الهزيمة الثانية في إسطنبول... مأزق يهدد إردوغان وحزبه

«صفعة عثمانية» طالب أنصاره بتوجيهها للمعارضة وارتدّت إليه

الهزيمة الثانية في إسطنبول... مأزق يهدد إردوغان وحزبه
TT

الهزيمة الثانية في إسطنبول... مأزق يهدد إردوغان وحزبه

الهزيمة الثانية في إسطنبول... مأزق يهدد إردوغان وحزبه

وضعت الحرب على رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى أوزارها... وكتب الناخبون لها نهاية مثيرة، على الرغم من أنها كانت متوقعة، كما أوحى بها سياق وترتيب الأحداث منذ الجولة الأولى للانتخابات المحلية التركية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي. يومذاك، انتهت «المعركة» بفوز بفارق ضئيل لصالح مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو يقترب من 14 ألف صوت. إلا أن هذه النتيجة لم تعجب الرئيس رجب طيب إردوغان وقادة حزبه الحاكم (العدالة والتنمية)، فترجموا اعتراضهم إلى ضغوط وحملة تشكيك أفضت، في النهاية، إلى انتزاع قرار من اللجنة العليا للانتخابات بإعادة الاقتراع على منصب رئيس البلدية فقط.
وكأن إردوغان وحزبه أرادوا خسارة بفارق يؤكد لهم أن الشعب التركي ما زال ينبض بالحياة، وأنه كما رفعهم من قبل عندما ارتدوا ثوب المظلوم، كان قادراً على أن يقول لهم «توقّفوا» عندما ارتأى أنهم يستخفون بإرادته.
يعود الفوز الساحق الذي حققه أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض، في جولة الإعادة على رئاسة بلدية إسطنبول، يوم الأحد الماضي، إلى جملة من الأسباب. بيد أن السبب الأهم هو أن الناخبين الأتراك أرادوا أن يعبّروا عن رفضهم السطو على إرادتهم والاستهانة بها، من خلال قرار للجنة العليا للانتخابات لم يروا فيه إلا استعلاءً على إرادتهم وسلباً لها... فكان ردهم بتوسيع الفارق إلى نحو 800 ألف صوت بين إمام أوغلو ومرشح حزب العدالة والتنمية رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم. وإذا بـ«الصفعة العثمانية»، التي طالب إردوغان أنصار حزبه بتوجيهها إلى المعارضة في انتخابات الأحد الماضي ترتد إليه قوية مزلزلة بنتيجة لم تحدث في تاريخ الانتخابات المحلية بإسطنبول منذ إعلان الجمهورية التركية عام 1923.
فاز إمام أوغلو بنتيجة كاسحة، محققاً نسبة 54.2 في المائة مقابل 44.9 في المائة لمنافسه... وهي نتيجة قيل إنها تطوي صفحة انتخابات إسطنبول – كبرى مدن تركيا – التي تحوّلت إلى «ماراثون» شاق استمر لأكثر من 6 أشهر. لكن الحقيقة أنها فتحت صفحة جديدة في تاريخ السياسة التركية، كما عبّرت عن ذلك المعارضة وجموع المراقبين خارج تركيا.

