إيطاليا تعد العالم بمغامرة جديدة مع التطرف الشعبوي

في ظل تصاعد نفوذ سالفيني بعد اختبار الانتخابات الأوروبية

إيطاليا تعد العالم بمغامرة جديدة مع التطرف الشعبوي
TT

إيطاليا تعد العالم بمغامرة جديدة مع التطرف الشعبوي

إيطاليا تعد العالم بمغامرة جديدة مع التطرف الشعبوي

لو عُدنا إلى التاريخ السياسي الإيطالي الحديث منذ مطالع القرن الماضي، أو إلى المراحل القديمة على أبواب عصر النهضة، يتبدّى بوضوح كيف أن هذا البلد الذي لم ينعم باستقرار الحكم حتى في أوج ازدهاره الاقتصادي وتألقه الفني والحضاري، كان على الدوام مختبراً سياسياً تولّدت فيه تيّارات ومنازعات لم تقف تداعياتها عند حدود شبه الجزيرة الإيطالية.
هنا ظهر «الشعبوي» الأول في الحقبة الحديثة عندما قفز سيلفيو برلسكوني إلى الشهرة والحُكم على متن إمبراطوريته الإعلامية، التي كانت تتيح له تسويق ما شاء من وعود خلّبيّة ومزايا وهمية وافتراءات على خصومه، قبل أن تصبح وسائل التواصل الاجتماعي هي السلاح الأمضى بيد «الشعبويين الجدد»، الذين فرّخوا في التربة التي خصّبها برلسكوني طوال سنوات بلا محاسب أو رادع.
وقبل برلسكوني و«شعبويته»، هنا شهدت «الفاشيّة» النور على يد بينيتو موسوليني، وأيضاً بدأت الأحزاب الشيوعية الأوروبية رحلة العودة إلى الديمقراطية الاجتماعية مع زعيم «المساومة التاريخية» إنريكو برلينغوير... وهنا أيضاً كانت بداية النهاية للأحزاب التاريخية الكبرى: الديمقراطية المسيحية يميناً والاشتراكية يساراً.
وأيضاً، في إيطاليا دشّنت أوروبا ظهور الحركات الانفصالية مع «رابطة الشمال»، وشهدنا كيف تكفي أشهر قليلة لكي تتبخّر الأحزاب والقوى اليسارية، وكيف يعود اليمين المتطرف إلى الحكم للمرة الأولى في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

التحوّلات السياسية التي شهدتها إيطاليا خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي ترسّخت في الانتخابات الأوروبية، أواخر الشهر الماضي، تعلن بداية فصل جديد في المشهد السياسي أخطر ما فيه أنه قد يكون عنوان المرحلة المقبلة في أوروبا المُبحرة بين أنواء عاتية من الداخل كما من الخارج.
إنها المرحلة التي بدأ ينتقل فيها اليمين المتطرّف من دكّ أسوار القلعة الأوروبية إلى التمركز في أبراجها العالية لإملاء شروطه عند وضع خريطة الطريق المقبلة.
عندما تشكّلت الحكومة الائتلافية الحالية في إيطاليا قبل سنة بين «حركة النجوم الخمس» وحزب «الرابطة» (بعد إسقاط كلمة «الشمال» من اسمه) في أعقاب مخاض عسير طال ثلاثة أشهر، حقّق زعيم «الرابطة» ماتّيو سالفيني الهدف الأول، والأساسي، في خطته الاستراتيجية: الوصول إلى الحكم بأسرع وقت ممكن، والمباشرة في تطبيق الوصفات وتنفيذ الوعود التي كانت وراء انتصاراته الانتخابية المتلاحقة.
لم يتردد الزعيم اليميني المتطرف في استغلال رفض الحزب الديمقراطي (اليسار المعتدل) التحالف مع «النجوم الخمس»، ليعرض على الحركة توقيع عقد حكومي مشترك، بل وترك للحركة الاعتراضية لها اختيار الرئيس والحقائب الرئيسية مقابل تولّيه حقيبة وزارة الداخلية التي تشمل صلاحياتها ملفّي الهجرة والسياسة الأمنية.
منذ ديكتاتورية موسوليني لم تشهد الساحة السياسية الإيطالية تغييراً واسعاً وعميقاً كالذي شهدته منذ وصول سالفيني إلى وزارة الداخلية، متأهباً للصعود إلى مركز القوة السياسية الأولى، وطامحاً لرئاسة الحكومة.
لم يتوقف زعيم «الرابطة» (الذي أشرف على تحويلها من قوة انفصالية إلى قوة ترفع ألوية الشعبوية اليمينية المتطرفة على مستوى إيطاليا كلها) عند كسر التوازن الدقيق الذي كانت تقوم عليه معادلة توزيع القوى السياسية في إيطاليا، إطلاقاً، بل أغرق البلاد في بحر من التوتّر والغضب، وحوّل وزارة الداخلية إلى ما يشبه البث التلفزيوني المباشر؛ ينقل تحرّكاته ومهرجاناته وتصريحاته وتفاصيل حياته الخاصة على مدار الساعة.

