أجسامنا «مليئة بالكهرباء»... هل تساعدنا في محاربة السرطان؟

للوهلة الأولى يتبادر للذهن أن الكهرباء والجسم البشري بعيدان تماما عن بعضهما، لكن مثلما تدعم الإشارات الكهربائية شبكات الاتصالات في العالم، ينطبق ذات المفهوم على أجسامنا، فالكهرباء الحيوية أو الكهروبيولوجيا bioelecticity هي كيفية تواصل الخلايا مع بعضها البعض في الجسم البشري. وبفضل التقنيات الحديثة لقياس الكهرباء في الخلية أي الكهرباء الخلوية يمكن تفسير أو رصد واعتراض، أو إعادة توجيه، إشارات الاتصال هذه. وهناك تطبيقات واعدة بل وصادمة بشكل خاص لإصلاح الجسم عندما يحدث خطأ سواء بسبب الصدمات النفسية أو العيوب الخلقية أو السرطان.
- كهرباء الجسم
الكهرباء الحيوية هي ليست نفس الكهرباء التي نستخدمها في المنزل حيث يعتمد هذا النوع من الكهرباء على الإلكترونات وهي جزيئات سالبة الشحنة تنتقل في تيار كهربائي. لكن جسم الإنسان بما فيه الدماغ يعمل بشكل مختلف تماما إذ أن حركة الأيونات الموجبة الشحنة هي غالبا لعناصر البوتاسيوم والصوديوم والكالسيوم. وهي الطريقة التي تنتقل بها جميع الإشارات بين الدماغ وكل عضو في الجسم وكذلك عوامل الإدراك والحركة والمعرفة، وهو أمر أساسي لقدرة الإنسان على التفكير والتحدث وحتى المشي. وتبين أيضا أنها تلعب دورا كبيرا في كيفية إخبار خلايا الجسم لبعضها البعض بأن الأنظمة التي تقيم فيها صحية أم لا.
لم تكن هذه المفاهيم واضحة تماما، فمثلا قدم الطبيب لويس لانغمان في العشرينات من القرن الماضي في نيويورك لمرضاه من النساء تشخيصا غير عادي للسرطان حيث استخدم قطبين أدخل أحدهما في المهبل والآخر على سطح العانة وقد سمحت له هذه الطريقة قياس التدرج الكهربائي بين عنق الرحم والجدار البطني، فإذا كان هناك اختلاف في التدرج تستدعى المرأة لإجراء عملية فتح البطن لمعرفة ما إذا كانت شكوكه مبررة. كانت تلك التقنية فعالة بشكل مدهش فمن بين الحالات الـ102 التي كشفت فيها تغيرات واضحة في الجهد الكهربائي تم التأكد من 95 حالة مصابة بالسرطان وتم تحديدها في كثير من الأحيان قبل أن تعاني المرأة من أعراض المرض.
بقيت تلك النتائج غير مفهومة حتى عام 1949 عندما اكتشف الان هودجكين وأندرو هكسلي كيف أن الأيونات تساعد الإشارات الكهربائية للقفز عبر أغشية الخلايا العصبية وعن هذا الإنجاز منحا جائزة نوبل في الطب عام 1963. لم تكن هناك طريقة لدراسة تدفق الأيونات في العديد من أنواع الخلايا الأخرى في الجسم دون قتلها حتى عام 1976 عندما طور ايروين نيهر وبرت ساكمان أداة لمشاهدة الأيونات بصورة فردية تنجرف من وإلى الخلايا العصبية وقد استخدما تقنية تعرف باسم «باتش كلامب» Patch Clamp»»لكشف القنوات التي تسمح للأيونات بالعبور عبر أغشية الخلايا وهي تقنية مختبرية في الفيزيولوجيا الكهربية تستخدم لدراسة التيارات الأيونية في الخلايا الحية وقد نالا جائزة نوبل في الطب عام 1991 على هذا العمل.
- تحت الجلد
كانت الخلايا الجلدية أول ما جلب انتباه العلماء إذ أنها تولد مجالا كهربائيا عند إصابتها لكن قياس هذا التيار كان صعبا جدا لغاية السنوات الماضية، والأجهزة الحساسة التي كانت تستخدم لكشف تدفق الأيونات داخل وخارج الخلايا لن تعمل على بيئة جافه مثل الجلد، . لكن في عام 2012 ابتكر ريتشارد نوتشيتلي جهازا لا ينطوي على ثقب الجلد أو دخول آخر إلى الجسم ويسمح بمراقبة تيارات الإصابات البشرية. ولاحظ أن تلك التيارات ترتفع عند الإصابة وتتراجع عند التئام الجرح ثم تعود إلى الثبات عند الشفاء التام للجرح.
ومن المثير للاهتمام أن شدة تيار الجرح تنخفض مع تقدم العمر حيث تكون الإشارة في الأعمار 25 سنة فما دون، ضعف تلك التي تصدر في العمر 65 وأكثر. وقد أدت تلك النتائج إلى زيادة الاهتمام باستخدام كهربائية الجسم الطبيعية لتسريع أو تحسين التئام الجروح. في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 وجدت آن راجنيسك من جامعة أبردين في المملكة المتحدة أنها لو استخدمت عقاقير لمنع تدفق أيونات الصوديوم وبالتالي قطع الإشارات الكهربائية المرسلة من تيار الجرح في الفئران فإن الجروح سوف تستغرق وقتا أطول لكي تلتئم.