فوز نادر
لم تخرج رئاسة بلدية إسطنبول منذ عودة الديمقراطية إلى تركيا في عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال في تسعينات القرن الماضي عن سيطرة أحزاب الإسلام السياسي. إذ تناوبت هذه الأحزاب على حكمها منذ عام 1994، عندما تولى الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان هذا المنصب مترشحاً عن حزب الرفاه الإسلامي، بزعامة نجم الدين أربكان، الذي جرى حله لاحقاً.
وبعد ظهور حزب العدالة والتنمية على الساحة السياسية احتفظ هذا الحزب ببلدية إسطنبول إلى أن فقدها لصالح المعارضة يوم الأحد الماضي. والواضح أن هذا الأمر حصل بعدما وصل الناخبون إلى قناعة بأن البلاد، وليس إسطنبول فحسب في حاجة إلى «دم جديد». وأن إمام أوغلو نجح في التقاط هذه الرغبة وتقديم نفسه على أنه الأمل الذي يبحث عنه الناس للخروج من سلسلة الأزمات التي هزت تركيا في السنوات الأخيرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، على الرغم من كونه مرشحاً لمنصب رئيس بلدية... وليس منصب رئيس الجمهورية.
قابل شعار «كل شيء سيكون جميلاً جداً»، الذي أطلقه إمام أوغلو في جولة الإعادة شغف الشارع إلى التغيير. كذلك ساعده استخدامه لغة تصالحية تقوم على احتضان الجميع وتستبعد لغة الاستقطاب والقومية والاستعلاء... التي باتت لغة النخبة الحاكمة في العدالة والتنمية، يتقدمهم رئيس الحزب رئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان. وحقاً، وصفت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية فوز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول للمرة الثانية بأنه «توبيخ مذهل» لإردوغان، مضيفة أن «إرغام إردوغان اللجنة العليا للانتخابات على إلغاء نتيجة الانتخابات التي أجريت مارس الماضي اتُخذ بشكل صادم وأثار غضب سكان المدينة». وتابعت، أن الخسارة الثانية فاقمت الضرر السياسي الذي لحق بإردوغان، وأن إخفاق الرئيس في الفوز بالمدينة يعبّر عن الوضع الذي وصل إليه حكمه الذي استعاض عن التكنوقراطيين وشركائه السياسيين بأفراد عائلته والمتملقين.

إخلاص للديمقراطية
من ناحية ثانية، عد عدد كبير من المراقبين نتيجة انتخاب الإعادة على رئاسة بلدية إسطنبول دليلاً على الإخلاص العميق الذي يكنّه الشعب التركي للديمقراطية. لكنهم رأوا أنها لا يمكن اعتبارها حتى الآن انتصاراً كاملاً للمعارضة، على الرغم من أنها قد تكون «بداية انهيار» حزب إردوغان.
من هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار السبب الحقيقي لنتائج انتخابات الإعادة هو مشاعر أهالي إسطنبول تجاه إمام أوغلو، الذي نجح في الوصول إلى كل ركن في المدينة ليذكرهم بإردوغان في بداياته السياسية الأولى انطلاقاً من إسطنبول، بل قرار اللجنة العليا للانتخابات بإعادة الاقتراع... الذي أثار سخط كثرة من سكان المدينة غاضبين للغاية ودفع بعضهم إلى تغيير اتجاه تصويتهم.
هذا، ورغم وجود الكثير من أوجه القصور في تجربة تركيا الديمقراطية، مثل: غياب استقلال القضاء، وضعف المجتمع المدني، وتدجين وسائل الإعلام لتكون صوتاً في أغلبها للحزب الحاكم، وتنامي الانتهازية في جوانبها بسبب بحث غالبية العاملين فيها عن المصلحة الذاتية وتحاشي الصدام مع السلطة، يظلّ إيمان الأتراك بفكرة صندوق الاقتراع وأخذه على محمل الجد دائماً هو الوجه الناصع لهذه التجربة. ولذا؛ يمكن اعتبار نتيجة انتخابات الإعادة في إسطنبول، بشكل أساسي، عقوبة على محاولة تجاوز صندوق الاقتراع.
حتى داخل حزب العدالة والتنمية، كانت هذه الفكرة حاضرة بقوة من جانب قيادات الحزب التاريخية البارزة ومؤسسيه، مثل الرئيس السابق عبد الله غل، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، اللذين شجبا قرار اللجنة العليا للانتخابات، في خطوة أظهرت بذور الشقاق بين الرفاق في حزب العدالة والتنمية. ومعلوم أنه في الأنظمة الديمقراطية الراسخة، يجري الترحيب بمثل هذا النقد الذاتي بين الأعضاء في الحزب الواحد وينظر إليه على أنه أمر طبيعي وحيوي، لكن في نظام تركيا الذي يحكمه حزب العدالة والتنمية يعد هذا النقد أشبه بالانقلاب أو التمرّد، على رئيس الحزب الذي حرص طوال مسيرته منذ عام 2001 وحتى الآن على إظهاره بمظهر الحزب المتماسك.
وهذه المشكلة ليست قاصرة على حزب العدالة والتنمية، فحسب، بل هي أيضاً مشكلة كل أحزاب تركيا، حيث لا يمكن التسامح مع نقد الأوضاع في الحزب أو تجاوز سلطة الرئيس، وهنا يكون الحل الطبيعي الخروج وتشكيل حزب جديد أو الانضمام إلى حزب منافس.