«الفيسبوك»... و«الغريزة» الكاسرة

«الفيسبوك» هو عدّته الانتخابية الأساسية التي لا تكفّ عن الحركة، ولا يجاريه فيه أي من الزعماء الأوروبيين. وهو ينطلق فيه من برنامج متطوّر (يُقال إن المنظّر الأميركي اليميني المتطرف ستيف بانون، «مهندس» سياسات دونالد ترمب ساعده على تطويره) يرصد مزاج الشارع وينشر عبره التعليق المناسب في كل لحظة.
غير أن المحرّك الرئيس لـ«الماكينة السالفينية» هو الغريزة الكاسرة التي أخطأ خصومه طوال سنوات في تقدير تأثيرها على مجتمع يغلي في مرجل الركود الاقتصادي والبطالة والنقمة على الفساد والهجرة.
راهناً، يتولّى ماتّيو سالفيني منصب نائب رئيس الحكومة (بجانب وزارة الداخلية) بموجب الاتفاق الذي أبرمه مع «حركة النجوم الخمس» في السنة الماضية. يومذاك، جلس زعيم «الرابطة» إلى طاولة المفاوضات، وفي جعبته نصف الأصوات التي كانت قد حصلت عليها الحركة، لكنه اليوم يتصدّر المشهد السياسي الإيطالي بعدما حصد 34.5 في المائة من أصوات الإيطاليين في الانتخابات الأوروبية، مضاعفاً أصوات حلفائه في الحكم الذين يحارون كيف يتعاملون معه، ويترددون في معارضته خشية انفراط الائتلاف الحاكم.
سالفيني كان قد انقلب على أومبرتو بوسي، على «عرّابه» السياسي الأول ومؤسس «رابطة الشمال» الانفصالية، ثم انقلب على «عرّابه» الثاني روبرتو ماروني، قبل أن يهشّم برلسكوني الذي كان يتعامل معه بفوقيّة حتى الانتخابات العامة الأخيرة... التي التهمت فيها الرابطة الأصوات التي جمعها حزب «الفارس» طوال 24 سنة.
انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة كرّست هيمنة سالفيني على المعسكر اليميني والمحافظ في إيطاليا، ورفعت حزب الرابطة إلى مركز القوة السياسية الأولى، في حين خسر حلفاؤه في «حركة النجوم الخمس» نصف مجموع أصواتهم، فتراجعوا إلى المركز الثالث، بعد الحزب الديمقراطي، الذي استعاد قسماً من التأييد الذي كان قد خسره في الانتخابات العامة الأخيرة.
للعلم، نتائج الانتخابات الأوروبية، رغم أهميتها وتأثيرها المعنوي، لا تغيّر شيئاً في التوزيع الراهن للقوى البرلمانية في إيطاليا. ولأن سالفيني يدرك ذلك جيداً، ولا يريد المجازفة برصيده الكبير في بلد مشهور بتقلّب مناخه السياسي، فإنه أحجم منذ اللحظة الأولى عن المطالبة بتعديل توزيع القوى والنفوذ داخل الحكومة... مكتفياً بالتشديد على الإسراع في تنفيذ مقترحاته الأساسية التي قام عليها الاتفاق الحكومي، مثل خفض الضرائب وإعطاء مزيد من الصلاحيات الإدارية والمالية للحكومات الإقليمية.