تشير التجارب الحديثة إلى إمكانية استخدام التحفيز الكهربائي في علاج أكثر أنواع الجروح شيوعا مثل قرح الفراش التي تستغرق وقتا طويلا للشفاء. وخلصت التحاليل الحديثة إلى أن تضخيم التيار الطبيعي للجرح بالتحفيز الكهربائي حال دون تفاقهما بل إن أسوأها شفي تماما. وبالمثل تم الحصول على نتائج مثيرة للاهتمام حول جروح داء السكري المزمنة وهو النوع الذي يؤدي إلى بتر الأطراف والتي عادة ما تؤدي إلى الوفاة خلال بضع سنوات. ويمكن أن يسرع نفس النوع من التحفيز الكهربائي الشفاء في كسور العظام الأمر الذي يكون ذا صلة بعلاج هشاشة العظام أو حتى منعه.
- تطويرات واعدة
باشرت العديد من المختبرات والشركات الخاصة إلى إنتاج ضمادات الجروح البيولوجية من البوليستر أو مواد أخرى مشبعة بالفضة وعوامل أخرى نشطة بيولوجيا يتم تنشيطها بسائل الجرح لتنظيم التيار الطبيعي في الجرح. وفي العام الماضي طور فريق أميركي - صيني مشترك من جامعني ويسكونسن وهوا تشونغ، مولدا ثانويا يمكن ارتداؤه ويمكن إدخاله في تصميم الضمادة لتعزيز الحقل الكهربائي من خلال الحركات اليومية لمرتديه. جاءت النتائج مشجعة حيث إن الجرذان التي ارتدت تلك الضمادات التأمت جروحها في ثلاثة أيام بينما احتاجت الجرذان التي لم ترتدِ الضمادات إلى 12 يوما لالتئام الجروح.
قد يكون من الممكن أيضا تعزيز تيار الجرح بدون تحفيز كهربائي بالنسبة للجروح التي لا يمكن فيها استخدام الكهرباء أو الضمادة مثل جروح العين وقد أظهر الباحث من زهاو من جامعة كاليفورنيا في ديفس أن التمزقات في القرنية تلتئم بسرعة أكبر عندما يتم التلاعب بقنوات أيونية معينة عن طريق قطرات عين بسيطة لزيادة حجم تيارات الجرح أي كهرباء بيولوجية بدون كهرباء فعلية.
- العلاقة بين السرطان والكهرباء
> بدأ ينظر للسرطان على أنه فشل في التواصل. وقد أطلق عليه اسم «الجرح الذي لا يشفى». وعلى سبيل المثال وجد هناك تشابه كبير في عملية تشكل أوعية دموية جديدة عندما تلتئم الجروح وفي عملية تحول الخلايا إلى ورم خبيث. وهناك تغيرات في الإشارات الكهربائية في كلتا الحالتين والفرق هو أنه في السرطان لا تتوقف الإشارات أبدا. وبسبب فشل التواصل بدأت الخلايا تنسى أنها جزء من نسيج متكامل أكبر ولذا تعامل بقية الجسم كبيئة يمكن استغلال مواردها لإطعام نفسها. هذا انحراف كبير عن وجهة النظر السائدة التي سادت على مدى عقود أن ما يحول الخلية السليمة إلى خلية سرطانية هو ببساطة تراكم الأضرار الجينية أو ما هو معروف بالطفرات.
نشر مايكل ليفين Michael Levin بحثا عام 2019 في مجلة Physical Chemistryمن جامعة تفتس في الولايات المتحدة، وكان أول من تساءل عما إذا كان عجز الخلية عن التواصل بشكل طبيعي مع بقية أجزاء الجسم له صلة بسلوك السرطان. وهناك أدله متزايدة على ذلك فالحقول الكهربائية الناتجة من ضخ الأيونات عبر الجلد أو أنسجة الأعضاء ترسل إشارات إلى الخلايا لبدء الهجرة وهو الأمر الحاسم في انتشار السرطان في الجسم.
كما حقق مصطفى جامغوز Mustafa Djamgoz من جامعة إمبريال في لندن في البحث الذي نشر في 2019 في مجلة Prostate Cancer Prostatic Disease في دور نوع معين من قنوات الصوديوم في سرطان الثدي وسرطان البروستاتا حيث تتكاثر هذه الخلايا ما يجعلها أكثر نشاطا كهربائيا من آليات التحكم الطبيعية في الجسم ثم تبدأ بغزو الأنسجة الأخرى، وهكذا ينتشر السرطان. أضاف جامغوز أن تثبيط قنوات الصوديوم باستخدام عقار يمكن أن يوقف الورم الخبيث في الفئران المصابة بسرطان البروستاتا وقد تم بالفعل تقديم براءة اختراع لإعادة استخدام حاصرات قنوات الصوديوم ذات الجهد الكهربائي كأدوية مضادة للانتشار.
ما أصبح واضحا في العقد الماضي هو إمكانية التنصت على الاتصالات وتوسيعها واعتراضها. وفي العقد القادم يمكن إحراز تقدم سريع إذا تمكن الباحثون من جذب الانتباه إلى فكرة أن في جسم الإنسان على الأقل توجد جوانب كهربائية بقدر ما تكون كيميائية أو ميكانيكية. وبدأ الباحثون بسد الفجوات بين التخصصات مثل الفيزياء الحيوية أو الهندسة أو البيولوجيا الجزيئية.
وبعد ما يقرب من قرن من الإهمال والركود وصل علم الكهرباء الحيوية أخيرا إلى نقطة تحول جوهرية وخلال العشر أو العشرين سنة القادمة سوف يتحقق الحلم في استخدام هذه الرؤى لتحديد الخصائص الكهربائية للأنسجة البيولوجية بنفس الطريقة التي يتم فيها تحديد أساسها الجيني.