حين تطبق السلطات على صدور الناس وبطونهم

تصدر قريباً رواية «تاريخ العيون المطفأة» لنبيل سليمان

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

حين تطبق السلطات على صدور الناس وبطونهم

غلاف الرواية
غلاف الرواية

عن دار «مسكيلياني» بتونس تصدر قريباً رواية «تاريخ العيون المطفأة»، للروائي السوري نبيل سليمان. وهنا مقتطفات وافية من الفصل الأول: كان، لا ما كان، وغير الله ما كان
كان في حاضر العصر والأوان بلاد حباها الله من نِعَمه، وأنعمت عليها الطبيعة من آلائها، فلو لم يكن فيها إلا النهر الصغير والصحراء المذهّبة لما كفاها فقط، بل لفاض عنها إلى ما جاورها من البلاد وما نأى، مثلها مثل بلاد سمّوها بر شمس وبلاد سمّوها كمبا، ولا يعلم إلا الله سرّ هذين الاسمين، ومثلهما سرّ اسم قمّورين.
لكنّ نِعمَ الله وآلاء الطبيعة على بر شمس وكمبا مختلفة. فللأولى البحر الذي ليس مثله بحر، وبخاصة فيما يكنز، ليس من أصناف الكائنات فقط، بل من الغاز والنفط أيضاً. ولكمبا ما لا يبلغه بصر من الغابات التي أتى على أكثرها أبناء كمبا في أقل من مائة سنة. ولكن ظل لها من النِعمَ والآلاء في ظاهر الأرض وباطنها، ليس ما يكفيها فقط، بل يفيض عنها إلى ما جاورها من البلاد وما نأى: هضاب ووديان وسواقٍ، وعروق الذهب والألماس، والمياه المعدنية التي تشفي من العلل كافة، ما عدا علّة واحدة هي: البصر.
نعم، يا سادة يا كرام، البصر هو العلة، وليس العمى.
ويقول الراوي: يا سادة يا كرام، هذه البلدان الثلاثة قد ابتليت منذ حين غير قصير من الزمن بداء من بعد داء، منها ما كان يتسلل إليها أو ينقضّ عليها من البحار ومن السماء، ومنها ما كانت المقابر - مثل التاريخ - تطلقه، ومنها ما كانت دخائل البشر تتفجر به. وقد يتحد داءٌ بداء، وقد يتعايشان، وقد يتصارعان، بينما البلدان، كل البلدان، ما عاد يهنأ لها عيشٌ سنة حتى يتعلقم سنوات. وبلغ الأمر بها أن خاضت الحروب كلٌّ ضد الأخرى، حتى باتت من أكبر دمامل العالم، ومن أكبر سخرياته.
ويقول الراوي: يا سادة يا كرام، صدق من قال، وما أصدق الأمثال: لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس، فقد نبغ من هذه البلدان الثلاثة نابغون ونابغات، وإن كان أغلبهم هاجر إلى مختلف أصقاع هذا الكوكب، وبخاصة في العقود الأخيرة التي أطبقت فيها السلطات على صدور الناس وبطونهم، فالأمر لا يتعلق فقط بهذا الذي يُسمى حرية وكرامة، بل بلغ حد اللقمة وحدّ الرقبة، فلا لقمة ولا رقبة والعياذ بالله.
وإلى ذلك كله، لم تعدم هذه البلدان العجائب والغرائب والخوارق، مما تسميه ألسنة أخرى: الفانتاستيك. وليس ما أخذ يضرب هذه البلدان في السنوات الأخيرة من داء البصر، أي العمى، إلا خير - أو شرّ - مثال على الفانتاستيكية. وما هو أحدث، بل وأطرف، من هذا المثال ما طلعت به الأيام الأخيرة، وأوله هو أن عيد النصر في قمّورين قد وافق هذه السنة عيد الثورة في بر شمس، وعيد الأعياد في كمبا. وهذا العيد الكمباوي هو أيضاً عجيبة من العجائب، إذ لا يُعرف بالضبط ما إذا كان عيد النصر وعيد الثورة مجتمعين، أم هو جُماع أعياد أخرى، سواء أكانت كمبا تنفرد بها، أم هي من عيدي جارتيها أو شقيقتيها أو عدوتيها: بر شمس وقمّورين، إذ إن للعلاقة بين هذه البلدان أسماء رجراجة ومتناقضة ومتحولة. أما الأعياد التي قد تكون توحدت في عيد كمبا، عدا عن عيدي النصر والثورة، فربما كانت عيد التحرير وعيد الاستقلال وعيد الشهداء وعيد الشقشقة. والعيد الأخير يعني شقشقة الفستق الناضج في الليالي المقمرة.