رجل المرحلة المقبلة

هذا الموقف الحذر لسالفيني، الذي ما عاد يشكّك أحد في أنه رجل المرحلة المقبلة في إيطاليا، أحرج حلفاءه في الحكومة، وبات من المتعذَّر عليهم رفض مطالبه أو الالتفاف عليها، كما في السابق، خصوصاً بعد الهزيمة المريرة التي مُنيت بها «النجوم الخمس» أوروبياً. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الحركة تراجعت أيضاً في معظم الانتخابات المحلية التي أُجريت خلال الأشهر الأخيرة، لا سيما في محافظات الجنوب التي كانت تعتبر خزّانها الانتخابي، لكن سالفيني تقدّم فيها أيضاً.
برلسكوني، من جهته، يواصل تركيز كل نشاطه على إقناع سالفيني بالتخلّي عن تحالفه الحكومي مع «النجوم الخمس»، والعودة إلى صيغة الانتخابات العامة الأخيرة التي شهدت انطلاقة الرابطة، التي يمكن أن تتعزّز بانضمام «الفاشيين الجدد» إليها بعد التقدّم الذي أحرزوه في الانتخابات الأوروبية، عندما حصلوا على 6.7 في المائة من الأصوات.
غير أن سالفيني يفضّل التريّث، ويقاوم الضغوط القوية لفك الائتلاف الحاكم. كذلك، لا يريد الإقدام على أي خطوة في هذا الاتجاه، بانتظار اتضاح مسار أزمة انهيار الحركة، التي نشأت فيما يشبه المختبر، لتستقطب الاستياء العارم الذي كان يجتاح إيطاليا، والتي تواجه اليوم أسوأ أزمة منذ تأسيسها. وكانت الحركة قد بلغت ذروة شعبيتها في الانتخابات العامة الأخيرة عندما حصلت على 33 في المائة من الأصوات بعد عشر سنوات فقط على انطلاقها، لكنها خسرت نصف شعبيتها في الانتخابات الأوروبية، تحت وطأة الركود الاقتصادي الذي فشلت الإجراءات الحكومية في معالجته، وأمام «إعصار سالفيني» الذي بسط هيمنته على أداء الحكومة منذ اليوم الأول.
وبجانب الركود، من الأسباب الأخرى التي أسهمت في تراجع الحركة: غياب البعد الأوروبي في مشروعها السياسي، وافتقارها إلى حلفاء في بلدان الاتحاد. وفشل الحركة الذريع في إدارة العاصمة روما التي فازت برئاسة بلديتها في الانتخابات البلدية الأخيرة. وفضلاً عن انحسار شعبيتها في الجنوب الذي خصّصت له أبرز إجراءاتها بتوفير دخل ثابت لكل مواطن عاطل عن العمل قدره 780 يورو شهرياً. وكان لافتاً، بالفعل، أن حزب الرابطة، الذي كان منذ أربع سنوات يطالب بانفصال مقاطعات الشمال عن إيطاليا، ويوجّه الاتهامات والانتقادات العنصرية ضد سكّان الجنوب متهماً إياهم بالفساد والكسل، حقق أفضل النتائج في المحافظات الجنوبية.

