المعرفة عن واقعنا السوري، وتبحث وتُنقّب وتجمع وتؤرشف، وتربط الأحداث والأفعال». فترصد الصفحات الـ474 ثيمة الاعتقال والتغييب منذ عام 2011 حتى نهاية 2020، استناداً إلى ما شهده مجالا الفنّ والثقافة؛ وذلك على مستويين: الأول يرصد بشكل مباشر مبدعين اعتُقلوا أو خُطفوا أو قُتلوا ضريبةَ موقفهم المُعارِض من النظام، المُعبَّر عنه في أعمالهم الفنّية أو أنشطتهم الفعلية خارج الفنّ؛ وهو ما دَرَج بكثافة في سنوات الثورة السورية الأولى، ليرصد المستوى الثاني - عبر الأعمال الإبداعية المختلفة - مَن اعتُقل أو غُيِّب من المواطنين والمواطنات بُعيد الانخراط في الشأن العام والعمل المُعارِض.

طوال السنوات العشر الماضية، تتبَّع فريق «ذاكرة إبداعية» هذه الثيمة، مُحدِّداً الاعتقال الأول بأطفال درعا الذي شكَّل شرارة انطلاق الثورة السورية، مروراً بالتطوّرات والتحوّلات في مسألة الاعتقال والتغييب، سارداً تفاصيل الأحداث اللاحقة والمتوالدة من إضرابات وعصيان في السجون، وحملات وتحرّكات ومبادرات في الداخل السوري ودول اللجوء، وصولاً إلى جهود تدويل هذه القضية سعياً نحو العدالة، والتجاذبات السياسية حولها، والمحاكمات الدولية. ذلك وسط تأكيد الموثّقين على «الموضوعية والحيادية، بغرض تثبيت الأحداث وحفظها من الضياع».

يتناول كل فصل من الفصول العشرة التي تؤلّف الكتاب، سردية عام كامل؛ فيبدأ بمقدمة تُلخّص المعطيات والأحداث المفصلية خلال السنة، يليها عرض مفصَّل لِما توصّل إليه الباحثون من «انتهاكات النظام وكل قوى الأمر الواقع، والأحداث التابعة لها والناتجة عنها، وفق المكان والزمان، استناداً إلى مئات المصادر في كل فصل، وما تبع ذلك من تحرّكات داخلية وخارجية، شعبية أو فردية أو جماعية، وحملات في وسائل التواصل».

وبفعل البحث، اكتُشفت مئات الأعمال الفنية والثقافية، المرتبطة بالثيمة المُعالَجة بمختلف أنواعها، وجُمعت، ثم وُثِّقت تباعاً؛ لترصد خاتمة الكتاب امتداد الأحداث الرئيسية المتتابعة المتعلّقة بالاعتقال والتغييب، التي حصلت بعد عام 2020 حتى تاريخ الانتهاء من إعداده.

يضيف عرض الأعمال الفنية والإبداعية والثقافية، إلى جنس الكتاب التوثيقي، بُعداً بصرياً. فاللافتات، والغرافيتي، ولوحات الفنّ التشكيلي... المُحاكية للإشكالية، يَسْهُل تصفّحها بواسطة وسوم وفلاتر متنوّعة، مثل: أصناف، أصحاب أعمال، مناطق جغرافية، تواريخ، وسوم عامة ووسوم خاصة؛ إذ وُضعت لهذه الأعمال، بأغلبيتها، السياقات المرتبطة بها. أما دليل مشروع «معتقلون ومغيّبون»، فيحسبه الكتاب «الأول من نوعه الذي يجمع في مكان واحد جميع أنواع المبادرات المتخصِّصة أو التي تُولي موضوع الاعتقال والتغييب اهتماماً فريداً». ويتابع أنه «يحوي توثيقاً كبيراً للمبادرات، بلغت 155 مبادرة موزَّعة في تصنيفات متعدّدة، مثل: مراصد حقوقية دولية، ومراصد محلية وإقليمية، ومنظمات وجهات، ومجموعات، وحمَلات مُناصرَة ومبادرات فردية، ووسائل تواصل اجتماعي»، مع التأكيد على دور هذا الدليل في فهم طبيعة عمل المبادرات والأنشطة والفئات المُستهدَفة.

من الصعوبات والتحدّيات، وُلد الإصدار. فالكتاب يشير إلى شقاء تلك الولادة، لتضارُب تواريخ الاعتقال أحياناً، وتواريخ تخلية سبيل المعتقلين، وتواريخ تنظيم الحملات والمبادرات. ثم يتوقّف عند «تباين المصادر الحقوقية لدى تناول حدث بعينه واختلافها، بشأن أعداد المعتقلين والمختفين قسراً والشهداء تحت التعذيب». ويُكمل عدَّ صعوبات المسار: «صعوبات مُرهقة تتعلّق بروابط بعض المصادر، لاختفاء بعضها في أثناء العمل أو بعده لأسباب خارجة على إرادتنا؛ ما فرض البحث عن مصادر بديلة، وإضافة أخرى جديدة لدى مراجعة الدراسة وتدقيقها»، من دون استثناء تحدّي شحّ المعلومات والمصادر عن حدث، والتحدّي المعاكس ممثَّلاً بغزارة المصادر والمراجع والمقالات المتعلّقة بأحداث أخرى.

كثيراً ما تساقط دمعٌ خلال البحث والكتابة، وغدر النوم بالباحثين أمام هول الاعتقال والتغييب. ولأنّ كثيرين فقدوا قريباً، أو صديقاً، أو جاراً، أو حبيباً، شاؤوا الاعتراض على «وحشية الظلم»، مدركين أنّ «طريق العدالة الطويلة بدأت، ولو خطوة خطوة».