عندما أيدت المحكمة الأميركية العليا التفرقة العنصرية

عندما أيدت المحكمة الأميركية العليا التفرقة العنصرية
TT

عندما أيدت المحكمة الأميركية العليا التفرقة العنصرية

عندما أيدت المحكمة الأميركية العليا التفرقة العنصرية

ربما سيغير رئيس قادم قرار الرئيس دونالد ترمب بتخفيض الضرائب على الأغنياء بنسبة لم تشهدها الولايات المتحدة في الماضي. وربما سيغير رئيس قادم إصرار الرئيس ترمب على بناء حائط على الحدود مع المكسيك، لوقف ملايين اللاتينيين الماشين على أقدامهم (إذا بناه). وربما سيغير رئيس قادم ما فعل ترمب، وما سيفعل، لبث الخوف والتفرقة وسط فئات المجتمع الأميركي (خصوصاً الأغلبية البيضاء).
لكن، قضاة المحكمة العليا التسعة (الذين يفسرون الدستور) يعملون مدى الحياة. قبل ترمب، كان القضاة شبه منقسمين بين محافظين وليبراليين (بين جمهوريين وديمقراطيين). لكن، ملأ ترمب مقعدين شاغرين بقاضيين محافظين، فصارت النسبة ستة محافظين مقابل ثلاثة ليبراليين. ويمكن (خصوصاً إذا حكم لثماني سنوات) أن يملأ مقعدين آخرين، ليكون القضاة المحافظون أغلبية ساحقة.
لهذا، قال ستيف لوكسنبرغ، مؤلف كتاب: «(سيباريت) «منفصل» - قضية بليسي ضد فيرغسون»: «لا يمكن أن يعيد التاريخ نفسه في مسيرة الحرية والمساواة التاريخية الأميركية؛ لكن يبدو أن الرئيس ترمب يريد ذلك».
ويشير المؤلف إلى قرار المحكمة العليا في عام 1896، الذي قال إن التفرقة العنصرية دستورية. كان ذلك بعد 50 عاماً تقريباً من قرار الرئيس أبراهام لنكون تحرير الزنوج (والحرب الأهلية بسبب القرار، التي انتصر فيها لنكون والحكومة الفيدرالية، على تمرد ولايات الجنوب العنصرية).
لكن، بعد 50 عاماً تقريباً من «دستورية التفرقة العنصرية»، أصدرت المحكمة العليا (بعضوية قضاة لم يكونوا حتى ولدوا في عام 1896) قرار «عدم دستورية التفرقة العنصرية». وهو القرار الذي مهد الطريق لمظاهرات تلتها قرارات فيما يخص حقوق الزنوج، وأيضاً حقوق النساء، كما منحت الأميركيين الحق في الاعتراض على سياسات حكومتهم (كما أوضحت المظاهرات في ذلك الوقت ضد التدخل العسكري الأميركي في فيتنام).
يركز الكتاب على القرار الأول. ويحكي، في شبه قصة، ما حدث. والمؤلف من كبار الصحافيين في صحيفة «واشنطن بوست»، التي ظل يعمل بها لأكثر من 30 عاماً. ولهذا، قدم عرضاً سلساً للموضوع، بعيداً عن التعقيدات القانونية. فقدم مجموعتين من الناس:
الذين كانوا وراء القضية التي ذهبت إلى المحكمة العليا (متهمون ومدافعون). والذين حسموا الموضوع (قضاة المحكمة العليا).
كان مركز المجموعة الأولى نيوأورلينز (ولاية لويزيانا). ومن أبطالها:
المحامي ألبيون تورغي: ليبرالي، من ولاية نورث كارولاينا. قبل ذلك، كان قاضياً في الولاية نفسها، وأصدر أحكاماً ضد تنظيم «كو كلوكس كلان» في الولاية. ثم نشر كتاباً عن حقوق الإنسان (خصوصاً حقوق الزنوج) في الولايات المتحدة.
المدعي العام لولاية لويزيانا، جوزيف كننغهام: عنصري متطرف، وكان رئيس جمعية تسمى «الاستثنائية البيضاء». ودافع عن قرار الولاية حتى وصل إلى المحكمة العليا في واشنطن.
القاضي جون فيرغسون: عنصري متطرف، رئيس المحكمة العليا في ولاية لويزيانا.
«البطل» هومر بليسي: إسكافي، نصفه زنجي ونصفه أبيض؛ لكنه اعتبر أسود، رغم أن لونه كان فاتحاً؛ لكن، كان لونه الفاتح هو سبب اختياره ليلعب دور «البطل» في السيناريو القانوني.
في عام 1890، ظهرت أسس السيناريو، عندما أصدرت ولاية لويزيانا قانوناً يمنع اختلاط السود مع البيض في القطارات والحافلات.
في عام 1892، بعد عامين، بدأ سيناريو آخر، عندما جلس بليسي الأسود في عربة سكة حديدية مكتوب عليها «للبيض فقط». في الحال، اعتقل، وبدأ محاموه ينفذون السيناريو (كانوا هم الذين اشتروا له تذكرة السكة الحديدية).
في عام 1894، وصلت القضية إلى القاضي فيرغسون، قاضى المحكمة العليا في الولاية. وقف مع حاكم الولاية، وأيد قانون التفرقة. وسميت القضية باسمه واسم الزنجي: «بليسي ضد فيرغسون».
في عام 1896، وصلت القضية إلى المحكمة العليا في واشنطن (التي تفسر الدستور). دافع عن الزنجي المحامي تورغي، ودافع عن ولاية لويزيانا مدعيها العام كننغهام.
هذا ما كان عن شخصيات الكتاب من ولاية لويزيانا.
المجموعة الثانية كانت شخصيات واشنطن: قضاة المحكمة العليا، وفي الحقيقة، تجاهل الكتاب سبعة من القضاة، وركز على اثنين:
هنري براون: الذي كتب رأي الأغلبية (ثمانية قضاة): كان قد تربى ودرس وعاش في ديترويت (ولاية ميشيغان)، قبل أن يصعد إلى المحكمة العليا. وعرف بعدائه للزنوج، ليس فقط في قراراته القانونية، ولكن، أيضاً، في حياته الخاصة.
كتب الآتي، مبرراً قانون ولاية لويزيانا عن التفرقة العنصرية في القطارات والحافلات: «تأكيد الانفصال (بين البيض والسود) لا يعني الإعلان عن الدونية (دونية السود). إنه ببساطة يعني تنفيذ ترتيبات إلهية تفرق بين الناس حسب أعراقهم. لهذا، يجب على السلطة البشرية ألا تجبر هذه الأجناس المنفصلة على الاختلاط».
القاضي الثاني في المحكمة العليا، الذي ركز عليه الكتاب، هو جون هارلان، الوحيد الذي اعترض. ومن المفارقات أنه كان، في شبابه، أكثر عنصرية من خصمه براون. لكنه، قبل سنوات قليلة من إصدار القرار، تغير كثيراً.
كان قد عارض قرار الرئيس أبراهام لنكون تحرير الرقيق. وأيد دعم الاسترقاق؛ لكن بعد انتخاب الرئيس غرانت (عام 1868)، أصبح مؤيداً قوياً لحقوق الزنوج.
ومن المفارقات، أيضاً، أنه كان أكثر تديناً من خصمه براون، الذي اعتمد على الكتاب المسيحي المقدس لتبرير التفرقة ضد الزنوج.


مقالات ذات صلة

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي
يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية

منى أبو النصر (القاهرة)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».