الرواية... وسحر اللغة

التقريب بين فصاحة اللغة وشعبية العامية

الطيب صالح - نجيب محفوظ - فؤاد التكرلي - غائب طعمة فرمان
الطيب صالح - نجيب محفوظ - فؤاد التكرلي - غائب طعمة فرمان
TT

الرواية... وسحر اللغة

الطيب صالح - نجيب محفوظ - فؤاد التكرلي - غائب طعمة فرمان
الطيب صالح - نجيب محفوظ - فؤاد التكرلي - غائب طعمة فرمان

بالإضافة إلى أثر الرواية في التثقيف وصقل الوعي وتنمية الشعور بالذات والعالم؛ فإن لها أهمية أخرى لا تقل شأناً عما تقدم، وهي تذوق جمال اللغة العربية بإمكانياتها التعبيرية ومتاحاتها التوصيلية، التي بها تعكس الرواية براعة الكاتب في جعل اللغة ساحرة تجذب القارئ محققة له المتعة مع الفهم.
وبالتقريب بين فصاحة اللغة وشعبية اللهجة العامية تتمكن الرواية من أداء دور تثقيفي مهم يقود القراء باتجاه التفاعل مع لغتهم، منتشلة لها من التراجع وناهضة بها حية، يتفاعل معها قارؤها، بلا خشية من تعقد فصيحها ولا فوضى في توظيف عاميها؛ وإنما بتمازج متأن ودقيق بين الفصيح والعامي يضفي جاذبية على مفرداتها، ويعكس حذاقة على استخداماتها في التعبير والتوصيل.
والروائي الجيد هو الذي يعرف كيف يضع في اللفظة الفصيحة شعبية تجعلها متداولة بعمومية لا تضيع فيها فصاحتها، محتفظاً لها بجاذبية قرائية. والنفس عادة ما تأنس لما هو مألوف ولذلك تسحرها الرواية عندما تكون في بعض صيغها ألفاظٌ متداولة في الكلام اليومي، وقد وُضعت في المكان الأنسب لها.
ولقد تنبه كبار الروائيين العرب منذ وقت مبكر إلى فاعلية توظيف العامي في الفصيح، بعد أن ظهرت دعوات إلى الاستعانة بلغة وسطى في كتابة الحوارات الروائية والمسرحية تردم الهوة بين الفصحى والعامية، كدعوة يوسف الخال إلى اللغة المحكية ومشروع هادي العلوي في تعطيل الحركات الإعرابية مستثنياً منها الشعر.
وهذه اللغة الوسطى هي لغة ثالثة جذبت القراء نحو الرواية، التي تحتل اليوم مكانا مهما في عالم الكتابة. وصار لبراعة الكاتب في توظيف اللغة الوسطى سحر خاص يولد لكتاباته السردية في نفس القارئ إحساسا بالانسجام من دون تدنٍ في تذوق العامي ولا تعالٍ في التمتع بالفصيح الرسمي.
والتوسط بين العامي والفصيح في استعمال اللغة العربية لا يعني ضرب القواعد النحوية أو خرق مواضعات البناء التركيبي للجملة العربية، وإنما هو التيسير الذي به يمسك الكاتب العصا من الوسط، فلا هو يوغل في وضع الصيغ المعجمية البالية التي تثقل مزاج القارئ غير المعتاد على قراءة كتب التراث؛ وفي الآن نفسه لا ينزلق كثيراً نحو العامي، فيفرط في أساسيات البناء الفصيح للجملة العربية، من ترتيب الفواعل وتنسيق المفعولات إلى وضعيات الاستعمال الصحيح لحروف الجر وأدوات الربط وحروف النداء والاستثناء وأدوات الأمر والنهي والاستفهام إلى غير ذلك من الوضعيات التي ينبغي أن يعتادها القارئ العادي وهو يقرأ الرواية فيألفها. وإذا ألفها فلن يجد حرجاً في توظيفها في كلامه.
وإذ يضع الكاتب هذه المعادلة التوسطية في باله وهو يصوغ أفكاره في جمل يريد لها أن تكون سلسة ومنسابة تتمتع بالانسجام الكتابي وتتحلى بالجاذبية القرائية، فإنه سيحقق تلقياً فاعلاً لرواياته، يفوق التلقي الذي سوف يحرزه لو أنه راهن على الفصيح وحده أو وضع ثقته في العامي أكثر من الفصيح.
ولا خلاف أن سر الفاعلية في التلقي هو القارئ الذي سيجد في لغة الرواية سحرين: سحر اللغة الفصيحة بجمالية رسوخ فصيحها وعبق التراكم التراثي فيها، وسحر اللهجة العامية ببساطة تلقيها ومعتادية تداولها وهي تمتزج بواقعية مع اللغة الفصيحة، فتغدو معتادة طيعة ويومية. الأمر الذي يعمق الإيهام السردي ويحقق التشويق الذي فيه يتأثر القارئ بعالم الرواية الافتراضي.
وبهذا يكون الروائي قد نجح في توصيل رسالته التثقيفية إلى جانب رسالته الفنية، مزاوجاً بين متانة الألفاظ الفصيحة ويُسر الألفاظ الشعبية، ولا سيما إذا رافقت هذه المزاوجة مرونة في التصوير وبراعة في التخييل. وسيؤدي ردم الهوة التعبيرية في الخطاب الروائي بين اللغة الفصحى واللهجة العامية إلى جعل التعايش بينهما موفقاً على سبيل الاستمتاع.