أزمة «النجوم الخمس»

الخسارة المرّة التي أصابت «النجوم الخمس» في الانتخابات الأخيرة فتحت باب أزمة قيادية سرعان ما حُسِمت باستفتاء أكّد زعامة لويجي دي مايو، الذي أعلن خطة لإعادة هيكلة الحركة وتنشيط حضورها الميداني بعدما كانت حتى الآن تنشط حصراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وبعد اعتراف دي مايو بـ«المسؤولية المشتركة عن الهزيمة الانتخابية» الأخيرة، أكّد «أن البديل الوحيد الآن هو المقاومة والتأكيد على أن الحركة لن تتنازل عن مبادئها الأساسية، ورصّ الصفوف لمواجهة الأزمة».
على أي حال، ثمّة من يرى أن أزمة «النجوم الخمس» ناشئة عن خلل في التواصل مع القاعدة، وفشل في تعبئة المناصرين إبان الانتخابات، وأن الحركة بحاجة إلى زعيم من طينة سالفيني يشغل وسائل الإعلام يومياً بتحركاته وتصريحاته الناريّة. ويشير مراقبون إلى أن هذه المواصفات متوفرة في أحد زعماء الحركة، أليسّاندرو دي باتّيستا، الذي اكتفى بدور ثانوي حتى الآن، ولكن لم يعد مُستبعَداً أن يعود إلى الواجهة قريباً، بحيث «تتعادل» الحركة والرابطة في «الأسلوب القيادي» الذي لم يعد يشكّ أحد في أنه الأعلى مردودية في المشهد السياسي الإيطالي.
في المقابل، بينما تحاول الحركة لملمة هزائمها واستعادة أنفاسها، يتقدّم سالفيني بثبات نحو أهدافه فارضاً مشيئته على الحكومة بانتظار التوقيت المناسب للانقضاض عليها. وهو يفتح جبهات في الداخل والخارج على كل المستويات، فيفرض عقوبات على المواطنين الذين يقدّمون المساعدة للمهاجرين غير الشرعيين، ويحيل إلى القضاء رئيس بلدية رياتشي، القرية الجنوبية التي تحوّلت إلى مختبر اجتماعي وسياسي يستقطب اهتمام العالم منذ 15 سنة لتجربتها الناجحة في استقبال المهاجرين ودمجهم.

معركة مع الفاتيكان

لكن طموحات سالفيني لا تقف عند حد، ولا شيء يردعه عن خوض أي معركة يستشفّ أنها ستزيد من رصيده الانتخابي الذي يبدو بلا قاع. وكانت معركته الأخيرة ضد البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان الذي جعل من قضيّة المهاجرين والعناية بهم أحد المحاور الرئيسية لحبريّته، والذي رفض حتى الآن استقبال سالفيني. ففي أواخر الشهر الماضي، بختام المهرجان الضخم الذي نظمته الرابطة افتتاحاً لحملة للانتخابات الأوروبية، وقف سالفيني أمام جمهوره محاطاً بقيادات الأحزاب اليمينية المتطرّفة المتحالفة معه في أوروبا. وبعد إطلاقه سلسلة من الانتقادات للإسلام والمهاجرين المسلمين، شن هجوماً مباشرا (لأول مرة) على البابا فرنسيس... منتقداً رؤيته ومواقفه من قضية الهجرة، بينما كانت الشاشة الضخمة وراءه تعرض صوراً للبابا يوحنا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر والكاردينال روبرت سارا مرشّح التيّار المتطرّف في الكنيسة الكاثوليكية لخلافة البابا الحالي. وعندما لفظ سالفيني اسم البابا فرنسيس ضجّ المهرجان بهتافات معادية تردّدت أصداؤها في أروقة الفاتيكان الذي تحوّل في الأشهر الأخيرة إلى السدّ الأعلى في وجه سياسة الهجرة التي يفرضها الزعيم المتطرف على الحكومة الإيطالية.
جدير بالذكر أن الهجرة أيضاً من الملفّات التي تتضارب فيها مواقف الرابطة و«النجوم الخمس» التي، بعكس سالفيني، تتمتع بعلاقات ممتازة مع البابا فرنسيس، الذي غالباً ما يكرر قول هنري كيسنجر بأن «السياسة الإيطالية مفرطة في التعقيد ويعجز عن فهمها». وعندما يُسأل البابا عن سالفيني، يرد: «لا يجوز للمسؤول السياسي أن يزرع الحقد ويبذر الخوف».
الفاتيكان يعرف أن الرابطة بزعامة سالفيني هي اليوم الحزب المفضّل بين الناخبين الكاثوليكيين المحافظين. وثمّة استياء في بعض أوساط الكنيسة من هذا التوتّر غير المألوف في العلاقات مع الحكومة الإيطالية، لكن ثمّة من يذكّر أن البابا بيّوس الثاني عشر أعلن الحرمان الكنسي في حق مَن ينتخب الحزب الشيوعي في العام 1949، لكنه رفض أن يفرض الحرمان في حق الذين ينتخبون موسوليني.

