تعود قضية المحاصيل المعدلة جينياً، مثل الذرة والبطاطس والطماطم وفول الصويا، إلى الواجهة بعد التحول الملحوظ إلى الأطعمة النباتية، وعزم أكثر من سلسلة مطاعم عالمية على إدخال البرغر النباتي الذي يحتوي على فول الصويا إلى الفروع الدولية، وهو نوع من الأغذية المعدلة جينياً. وسوف تضطر الحكومات العربية - عاجلاً أو آجلاً - إلى أن تتخذ موقفاً من قضية الأطعمة المعدلة جينياً الموجهة للاستهلاك الآدمي، سواء بالمنع أو السماح، ضمن عالم منقسم عليها حتى الآن.
ويتم تعديل المحاصيل جينياً من أجل تعزيز مناعتها ضد المبيدات، وضد الفيروسات والأمراض، ومن أجل رفع قيمتها الغذائية، وأحياناً لتحمل القحط وملوحة التربة. ولكن المخاوف العامة تكون في العادة من نتائج غير متوقعة لمستهلك هذه المحاصيل، وللبيئة بوجه عام، من إدخال جينات إلى نباتات طبيعية، حيث يعتبر البعض أن هذه الأنشطة تعتبر تدخلاً إنسانياً في الطبيعة قد تكون له نتائج كارثية غير محسوبة في المستقبل.
كما يعتبر منتجو المحاصيل الغذائية أن التعديل الجيني لهذه المحاصيل ما هو إلا وسيلة من شركات كبرى لاحتكار أسواق البذور في العالم. كما يخشى البعض أيضاً من إضعاف التنوع الطبيعي للمحاصيل، واقتصاره على الأنواع المعدودة التي تعتمدها شركات البذور. وتحتكر شركات البذور المعدلة جينياً المبيدات العشبية والحشرية أيضاً التي لا تؤثر في هذه البذور. وبدلاً من أن تكون البذور ملكاً للفلاحين، تفرض هذه الشركات حقوق ملكية على توزيع واستخدام البذور المعدلة جينياً.
ومن ناحيتهم، يؤكد العلماء أن المحاصيل المعدلة جينياً غير مضرة بالصحة، مقارنة بالمحاصيل الطبيعية، حيث تقول الجمعية الملكية البريطانية إنه لا دليل على أن المحاصيل المعدلة جينياً ضارة بالصحة العامة لمجرد أنها معدلة جينياً، وإن الأخطار المصاحبة لهذه المحاصيل تكون في العادة خاصة بالجين الذي أضيف للمحصول، ولذلك تخضع هذه الجينات إلى المراقبة المستمرة من الحكومات.
وتعترف الجمعية بأن هناك بعض الدراسات التي تشير إلى أضرار صحية من المحاصيل المعدلة جينياً، ولكنها دراسات تركز على جوانب أخرى، مثل استخدام المبيدات، كما أن دراسات أخرى نفت نتائجها. كذلك فإن دراسة أجريت على الحيوانات باستخدام طماطم معدلة جينياً أثبتت أن لها جدوى في معالجة السرطان لأن بها معدلات أعلى من مضادات الأكسدة.
وتقول منظمة الصحة العالمية إن تقييم ومراقبة المحاصيل المعدلة جينياً على الصحة العامة والبيئة يختلف عن المحاصيل الطبيعية التي لا تخضع لأي تقييم. وتشير المنظمة إلى أن الفحص الذي يجري على الأطعمة المعدلة جينياً يتناول ثلاثة مجالات، هي: الحساسية، وانتقال الجينات المزروعة نباتياً إلى خلايا الإنسان، وانتقال الجينات من المحاصيل المعدلة جينياً إلى المحاصيل الطبيعية.
وخلصت الدراسات التي أجرتها المنظمة إلى عدم وجود حساسيات مضادة للأغذية المعدلة جينياً، وعدم إثبات انتقال جينات إلى الإنسان أو الحيوان من الأغذية المعدلة جينياً، وقيام بعض الدول بالفصل بين المحاصيل المعدلة جينياً وتلك الطبيعية.