والكاتب المتمرس يأسر القارئ بالطريقة التي بها يطوّع اللهجة العامية تطويعاً يجذب القارئ إلى الرواية ويشوقه لمتابعتها من جهة، ويحبب اللغة الفصيحة تحبيباً يقربه إليها ويجعله متناغماً مع مفرداتها.
وقد يقول قائل إن الصحافة هي الأجدى بهذا الدور من العمل الروائي؛ وأقول إن ما يهم الصحافة هو الخبر ودرجة التصديق به، وليس التشويق له، ومن ثم تغدو اللغة في الصحافة وسيلة لا غنى عن تسهيلها وتقريبها إلى قاموس القارئ كي تحقق الهدف المبتغى منها، بينما اللغة في الرواية هدف ووسيلة معا، إليها يسعى الكاتب بشتى الأساليب السردية والحوارية، ولا فرق عندئذ بين استعمال فصيحها أو عاميها كما لا اقتصار على اللغة داخل النص أو خارجه ما دامت هي الغاية والوسيلة.
ولا شك أنّ الفارق كبير بين أخبار يراد إيصالها بواقعيتها، وأحداث قصة يراد تلمس جمالياتها، كون الأخبار مهما كانت عاجلة وجديدة؛ فإنها تظل بعيدة عن مقصد التذوق الجمالي، بينما تذوق الجمال هو مطلب الرواية التي تصل إليه بعناصر السرد من الأحداث وزمكانيتها إلى الشخصيات وطرائق صناعتها، متسامية بالفرد عن مادية الواقع، ومتجهة به صوب تخييل الواقع، وقد حطمت القوالب واستجلبت التغيير الذي به يتثقف القارئ بالجديد والمستجد، وعندها تحقق لغة الرواية سحرها، لأن سحر الرواية يكمن في لغتها.
ومن الرائع أن نجد في الرواية الكلمة العامية وقد تفصحت، واللفظة الفصحى وقد تعممت أو تلهجنت بطريقة لا تتنازل فيها عن رسوخ جذرها، لتكون لغة الرواية بالمجموع لغة مفصحة ضمن سياق لغوي مشذب وبطريقة موضوعية لا انحياز فيها لشعبية مبتذلة ومسفة، كما لا انجرار لتعال لغوي يترفع به الكاتب على قارئه ويتعالم عليه بالمفردات الوحشية والألفاظ الغريبة، آتياً بها من واقع سالف، نأت عنه الحضارة المدنية وغادرته الحياة العصرية، حتى غدا استدعاء لغته في عمل فني، مثل الرواية بمثابة مجازفة لن تنجو من كثير من الجمود الذي هو ألد أعداء الكاتب وأشرس مناوئ لفنية الرواية.
ولا يفوتنا القول إن توظيف اللفظ المفصح هو الذي يقلب صرامة الفصيح وتدني العامي إلى غنى، وقد عاضد أحدهما الآخر فغابت عن الفصحى وحشيتها وتخلصت العامية من تدنيها.
وتكون نتيجة ذوبان اللغة العربية الرسمية باللهجة المحلية المحكية في السرد، رواية ما بعد حداثية، تخرق الرسمي بشعبية الهامشي.
وكثير من الأعمال الروائية العربية حازت على الانتشار بسبب قدرة كاتبها على تهذيب لغة السرد بالكلام المفصح، تارة في استدعاء الأمثال الشعبية والأغاني الفولكلورية، وتارة ثانية في التناصات المستلهمة للحكايات التي مؤلفها المجموع الشعبي، وتارة ثالثة في المخزون اللغوي الذي يستدعيه الكاتب من معايشة عميقة لتجربة واقعية فيمزجه بمخيلة شعرية صانعاً معجماً خاصاً به من الألفاظ المفصحة ماسكاً بأطراف الاستعارات والمجازات اللفظية التي هي بمثابة ابتكارات يوظفها لغوياً، فتعطي لعمله خصوصية إبداعية.
وهذا ما فعله روائيون متميزون كانت إبداعية البحث عن مفردات وسيطة تجمع الفصحى الراسخة العتيدة بالعامية النامية المتقلقلة هي السبب في ذيوع أعمالهم وانتشارها بوصفها أعمالاً قريبة من الذوق القرائي العام، كما نجد ذلك في روايات نجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان والطيب صالح وفؤاد التكرلي. وهذا ما يجعل القارئ يساير كيمياء اللغة وسحرها السديمي الخلاب، شاعراً بجمال الكتابة باللغة العربية التي يعتقد كثير من القراء أنها لغة محنطة في فاترينات الفصاحة لا تصلح للتداول اليومي.
ما من لغة آتية من أعماق عصور سحيقة، ظلت مستمرة لا تحبسها قوالب، ولا تقيدها قواعد، متحررة من الجمود والصلابة؛ إلا بفعل الاستخدام الحيوي المواكب لمقتضيات ظروف متداوليها. والرواية واحدة من المجالات التي بها يتمكن الكاتب من مواشجة اللفظ العامي بالفصيح، مولداً كتابته بلغة وسيطة تتخالط فيها مركزية الفصحى بهامشية العامية، فتتحصن الأخيرة بالفصاحة في حين تتدرع الأولى بالشعبية المحببة.



