رغم أن فرانكو زيفريللي لم ينجز أفلاماً كثيرة، فإن ذلك لم يمنعه من اعتلاء مركز فني كبير بين أترابه من المخرجين الإيطاليين. رحيله أمس عن ست وتسعين سنة، يترك في السينما فراغاً آخر لا يمكن ردمه. فهو واحد من الذين تمتعت أفلامهم بقدرات مخرجيها على الابتكار وحسن اختيار المواضيع وتنفيذها وحسن التصرف بمضامينها بحيث تتميز عن سواها.
الأمثلة في ذلك متوفرة في الأفلام الـ15 التي أنجزها ما بين 1955 و2002 فعدد لا بأس به منها اقتباسات شكسبيرية وإذا ما قورنت باقتباسات روسية وأميركية وأوروبية نجدها تختلف في عناصر عدة من بينها انسيابها من دون التفريط في جدية مضمونها.
- من الهندسة إلى المسرح
وُلد في مدينة الفنون فلورنسا في الثاني عشر من فبراير (شباط) 1923. الفن تعلق بأهداب المخرج منذ طفولته فقد اختارت له والدته اسم عائلة مختلفاً عن اسمها أو اسم أبيه (أنجبته كثمرة علاقة غير شرعية مع بائع قماش) فاختارت كلمة زيفريللي التي هي عنوان أوبرا وضعها موتزار وتم تقديمها لأول مرة سنة 1781 بعنوان «إيدومنيو».
ضاع المعنى عند الترجمة إلى الإيطالية وبقي الاسم وقد تم تحويره خطأ عن الأصل. ثم فقد فرانكو والدته وهو في السادسة من عمره. وليس هناك الكثير من الأحداث التي مرّ بها بعد ذلك. ترعرع في فلورنسا وبقي فيها حين أصبح شاباً وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية أنهى دراسته الهندسية وأخذ بالبحث عن فرص للعمل في هذا الميدان... لكن شيئا غامضاً حدث له في الطريق إلى العمل الهندسي... شاهد نسخة المخرج والممثل البريطاني الراحل لورنس أوليفييه «هنري الخامس» وتأثر بها لدرجة اتخاذه القرار بالتحول إلى التمثيل، وبناء على ذلك ظهر بالفعل في عدد من المسرحيات ووجد نفسه يحمل لقب «مونتغمري كليفت الإيطالي» (نسبة للممثل الأميركي بالاسم ذاته).
هناك فترة مسرحية موازية قام فيها بتصميم ديكورات المسرحيات لبعض الوقت. وفي أواخر الأربعينات التقى بالمخرج لوكيانو ڤيسكونتي (1906 - 1976) الذي عينه مساعدا له. في فيلم «الأرض المهزوزة» سنة 1948 وكان ذلك الفيلم أحد ثلاثة أفلام ربطت بينهما. الفيلمان الآخران هما «جميلة» (1951) و«شعور» (1954).
لا شك في تأثير المعلم الأول على الثاني، على الأقل بالنسبة لحجم الأعمال التي تبنى إخراجها زيفريللي بعد ذلك. الجنوح إلى الإنتاجات الكبيرة ذات العماد الأدبي. هذا من دون أن يتبنى زيفريللي ذلك النقد الموجع الذي خص ڤيسكونتي به المجتمع الإيطالي.
فيلمه الأول دخل نفق النسيان وكان كوميديا عاطفية من بطولة نينو مانفريدي عنوانها «كامبينغ». وذلك سنة 1958. بعده، وربما بسبب إخفاقه فنياً وجماهيرياً، ابتعد عن العمل كلياً حتى سنة 1967 عندما لجأ إلى ويليام شكسبير لينقذه من عزلته مختاراً «ترويض النمرة» ليكون أول اتصال بينه وبين الكاتب الراحل.
- ضد المستحيل
الفارق بين فيلمه الأول وفيلمه الثاني يكاد يكون مذهلاً. طبعاً هناك الفرق الكبير بين موضوع هزلي وبين رواية شكسبيرية لكن الأهم هو أن المخرج رغب أساساً في صوفيا لورين ومارشيللو ماستروياني لقيادة هذا الفيلم ثم عدل عن ذلك الاختيار وقرر صنع فيلمه بالإنجليزية.
هذا الطموح قاده لأن يطلب من شركة فوكس الإسهام في تمويل الفيلم على أن يقوم بالدورين الرئيسيين كل من رتشارد بيرتون وإليزابيث تايلور.
فوكس ارتاعت من الفكرة، فقبل أربع سنوات فقط قامت بتمويل فيلم تاريخي آخر من بطولتهما هو «كليوباترا». ليس فقط أن الفيلم أخفق في تحقيق أي نجاح يذكر بل كاد يطيح بالشركة الكبيرة ويضعها في خانة الإفلاس.
إصرار زيفريللي من جهة وإعجاب بيرتون وزوجته تايلور بالمشروع من جهة واستعدادهما لدفع مليون دولار من مالهما الخاص فيه ساعد فوكس على تغيير رأيها. زيفريللي راهن على أن بطليه ما زالا محبوبين ورهانه فاز بالفعل.
في مذكراته كتب زيفريللي بأن تحقيق هذا الفيلم كان «أمتع عمل قام به في حياته». لكن بصرف النظر عن هذه المتعة المكتسبة من التعامل مع كاتب كبير وممثلين نجمين ووضع المخرج قدمه على سدة العالمية، هناك حقيقة أن «ترويض النمرة» فتح الباب على مصراعيه لقيام زيفريللي، وبثقة، تحويل أعمال أخرى لشكسبير بدءاً من العام التالي مباشرة عندما أنجز «روميو وجوليت». في عام 1986 داعب عمل آخر لشكسبير هو «عطيل» مسنداً الدور إلى الإيطالي بلاسيدو دومنغو. آخر ما قام به زيفريللي شكسبيرياً كان «هاملت» (1990) بعدما اختار مل غيبسون لبطولة الدور وهذا كشأن أي ممثل موهوب قفز على الدور ومنحه كل ما يملك من موهبة.
لكن زيفريللي عالج حكايات من مصادر أخرى.
«الأخ شمس، الأخت قمر» مستلهم من حياة القديس فرنسيس كما وضعها سوسو غيشي دأميكو. «لا ترافييتا» سنة 1982 (أهم إنتاج حققه التونسي طارق بن عمّار في حياته المهنية) هو فيلم لأبورا جيسبي فيردي. و«جين آير» كان عن رواية شارلوت برونتي (1996) وهو عاد للأوبرا في فيلمه الأخير «كالاس للأبد» سنة 2002 وهو الفيلم الذي اضطلعت ببطولته الفرنسية فاني أردانت لجانب البريطانيين جيريمي آيرونز وجوان بلورايت.
هذا الجانب السينمائي من زيفريللي لا يجب أن يهضم حق الجانب المسرحي الذي عاد إليه زيفريللي أكثر من مرّة مستبدلاً الكاميرا بالخشبة المسرحية من دون أن يخسر حبه للأعمال الفنية الكبيرة. هناك في روما وباريس ونيويورك ترك آثاراً ملهمة لدى عشاق المسرح وروّاده ونقاده.
في عام 2017 حقق فيلم أنيميشن قصير (8 دقائق) بعنوان «جحيم زيفريللي» وكان هذا هو آخر توقيع فعلي قام به لفيلم. فيلم صغير حيال أكثر من عشرة أفلام كبيرة مال فيها الراحل إلى أسلوب كلاسيكي ممتع موظفاً الأدب والفن لإيصال أعمال يخرج منها المشاهد وقد امتلأ وجدانه حباً بالحياة.