وفيما يتعلق بسلامة المحاصيل المعدلة جينياً، تقول المنظمة إن هناك كثيراً من الوسائل المستخدمة في محاصيل متعددة، ولذلك فإن تقييم السلامة لا بد أن يكون لكل حالة على حدة. وتضيف المنظمة أن «الأطعمة المعدلة جينياً المتاحة حالياً في الأسواق العالمية نجحت في اختبارات سلامة الاستهلاك، ولا خطر منها على حياة الإنسان. كما أنه لا توجد آثار ضارة على التعداد في الدول التي تسمح باستهلاك هذه الأطعمة». وطالبت المنظمة باستمرار خضوع مثل هذه الأغذية إلى المراجعة الدورية واختبارات السلامة.
وفي مجال التجارة الدولية للمحاصيل المعدلة جينياً، تخضع التبادلات لمعايير لجنة مشتركة من منظمتي الصحة العالمية وفاو (كودكس). وتطور هذه اللجنة معايير سلامة الأطعمة المتبادلة في التجارة العالمية، ولكن من دون فرض شروطها على الدول. وتشجع اللجنة جميع الدول على توافق قوانينها الداخلية مع مبادئ «كودكس»، بحيث يمكن تسهيل معايير التبادل التجاري بقوانين متطابقة بين الدول.
وفي الولايات المتحدة، يشترط قانون فيدرالي صدر في عام 2016 أن توضع ملصقات واضحة على الأطعمة المعدلة جينياً حتى يتعرف المستهلك عليها. وصدر هذا القانون بعد ضغوط شعبية ناتجة عن فوضى قوانين الولايات في التعامل مع هذه الأطعمة. ورغم الرأي السائد بين 90 في المائة من العلماء، بالإضافة إلى الهيئة الطبية الأميركية وأكاديمية العلوم الأميركية، بأن الأطعمة المعالجة جينياً صالحة للاستهلاك الآدمي، فإن 30 في المائة فقط من المستهلكين يصدقون ذلك.
فلا يكفي القول إن الأطعمة المعدلة جينياً ليست ضارة لأنه لم يظهر حتى الآن ضرر منها. والاحتمال القائم هو أن الجين الدخيل يمكن أن يؤثر سلبياً، ويغير من الجينات الطبيعية الأخرى في النبات. كذلك يمكن أن تغير الجينات الدخيلة من المكونات الغذائية، ويسفر ذلك عن سموم أو حساسيات لم تكن معروفة من قبل.
وفي حوار نشر في مطبوعة «ساينتيفيك أميركا»، مع روبرت غولدبرغ أستاذ البيولوجيا النباتية في جامعة كاليفورنيا لوس أنجليس، اعترف بأن المخاوف مستمرة من الأطعمة المعدلة جينياً، رغم مئات الملايين من التجارب التي أجريت على أنواع النباتات والحيوانات كافة، واستهلاك مليارات الوجبات الغذائية المعدلة جينياً بلا مشكلات.
وأضاف أن إثبات سلامة هذه الأطعمة يتطلب تكلفة باهظة تستمر لعشرات السنين على دراسات مقارنة بين الأطعمة الطبيعية والمعدلة. ولكن هناك دراسات منفردة تثبت ذلك، منها بحث إيطالي مقارن لملخص 76 دراسة تثبت أن محصول الذرة المعدل جينياً أوفر في الحجم من الذرة الطبيعية، ويحتوي على نسبة أقل من السموم التي تسببها الفطريات في الذرة الطبيعية. والسبب هو أن التعديل الجيني يقاوم نوعاً من الديدان التي تهاجم ثمار الذرة، وتسمح للفطر بالانتشار فيها، ولكنه لا يؤثر على الحشرات الأخرى.
