ابن سيد نصير: والدي اختار الإرهاب بدلا عني

يروي قصته معه منذ كان صغيرا

ابن سيد نصير: والدي اختار الإرهاب بدلا عني
TT

ابن سيد نصير: والدي اختار الإرهاب بدلا عني

ابن سيد نصير: والدي اختار الإرهاب بدلا عني

صدر هذا الأسبوع كتاب «ابن الإرهابي: قصة اختيارات» الذي كتبه زكي إبراهيم، ابن السيد نصير إبراهيم، الأميركي المصري الذي قتل في عام 1990، في نيويورك، الحاخام مائير كاهان، زعيم عصبة الدفاع اليهودي المتطرفة، ومؤسس حزب «كاخ» الإسرائيلي المتطرف، وعضو الكنيست الإسرائيلي.
اليوم، بلغ عمر الابن 30 عاما تقريبا، وعلى الطريقة الأميركية، اختصر اسم زكي السيد نصير إبراهيم إلى «زاك إبراهيم»، وأيضا، تهربا من اسم «السيد نصير»، واليوم، بلغ عمر والده 60 عاما تقريبا، وهو يقضي حكما بالسجن المؤبد في سجن ماريون (ولاية إلينوى).
حقيقة، الحكم هو السجن مدى الحياة زائد 15 عاما.
وكان حكم سابق قد برأ نصير من قتل الحاخام اليهودي، إذ ارتأت هيئة المحلفين عدم وجود أدلة كافية تثبت دور نصير المباشر، وكان القتل وقع في فندق «ماريوت»، في مانهاتن، في قلب نيويورك، بعد أن أكمل كاهان خطبة حماسية متطرفة كعادته، وسط عدد كبير من اليهود.
حتى اليوم، لم تثبت تفاصيل ما حدث، وذلك لأن زوبعة، وضجة، وإطلاق نار حدث لحظة انتهاء كاهان من خطبته، وتبادل نصير إطلاق النار مع شرطي كان موجودا، وأصيب نصير بطلق ناري في رقبته، نقل على إثره إلى المستشفى.
ونشرت حينها صحيفة «نيويورك بوست» عنوانا كبيرا يقول: «هيئة محلفين من العالم الثالث تبرئ زميلا لها».
ويعتقد أن خطة محامي الدفاع ويليام كانتسلار، ومساعده رونالد كوبي (الاثنان يهوديان) كانت سبب تبرئة نصير من تهمة القتل، وذلك لأنهما تجنبا أي إشارة إلى الجانب السياسي في الموضوع، وتحاشيا المشكلة بين العرب واليهود، خصوصا في نيويورك؛ حيث النفوذ اليهودي كبير جدا، ركز المحاميان على الزوبعة التي حدثت، وتبادل إطلاق النار، ودفاع نصير عن نفسه أمام الشرطي المسلح، وأن رصاصات قتل الحاخام لم تكن متعمدة.
في ذلك الوقت، حوكم نصير بالسجن 7 سنوات لحيازته بندقية من دون رخصة، ولإطلاقه النار على شرطي.
لكن، من داخل السجن، اشترك نصير في التخطيط لتفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.
ولكن كانت هناك محاولة عام 1993، حين وضع الجناة متفجرات في مرأب المبنى فانفجر، وقتل عددا من الناس، لكن لم ينهر المبنى كما توقع الجناة.
لهذا، حكم نصير بالسجن المؤبد زائد 15 عاما، وفي ذلك الوقت حوكم معه عمر عبد الرحمن، الشيخ المصري الأعمي، والذي، أيضا، يقضى حكما بالسجن مدى الحياة في سجن باتنار (ولاية نورث كارولينا)، وأيضا، محمود أبو حليمة، الذي لقبه الصحافيون الأميركيون باسم «محمود ذا ريد» (محمود الأحمر)، وكذلك باسم «عشيق الشقراوات الألمانيات»، وذلك لأنه هاجر من مصر إلى ألمانيا، وتزوج 3 ألمانيات، واحدة بعد الأخرى، وجاء مع الثالثة إلى نيويورك؛ حيث طلب اللجوء السياسي بسبب انتمائه لمنظمة الجماعة الإسلامية التي كان يطاردها نظام الرئيس المصري السابق، حسنى مبارك (بعد مواجهات مسلحة استهدف فيها الإسلاميون مناطق سياحية في صعيد مصر).
وولد السيد نصير في بورسعيد.
وولد زاك إبراهيم في بتسبيرغ (ولاية بنسلفانيا)، ووالدته هي المدرسة الأميركية كارين ميلز، التي تزوجها والده نصير، المهندس المهاجر من مصر، بعد 10 أيام فقط من أول لقاء، بعد أن اعتنقت الإسلام، وقالت إنها كفرت بديانة أهلها الكاثوليك (كما جاء في كتاب الابن).