تشرذم حزب إردوغان
لعل من الأسباب التي لم ينتبه إليها كثيرون، والتي قد تحمل إجابة عن السؤال المُلحّ حول الزيادة الكبيرة في فارق الأصوات بين أكرم إمام أوغلو وبن علي يلدريم غير غضب الناخبين من محاولات سرقة إرادتهم، ذلك التشرذم في حزب العدالة والتنمية الحاكم نفسه. فهذا الحزب يفتقد رموز الوحدة منذ جولة الانتخابات المحلية الأولى في 31 مارس الماضي، حين خسر الحزب الحاكم وشريكه في «تحالف الشعب»، حزب «الحركة القومية»، الانتخابات في 4 من أكبر مدن البلاد بينها إسطنبول وأنقرة.
وبعدها، انخرطت الأوساط السياسية والإعلامية داخل تركيا وخارجها في تحليل الجدل الدائر بين إردوغان وغل وداود أوغلو، ولا سيما، سعي الأخيرين إلى تأسيس حزبين سياسيين جديدين سيكونان منافسين بالطبع لحزبهما الأصلي. وتردد أن عبد الله غل سيشكل حزبه بالتعاون مع علي باباجان، نائب رئيس الوزراء السابق، الذي نُسب إليه ما تحقق من نجاحات اقتصادية في المراحل الأولى لحزب العدالة والتنمية.
عند هذه النقطة استشعر إردوغان خطر بوادر الانقسامات الخطيرة التي بدأت تظهر بالفعل على الحزب الحاكم. وتجسّد ذلك في خطابه الاسترضائي بعد الانتخابات المحلية. إلا أن قرار إلغاء انتخابات بلدية إسطنبول نسف كل الفرص، وقد يكون الثمن الفادح الذي سيدفعه إردوغان قريباً – كما يرى بعض المحللين – هو تفكك حزبه إلى 3 أحزاب. إذ باتت المقولة الأكثر رواجاً في تركيا الآن، وخارجها أيضاً، أن إسطنبول التي دفعت بإردوغان إلى القمة هي التي ستنزله منها.

تماسك المعارضة
في المقابل، من أهم الأسباب لما تحقق في إسطنبول هو تماسك المعارضة وحفاظها على بنية «تحالف الأمة» بين حزبي الشعب الجمهوري و«الجيد»، ونجاح التحالف في جذب الأحزاب الأخرى وفي مقدمتها حزب الشعوب الديمقراطي (مؤيد للأكراد). فالملاحظ أن معظم الأكراد الذين يعيشون في إسطنبول اختاروا التصويت لصالح المعارضة، ليس لأن المعارضة كانت تعنى بهم، بل لأنهم فقدوا كل آمالهم في حزب العدالة والتنمية.
وللعلم، حاول إردوغان خلال الأيام التي سبقت انتخابات بلدية إسطنبول تشتيت أصوات الأكراد، وكسب تأييد قسم منهم. وعمل على الاستعانة بطريقة غير مباشرة بالزعيم الكردي عبد الله أوجلان - المعتقل في سجن إيمرالي مدى الحياة، منذ عام 1999، ونقل رسالة على لسانه من قبل أكاديمي كردي زاره في سجنه، وطلب من أنصاره التزام الحياد في الانتخابات. وتحدث إردوغان شخصياً، وكذلك وسائل إعلام رسمية عن رسالة مزعومة وجهها الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، أوجلان، من سجنه داعياً فيها أنصار حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد، إلى الحياد.
لكن الحزب ندّد بـ«مناورة تقوم بها السلطات وتهدف إلى تقسيم الناخبين». ودعا، كما فعل في مارس الماضي، إلى التصويت لإمام أوغلو، واستجاب الناخبون الأكراد لدعوة الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي - السجين أيضاً - بالتصويت لمرشح المعارضة.
وبالتالي، أكد الأكراد في إسطنبول أنهم الرقم الصعب في الانتخابات التركية، وأنهم لا ينخدعون بمناورات السياسيين، كما ضربوا مثلاً ديمقراطياً مهماً على قدرتهم على الاختيار، من دون السماح باللعب على وتر ما يوصف بأنه تقديس لأقوال وآراء أوجلان.
وحقاً، من النتائج المهمة التي تمخّضت عنها الانتخابات في إسطنبول هي أن المعارضة التركية برهنت على قدرتها على القفز فوق انقساماتها وحشد قواها في الوقت المناسب من أجل تحقيق أهدافها. واستطاعت من خلال حشد أنصارها وتنظيم لاحتفالات جماهيرية واسعة في شوارع إسطنبول إظهار الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها. وأنها كما كسبت إسطنبول فإنها يمكن أن تكسب تركيا كلها... وهذا ما عبّرت عنه رئيسة حزب «الجيّد» ميرال أكشنار عندما قالت عقب الانتخابات في إسطنبول إن نتيجة انتخابات إسطنبول «تشكل صفحة جديدة في تركيا وإنه لا شيء سيعود إلى ما كان عليه من قبل».