ويعني التعديل الجيني أن الفلاحين لا يحتاجون إلى استخدام كميات كبيرة من المبيدات الحشرية، ويحصلون على محاصيل أعلى غلة. وهذا أفضل للبيئة، وأقل تكلفة للفلاح ولمشتري المحاصيل. ومن خلال التعديل الجيني، ارتفعت محاصيل الذرة والصويا بنسبة تصل إلى 30 في المائة.
وتستخدم بعض المحاصيل المعدلة جينياً علفاً للحيوانات، ولم تظهر على الحيوانات أي أضرار، بل تحسنت صحتها.
وتشير مصادر بحث أميركية إلى أن الدول الأفريقية والآسيوية التي ما زالت ترفض تقنية التعديل الجيني للمحاصيل يمكنها أن تزيد من محاصيلها الغذائية، خصوصاً في المناطق المتأثرة بالاحتباس الحراري، التي تحتاج إلى محاصيل مقاومة للجفاف وملوحة التربة ودرجات الحرارة العالية.
وترفض بعض الدول الآسيوية زراعة ما يسمى «الأرز الذهبي» المعدل جينياً الذي يحتوي على نسبة أعلى من فيتامين «أ»، والذي يمكن أن يمنع الإصابة بالعمى للأطفال، مع وفيات لأكثر من مليون طفل سنوياً يعانون من نقص هذا الفيتامين. وتسوق الشركات العالمية الأطعمة المعدلة جينياً إلى العالم الثالث على أنها تمدهم بالبروتين والفيتامينات التي يحتاجونها، وتنقذهم من المجاعة.
ولكن الأبحاث التي أجريت على جيل ثانٍ من التعديل الجيني على المحاصيل، بحيث يقاوم نوعين من مبيدات الحشرات، وهو تعديل حاصل على تراخيص من هيئات حماية البيئة، أثبتت أن التعديل الجيني له علاقة بزيادة حالات الإصابة بالسرطان وبعض أمراض الجهاز العصبي. ونشرت نتائج هذه الأبحاث في مطبوعة متخصصة لأبحاث البيئة والصحة العامة.
والاستنتاج الذي توصل إليه العلماء هو أن بعض الأطعمة المعدلة جينياً مفيد، وبعضها الآخر ضار. ولذلك فبدلاً من رفض فكرة التعديل الجيني بالمرة، يجب بحث الموضوع بتأني، ودعم الجهود التي ينتج عنها محاصيل توفر السلامة، وتوجيه الرفض فقط إلى التعديل الجيني الضار.
- الأطعمة المعدلة جينياً على الخريطة الدولية
يتم إنتاج المحاصيل المعدلة جينياً حالياً في 26 دولة، بينما تمنع عشرات الدول الأخرى زراعة هذه المحاصيل. وفي عام 2015، انضمت دول الاتحاد الأوروبي إلى مجموعة الدول التي تمنع زراعة المحاصيل المعدلة جينياً، ولكنها تسمح باستيرادها. وتستورد أوروبا سنوياً 30 مليون طن من الذرة وفول الصويا المعدل جينياً، وتستخدمه علفاً للحيوانات.
وتمنع روسيا زراعة واستيراد المحاصيل المعدلة جينياً، بينما تضع دول أخرى محاذير على هذه المحاصيل حتى تتم دراسات علمية عليها، وتوضع أنظمة للتعامل معها، ومن هذه الدول الصين واليابان وكندا.
أما الدول التي تسمح بزراعة المحاصيل المعدلة جينياً، فتشمل الولايات المتحدة والبرازيل وجنوب أفريقيا وأستراليا وبوليفيا والفليبين وإسبانيا وفيتنام وبنغلاديش وكولومبيا وهندوراس وتشيلي والسودان (القطن المعدل جينياً) وسلوفاكيا وكوستاريكا والهند والأرجنتين وباراغواي وأوروغواي والمكسيك وباكستان وميانمار. هذا وتمنع الدول العربية استيراد المحاصيل المعدلة جينياً، وإن كان بعضها لا يمنع استيرادها.