لكن الابن يختلف عن والده وزملاء والده، كما هو واضح في كتابه، اختلافا أساسيا، إنه يعد نفسه ثقافيا جزءا من الجيل الأميركي الجديد، المنفتح عالميا، وهو يستخدم هذا العبارة دائما حتى قبل صدور كتابه، كما في المحاضرات التي يلقيها.
وهكذا، جاء الكتاب غير عادي: ابن يقول إن والده إرهابي، وقاتل. ويصف حياته منذ أن ارتكب والده جريمة القتل، وكان عمره 7 أعوام.
وجاء في الكتاب أنه، بعد أن دخل والده السجن، طلقت والدته والده، وتولت رعايته، مع شقيقه، وأختهما (من زواج أميركي سابق). وهروبا مما حدث، انتقلوا من مكان إلى آخر. وقال إنه، في أحيان كثيرة، كان يدخل فصلا جديدا في مدرسة جديدة كل عامين أو 3 أعوام، وإنهم قضوا 20 سنة بلا مكان مستقر. استقروا، أخيرا، في ولاية فلوريدا. وبقدر ما يلوم والده، يثني على والدته الأميركية، وعلى قدرتها على رعايته وشقيقه وأختهما، وعلى حسن تربيتها لهم، ومحاولتها أن ينسوا ما فعل والدهم.
يكتب في الكتاب: «واجهت قصصا لا حدود لها، أنا ابن الإرهابي».
لكن، يسجل آراء جديرة بالنقاش، ومنها قوله: «ليس صحيحا القول إن الإرهاب سببه الكراهية»، وإن «الكراهية اختيار، لا تربية».
وطبعا، برهن على النقطة الثانية بنفسه هو، فقد كان يمكن أن يكون كارها، لكنه صار متسامحا.
وهو يرى أيضا أن الإرهابي لا يكون إرهابيا لأن شخصا «غسل مخه»، أو لأن شخصا «خدعه»، ولكن لأنه «يريد أن يكون»، وذلك «بقدرته على جمع عقائد متعددة، تبدو متناقضة أحيانا، تجعله قادرا على إقناع نفسه بأنه يعمل من أجل العدل والسلام، وليس لأنه يؤمن بالإرهاب والعنف».
وأضاف: «بصرف النظر عن التربية، يستطيع أي شخص أن يصل إلى عاطفة التسامح في أعماقه، ويكون متسامحا».
ومن القصص التي يرويها في الكتاب، يذكر أنه بعد منتصف ليلة، وعمره 7 سنوات أيقظته والدته، وكان يرتدي بيجامة عليها رسومات كرتونية لشخصيات سلحفات «نينجا»، وقالت له: «حدث شيء هام، انظر إلى عيني يا زي، يجب أن تغير ملابسك سريعا، لأننا يجب أن نخرج من هنا سريعا».
استغرب، لأن والده هو الذي، عادة، يوقظهم في الصباح الباكر ليصلوا صلاة الفجر.
فعلت الوالدة الشيء نفسه مع شقيقه، ومع أخته، وسارعت وأغلقت التلفزيون الذي كان يتحدث عن أخبار هامة وخطيرة: قتل شخص هام في فندق «ماريوت» في مانهاتن، في قلب نيويورك، وجرح آخرون، منهم عربي مسلح، جرح برصاصة في رقبته (السيد نصير)، ونقل إلى المستشفى.
طبعا، في ذلك الوقت، لم يقدر الصبي ذو الـ7 أعوام على تقييم ما حدث، ولم يكن في عقله الصغير معلومات كافية ليقيّم ما حدث، ويعلق عليه.
لكنه، وهو الآن في الـ30 من عمره، علق:
أولا: «في تلك الليلة، قرر والدي أن يختار الإرهاب بدلا عنى، وعن بقية عائلتي».
ثانيا: «في تلك الليلة، صار والدي أول إرهابي إسلامي يقتل شخصا على الأرض الأميركية».
لكن وصف والده أيضا بأنه «طيب، وصاحب نكته».
وذكر في نهاية الكتاب أنه لم يزر والده في السجن أبدا، وقبل سنوات، بادر الوالد واتصل به من السجن بالبريد الإلكتروني، وعندما أرسل الابن له رسالة عن «جريمة القتل»، نفي الأب الجريمة، ودخل في مناقشات عقائدية، وسياسية، ودينية، لتبرير ما حدث.
يكتب الابن في نهاية كتابه: «أظل أحس بشيء ما نحوه، إنه، رغم ما حدث، والدي، أحس نحوه بشيء من العطف والذنب، لكن، أهم من ذلك، أحس بأنني لم أعرف والدي أبدا معرفة حقيقية».



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»