قلنا: يا سادة يا كرام، إن عجيبة هذه الأيام هي أن الأعياد الكبرى للبلدان الثلاثة قد توافقت تقريباً، أي لم يفصل بين عيد وآخر أكثر من أربعين يوماً. ولكن ليس هذا التوافق إلا الحرف الأول من العجيبة، أما تمامها فهو ما بدأ في قمّورين، عندما بكّر الناس إلى جامع قمورين الكبير، ليتبركوا بمشاهدة الرئيسة، وليصطفوا خلفها وخلف أركان الحكومة الذين يحتلون عادة الثلث الأمامي من الجامع. ففي ذلك الصباح الذي كلّل فيه الندى حتى أشعة الشمس، وقفت السيارة الرئاسية أمام الباب الكبير المرصّع، ونزلت منه صورة متوسطة الحجم للرئيسة، وألقت الصورة على الناس التحية، ورد الناس التحية بأحسن منها، ومنهم من بُهت، ومنهم من ما زال ينتظر نزول الرئيسة من السيارة، وإذا بالصورة تتقدم بأبهة، يحفّ بها كالعادة في كل ظهور: ابنها وقائد الحرس ومفتي البلاد وبطرك البلاد وحاخام البلاد، وخلفهم رئيس الوزراء ورئيس البرلمان وجمهرة تتدافر من الوزراء والضباط والنساء اللواتي لا يُعرف سبب وجودهن في هذا المكان وفي هذا الوقت. وحين بلغت الصورة المحراب توقفت، وأمر المفتي الذي تولى الإمامة بتسوية الصفوف، وبدأت الصلاة بينما وقف البطرك والحاخام على يسار الصورة يتفرجان مثلما تتفرج الصورة تماماً.
قال الراوي: يا سادة يا كرام، أُقسم بالخُنّس الجواري الكُنّس، والليلِ إذا عسعس، والصبحِ إذا تنفّس، وبسورة التكوير كلها، أن الناس أقبلوا يهنئون الصورة بالعيد، وهي تمنحهم بسمتها. وعندما اختفت البسمة من ملل أو رهق، عادت الصورة إلى السيارة الرئاسية، فلم يتمكن نصف المصلين على الأقل من تقديم التهنئة.
وقال الراوي: يا سادة يا كرام، من عادة الاحتفال بالعيد أن يتلقى التهنئة الوزير في الوزارة، والقائدُ العسكري في الثكنة، ورئيسة اتحاد الطلبة في الجامعة، و...، ولكنّ كل ذلك يجري بعد انتهاء الاحتفال الرئيس الذي تحضره الرئيسة. غير أن العادة اضطربت في هذا العيد، إذ التاص كثيرون، وعلى رأسهم رئيس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس اتحاد الشغيلة، في أن يُحِل كلٌّ منهم صورة له محله، أسوة بالرئيسة. وما زاد اللوصان أن أحداً لم يستعدّ بصورة كبيرة وملونة ومضاءة، ليس من أجل أن تليق بالمناسبة، بل من أجل أن تليق بتقليد صورة الرئيسة. وقد أعقب احتفالَ قمورين احتفالُ بر شمس، فحلّت صورة الأمين العام للهيئة القيادية العليا محلّه. والحق أنها حلت محل من كان يمثله أو من كانت تمثله في أي ظهور عام في السنوات الأخيرة، بدعوى شيخوخته، بل وخرفه، بل وذهاب بصره، كما تبارت الشائعات وتضاربت. لكن الجديد والمفاجئ في هذا العيد أن كل ذي شأن، ممن يلي شأنهم شأن الأمين العام إلى مديري ومديرات رياض الأطفال ودور العجزة والمسنين، كانوا قد أعدوا للعيد عدّته من الصور الكبيرة والملونة والمضاءة، وهذا ما تفوقت به بر شمس على قمورين وعلى كمبا، كما تناقلت وكالات الأنباء قبل أن يطوي العيد نهاره.
أما كمبا، وما أدراك ما كمبا، وهي البلاد التي انقلب فيها الأخ على أخيه، والابن على أبيه، والحفيد على جده، والصديق على صديقه، وكل ذلك كان في انقلابات عسكرية أقل أو أكثر دموية، منذ الاستقلال عن بريطانيا، ثم جلاء فرنسا، ثم التحرر من روسيا، إلى هذا العيد. وقد تشبهت كمبا خلال العقود الطويلة والانقلابات الكثيرة مرة بالملكية، ومرة بالسلطانية، وفي كل مرة بالجمهورية. لذلك سمّاها كتّابٌ كُثُرٌ مرة بالجملكية ومرة بالجمطانية، كما جاء في روايات شتى. ومن هنا صار لكمبا في السنوات الأخيرة عيد الجلوس.
وقد علّل المعلّلون ذلك بأن كمبا قد ودعت أخيراً عهد الانقلابات، لذلك أخفقت محاولتان على الأقل للانقلاب على الانقلاب الأخير. أما سرّ هذا الاستقرار فمنهم من يراه في ملل وتعب البلاد من الانقلابات، أو في دهاء وشراسة قائد الانقلاب الأخير، الذي صار يعرف بالقائد دون أي لقب آخر، عدا عن تشعّب ومتانة علاقاته الإقليمية والدولية، حتى قيل إنه يهودي وماسوني في آنٍ معاً، والله أعلم.