البحث عن مخرج في خضم المشاكل
> رويداً رويداً تقترب تركيا من مشاكل ضخمة قد تتسبب في اضطرابات اقتصادية وسياسية واسعة. فهناك الكثير من المشاكل العاجلة كالعقوبات الأميركية المحتملة بسبب شراء الصواريخ الروسية «إس - 400»، والصراع على الموارد الطبيعية لشرق البحر المتوسط، وملف سوريا، والاضطراب الإقليمي على مستوى الشرق الأوسط، والعلاقة المتوترة مع الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي لتركيا الذي يتأثر بشدة بهذه القضايا.
صحيح أنه بعث إردوغان برسالة تصالحية عقب الهزيمة الثانية في إسطنبول عبر «تويتر» قال فيها، بعد تهنئته لإمام أوغلو: «سنواصل معالجة جميع قضايا تركيا الداخلية والخارجية بعناية». وبدا واضحاً أن إردوغان يسعى عقب الهزيمة القاسية في إسطنبول، إلى تحويل الأنظار إلى قضايا السياسة الخارجية من خلال الحديث عن رحلة حاسمة سيقوم بها إلى آسيا قريباً، تشمل زيارة الصين بعد «قمة مجموعة العشرين» في اليابان، تعقبها جولة أوروبية.
ولكن السؤال الذي يشغل الساحة السياسية في تركيا حالياً هو ما إذا كان إردوغان سيواصل أسلوبه القديم في التعامل مع المشاكل من خلال إجراء تغييرات شكلية في حزبه وحكومته... أم سيحاول أن يوضح للأتراك أنه تلقى الدروس واستوعبها؟
والأهم من ذلك، هل سيكون قادراً على تحديد مهمة جديدة لحزبه... أم سيفقد السيطرة وينهار الحزب؟
يجمع المراقبون على أن رفض إردوغان الاعتراف بالهزيمة في انتخابات إسطنبول الأولى بنهاية مارس يقوّض حكم القانون في وقت يعاني الاقتصاد التركي كثيراً. لقد بدا أن إردوغان لا يأبه كثيراً لما يقال في هذا الموضوع قائلاً: «كما كنا في الماضي، سنظل نعمل نحو تحقيق أهدافنا لعام 2023 من دون تقديم تنازلات بالنسبة للديمقراطية، وحكم القانون، وسلام واستقرار بلادنا تمشياً مع مبادئ تحالف الشعب». وفي هذا إشارة واضحة إلى استمرار التحالف مع حزب «الحركة القومية».
وهو التحالف الذي يحتاج إليه للاحتفاظ بالسلطة حتى الاحتفال عام 2023 بمرور 100 سنة على تأسيس الجمهورية التركية، وهو التحالف نفسه الذي تسبب في خسائر للعدالة والتنمية منها تراجع شعبيته وخسارته للمدن الكبرى.
وبحسب أنتوني سكينر، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة «فيريسك مابلكروفت» لتحليل المخاطر، سيتابع إردوغان عن كثب الشعور السائد في صفوف حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب «الحركة القومية»، لكن مساحة المناورة أقل لديه الآن مقارنة بالسنوات الماضية. وأضاف سكينر: «لقد تحول إمام أوغلو إلى قائد وطني ملهم، وسيواجه إردوغان مهمة صعبة لتحييده من دون تحويله إلى شهيد والتسبب عن غير قصد في زيادة شعبيته».