وزير الثقافة السعودي يلتقي مبتعثي «صناعة المانجا» في اليابان

وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)
وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)
TT

وزير الثقافة السعودي يلتقي مبتعثي «صناعة المانجا» في اليابان

وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)
وزير الثقافة السعودي مع عدد من الطلاب المبتعثين وقيادات هيئة الأدب والنشر والترجمة وشركة «مانجا للإنتاج» (واس)

حث الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي رئيس مجلس إدارة هيئة الأدب والنشر والترجمة، السبت، الطلاب المبتعثين في برنامج أسس صناعة القصص المصورة «المانجا» في اليابان، على أهمية التأهيل العلمي والأكاديمي في التخصصات الثقافية للإسهام بعد تخرجهم في رحلة تطوير المنظومة الثقافية في بلادهم.

وأكد الأمير بدر بن عبد الله، خلال لقائه عدداً من الطلاب المبتعثين في مقر إقامته في طوكيو، دعم القيادة السعودية لكل ما من شأنه تنمية القدرات البشرية في المجالات كافة.

ويُقام البرنامج التدريبي بالتعاون بين هيئة الأدب والنشر والترجمة، وشركة «مانجا للإنتاج»، التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان «مسك»، الذي يستهدف موهوبي فن المانجا ضمن برنامج تدريبي احترافي باستخدام التقنيات اليابانية؛ منبع هذا الفن.

حضر اللقاء الدكتور محمد علوان الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة، والدكتور عصام بخاري الرئيس التنفيذي لشركة «مانجا للإنتاج»، وعددٌ من الطلاب والطالبات المبتعثين لدراسة فن المانجا في أكاديمية كادوكاوا، إحدى أكبر الأكاديميات في اليابان، التي تهتم بتدريب واستقطاب الخبرات والمهتمين بصناعة القصص المصورة.

يشار إلى أن البرنامج التدريبي يتضمن 3 مراحل رئيسية، بدءاً من ورش العمل الافتراضية التي تقدم نظرةً عامة حول مراحل صناعة القصص المصورة، تليها مرحلة البرنامج التدريبي المكثّف، ومن ثم ابتعاث المتدربين إلى اليابان للالتحاق بأكاديمية كادوكاوا الرائدة في مجال صناعة المانجا عالمياً.

كما تم ضمن البرنامج إطلاق عدد من المسابقات المتعلقة بفن المانجا، وهي مسابقة «منجنها» لتحويل الأمثلة العربية إلى مانجا، ومسابقة «مانجا القصيد» لتحويل القصائد العربية إلى مانجا، ومؤخراً بالتزامن مع عام الإبل 2024 أُطلقت مسابقة «مانجا الإبل» للتعبير عن أصالة ورمزية الإبل في الثقافة السعودية بفن المانجا.

وتجاوز عدد المستفيدين من البرنامج 1850 متدرباً ومتدربة في الورش الافتراضية، وتأهل منهم 115 للبرنامج التدريبي المكثّف، أنتجوا 115 قصة مصورة، وابتُعث 21 متدرباً ومتدربة إلى اليابان؛ لصقل مواهبهم على أيدي خُبراء في هذا الفن، إضافة إلى استقبال 133 مشاركة في مسابقة «منجنها»، وما يزيد على 70 مشاركة في مسابقة «مانجا القصيد»، وأكثر من 50 مشاركة في «مانجا الإبل».

يذكر أن هيئة الأدب والنشر والترجمة تقدم برنامج أسس صناعة القصص المصورة «المانجا» بالتعاون مع شركة «مانجا للإنتاج»، بهدف تأسيس جيل مهتم بمجال صناعة المانجا، وصقل مهارات الموهوبين، ودعم بيئة المحتوى الإبداعي في المملكة.