مقالات ذات صلة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
يوميات الشرق زينة صالح كيالي تسلط الضوء على موسيقيات من لبنان (المؤلفة)

زينة صالح كيالي لـ«الشرق الأوسط»: الجمهور اللبناني لا يعترف بموسيقييه الكلاسيكيين

هجرتُها إلى فرنسا عام 1987 وفَّرت لها اكتشاف أهمية الموسيقى في تكوين شخصية الناس. وهناك اطّلعت من كثب على الهوية الوطنية للتراث الموسيقي اللبناني...

فيفيان حداد (بيروت)

حسن المطروشي وميثم راضي وناصر الحمادين يحصدون ملايين «المعلقة»

الفائزان بجوائز «المُعلَّقة» في فئة في فئة الشعر الفصيح
الفائزان بجوائز «المُعلَّقة» في فئة في فئة الشعر الفصيح
TT

حسن المطروشي وميثم راضي وناصر الحمادين يحصدون ملايين «المعلقة»

الفائزان بجوائز «المُعلَّقة» في فئة في فئة الشعر الفصيح
الفائزان بجوائز «المُعلَّقة» في فئة في فئة الشعر الفصيح

فاز الشاعر العماني حسن المطروشي بالمركز الأول في مسابقة «المعلّقة» الشعرية، في فئة «الشعر الفصيح»، كما فاز الشاعر العراقي ميثم راضي بالجائزة الأولى في المسابقة فئة «قصيدة النثر»، وفي فئة «الشعر النبطي» فاز بالجائزة الأولى الشاعر ناصر الحمادين، وقيمة الجائزة الأولى في كل فئة مليون ريال سعودي.

جاء إعلان الجوائز في حفل ختامي أُقيم، مساء الأربعاء، لمسابقة «المعلقة» التي تنظمها هيئة الأدب والترجمة بوزارة الثقافة السعودية.

كما فاز بالمركز الثاني في فئة «الشعر الفصيح» الشاعر السعودي إياد الحكمي، وحصل على المركز الثالث الشاعر فايز ذياب. وقيمة الجائزة الثانية نصف مليون ريال، وأما الجائزة الثالثة فقيمتها 250 ألف ريال.

وفي فئة «قصيدة النثر» حصل الشاعر العراقي ميثم راضي على الجائزة الأولى وقيمتها مليون ريال. كما حصلت الشاعرة المغربية سكينة حبيب الله على الجائزة الثانية ومقدارها نصف مليون ريال.