سيناريوهات محتملة بعد نتيجة إسطنبول
> يتداول المحللون الأتراك، ومنهم دنيز زيرك، السيناريوهات المحتملة في تركيا بعد خسارة إسطنبول التي يراها أكثر بكثير من مجرد خسارة السيطرة على أكبر مدن البلاد ومركز الثقل الاقتصادي فيها. فمنصب رئيس بلدية إسطنبول كان نقطة انطلاق مسيرة العمل السياسي لإردوغان، على اعتبار أن خسارة إسطنبول، التي يقطنها نحو خُمس سكان تركيا - الذي يصل إلى 82 مليون نسمة - يضعف أيضاً موقف حزب العدالة والتنمية في الوصول إلى مصدر رئيسي للدعم والتمويل. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن المدينة تستوعب رُبع إجمالي الاستثمارات العامة وتمثل ثلث اقتصاد تركيا الذي يبلغ حجمه 748 مليار دولار أميركي.
وطرح زيرك سؤالاً عن احتمالات توجه تركيا إلى انتخابات مبكرة في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، مشيراً إلى أن «القناعة في حزب العدالة والتنمية أنه لا يزال يسيطر على مفاصل البلاد... وأنه، حتى في إسطنبول، بإمكانه عرقلة إمام أوغلو في إدارة بلدية إسطنبول في ظل أن غالبية أعضاء مجلس البلدية ينتمون إلى العدالة والتنمية». وأشار إلى أن إردوغان، ومعه حليفه دولت بهشلي، رئيس حزب «الحركة القومية»، «يستبعدان خيار الانتخابات المبكرة، ويعتقدان أنه سيكون الأسوأ الآن، ولا سيما أن البلاد مرشحة للاستقرار بعيداً عن الانتخابات لمدة تزيد على 4 سنوات».
في المقابل، رأى زيرك إلى أنه مهمة إمام أوغلو في إسطنبول لن تكون سهلة على الإطلاق، بل أمامه الكثير من العراقيل على الرغم من رسائل التهاني وإبداء الاستعداد للتعاون معه، مشيراً إلى أن هذه «الكلمات والمجاملات الرسمية يمكن أن تتحول إلى العكس بين ليلة وضحاها».
وتتداول الأروقة «سيناريوهات» أخرى حول انحدار حزب العدالة والتنمية إلى مزيد من الضعف والتفكك، وبالتالي، عجز الحكومة عن السيطرة على الوضع الاقتصادي الذي يؤرق المواطنين، والذي قد تنجح الحكومة في استغلاله للدفع باتجاه الانتخابات المبكرة والمطالبة بإلغاء النظام الرئاسي الذي وسّع صلاحيات إردوغان وركّز جميع السلطات في يديه.
وبالفعل، وجَّه كمال كليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، دعوة صريحة إلى الأحزاب السياسية في البلاد للعمل معاً من أجل إلغاء النظام الرئاسي والعودة إلى النظام البرلماني. وقال كليتشدار أوغلو، في كلمة أمام البرلمان الثلاثاء الماضي «علينا العمل معا لإلغاء نظام الرجل الواحد، الذي يكفل للرئيس رجب طيب إردوغان جمع كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يده، كي نؤسس نظاماً ديمقراطياً قوياً».
ولفت كليتشدار أوغلو إلى أن سكان إسطنبول جميعاً، وهم 16 مليون شخص، «كتبوا ملحمة ديمقراطية عظيمة في انتخابات رئاسة بلدية المدينة»، ما اعتبر، من جانب المراقبين، دعوة للأحزاب السياسية للبناء على النجاح الذي تحقق في إسطنبول من أجل إنهاء هيمنة إردوغان وحزبه على مقاليد السلطة في البلاد.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.