بصمات ستيف بانون

قرار المواجهة المفتوحة مع البابا لم يتخّذه سالفيني وحده، بل جاء عملاً بنصيحة ستيف بانون، «مرشده» وحليفه الأميركي، الذي يعتبر أن البابا فرنسيس «ليس معصوماً عن الخطأ في القضايا السياسية»، ولذا يقترح على زعيم الرابطة أن يهاجمه بشكل مباشر ومركّز. ولقد بات واضحاً في ضوء التحالفات السياسية الأخيرة بين القوى اليمينية المتطرفة في الدول الغربية، والمواقف العلنية لرموز التيّار المحافظ في الكنيستين الكاثوليكية والإنجيلية، أن المعركة والرهانات أكبر بكثير، وأبعد من مجرّد الصراع على مكاسب انتخابية.
وفي غضون ذلك، تبقى إيطاليا في حال من الترنّح الحكومي الذي أصبح متوطّناً في المشهد السياسي، متأرجحة على ائتلاف عجيب بين «حركة» أسسها ممثّل كوميدي، و«رابطة» سياسية كانت منذ أربع سنوات تنادي بانفصال المحافظات الشمالية وتعتبرها غير إيطالية.
كل ذلك يؤشر إلى أن إيطاليا تسير، مرة أخرى، نحو كتابة فصل جديد في التاريخ السياسي للتطرف، لم تتضّح معالمه بعد، لكنه حتماً يثير القلق في أكثر من اتجاه وعلى مستويات عدة.
لا بد من المراقبة اليقظة لمسرى الرمال الإيطالية المتحرّكة في هذه المرحلة من التاريخ الأوروبي والدولي، لأن فيه (ربّما) معالم النظام السياسي والاجتماعي الذي قد يتشكّل في المستقبل القريب.
ولا شك أن إيطاليا تتفرّد بخاصيّات لا نجدها في البلدان الأخرى: منظمات إجرامية على علاقة وطيدة بالنشاط السياسي، ومصالح خاصة واسعة النفوذ والتأثير، وفساد راسخ في النسيج الاجتماعي مصحوب بانعدام الثقة بالمؤسسات العامة.
لكن ما يُقلق أن العالم سائر نحو التشبّه بإيطاليا، وإن بنسبة أقل من الجمال الذي يفيض في هذا البلد... وبمعزل عن القدرة التي يتمتّع بها الإيطاليون على الإبحار فيما يشبه الهدوء فوق كل الأمواج.

ما الذي سيخرج في النهاية من المختبر الإيطالي؟

هل سيعود اليمين المتطرف لفرض تعصبه وظلاميته على أوروبا مجدداً، وعلى العالم أيضاً، هذه المرة؟ هل ستكون بداية نهاية نظام المؤسسات وإدارة الدول مثل الشركات الخاصة؟
وأين ستكون الحدود الفاصلة بين ما نرى ونسمع وما يحصل في الواقع؟
وهل ستُخرج إيطاليا من قبّعتها أرنباً جديداً لم يخطر بعد على بال أحد؟



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.