وفي فئة الشعر النبطي فاز بالجائزة الأولى الشاعر ناصر الحمادين وقيمتها مليون ريال، بينما حصل على المركز الثاني الشاعر فارس السميري، وقيمة الجائزة نصف مليون ريال.

وبالإضافة إلى القيمة المالية للجائزة، فإن القصائد الفائزة يتمّ تعليقها في موقع مميز بالعاصمة السعودية الرياض.

الفائزان بجوائز «المُعلَّقة» في فئة قصيدة النثر

عضو لجنة التحكيم الشاعرة فوزية أبو خالد، قالت عن قصيدة الشاعر العماني حسن المطروشي الفائزة بالمركز الأول في فئة الشعر الفصيح: «إن تجربة حسن المطروشي تُظهر أن شاعراً واحداً لا يكفي لكتابة القصيدة، ولا يستطيع أن يحمل وزرها وحده، كما لا يستطيع أن يحمل شعلة الشعر واحدٌ فقط، لذلك يحملها حسن المطروشي حريقاً وليست شعلة فحسب تحت جناحيه وهو يقدّم لنا عدة شعراء في شاعر، كأن حسن المطروشي انتزع من روبرت ستيفنسون شرارة الدكتور جيكل ومستر هايد ونفخ فيها همه وإلهامه الشعري وكتب فيها قصيدته الخاصة بعناصر التداخل والتشظي بين عابرين على حافة الليل».

أما عضو لجنة التحكيم الشاعر عارف الساعدي، فقال إن المطروشي يمثل الشعرية العربية، وأشاد بإصراره على «قصيدة التفعيلة بهذه الجمالية، ونحن نعرف مَن حسن المطروشي في العمود»، وأضاف: «لكن أن يستثمر هذه الشعرية في قصيدة التفعيلة فهذا يُحسب للحداثة ونتاجاتها».

وقال الساعدي: «شعرتُ أن في نصّ المطروشي الفائز (قصيدة كونية)»، وأضاف: «لو ترجمّ هذا النصّ لتقبلتْه كل اللغات لأن فيه بلاغة الواقع، واليومي، وثقافة حسن المطروشي في استدراج الثقافات العالمية وموقفه من الحياة».

الفائزان بجوائز «المُعلَّقة» في فئة الشعر النبطي

وبعد اختتام الموسم الأول من «المعلقة» التي فاز بالمركز الأول فيها ثلاثة شعراء هم: جاسم الصحيح «عن فئة الشعر الفصيح»، وصالح النشيرا «عن فئة الشعر النبطي»، ومحمد التركي «عن فئة الشعر الحر»، جاء الموسم الثاني أكثر تنوعاً وإثارةً في ظل التنافسية العالية والمستوى الشعري المُقدّم من المشاركين، حيث امتدت المسابقة الشعرية أكثر من شهر وتنافس فيها 36 شاعراً من نخبة الشعراء العرب.

فإلى جانب التنافس على ثلاث فئات شعرية هي: الفصيح، والحر، والنبطي، شهد هذا الموسم إضافة جديدة إلى لجنة تحكيم الشعر النبطي، وهو الشاعر حامد زيد الذي انضم إلى بقية أعضاء اللجنة، وهم: سفر الدغيلبي، وفهد عافت لمراجعة وتقييم الأداء الشعري للمشاركين. أما فئتا الشعر الفصيح والحُر فتضمان في لجنة التحكيم كلاً من الدكتور عارف الساعدي، والدكتورة فوزية أبو خالد، ومحمد إبراهيم يعقوب.

الجدير ذكره أن مسابقة «المعلّقة» تهدف إلى الاحتفاء بالشعر والشعراء، وذلك انطلاقاً من حرص وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية على دعم كل ما يتعلق بالمجال الشعري في المملكة والعالم العربي، حيث يأتي برنامج «المعلّقة» بالتعاون مع وزارة الثقافة ممثلةً في هيئة الأدب والنشر والترجمة، والقناة الثقافية المتخصّصة، كما تتيح المسابقة مشاركة المواهب الشعرية الشابة من مختلف أنحاء الوطن العربي، وإلقاء قصائدهم، وخوض المنافسات الشعرية على الشاشة.