الصحافي سوتلوف تابع قصص العالم العربي من مصر واليمن وليبيا.. إلى سوريا حيث أصبح محور الأخبار

روى لـ «الشرق الأوسط»: حبه للعالم العربي وزيارته منزل أبو مصعب الزرقاوي

مراسل «الشرق الأوسط» عبد الستار حتيتة مع ستيفن سوتلوف الصحافي الأميركي
مراسل «الشرق الأوسط» عبد الستار حتيتة مع ستيفن سوتلوف الصحافي الأميركي
TT

الصحافي سوتلوف تابع قصص العالم العربي من مصر واليمن وليبيا.. إلى سوريا حيث أصبح محور الأخبار

مراسل «الشرق الأوسط» عبد الستار حتيتة مع ستيفن سوتلوف الصحافي الأميركي
مراسل «الشرق الأوسط» عبد الستار حتيتة مع ستيفن سوتلوف الصحافي الأميركي

كان شهر رمضان، والشمس حارقة، والثوار غير قادرين على اجتياز حواجز قوات القذافي في منطقة الوادي الأحمر، إلى الشرق قليلا من مدينة سرت التي كان يتحصن فيها العقيد الراحل. الوقت أغسطس (آب) من عام 2011. يقف ستيفن سوتلوف، الصحافي الأميركي الذي ذبحه عناصر ممن يسمون بـ«داعش» الأسبوع الماضي، بينما لم يكن في ذلك الوقت، يدرك، وهو يضحك ويكتب عن «الربيع العربي» في مصر، وليبيا، واليمن، أن مصيره سينتهي على شاشات التلفزيون عبر العالم في بدلة برتقالية والسكين على عنقه.
ظل سوتلوف، خريج جامعة «سنترال فلوريدا» الأميركية، مصرا على العمل بصفته مراسلا في منطقة الشرق الأوسط، متعاونا مع مجلة «تايم»، و«فوريين بوليسي»، ومطبوعات صحافية أميركية أخرى، وبين كل رحلة ورحلة، يأتي صوت والدته عبر الهاتف ومن وراء المحيط الأطلنطي، وهي تتوسل أن نقنع ابنها الحبيب للكف عن التردد على هذه البلاد الخطرة، بينما هو يستمع للمكالمة ويضحك قائلا إن والدته تبالغ، ويمسك الهاتف ويقول لها: «أنا الآن أسهر في ميدان التحرير بالقاهرة مع أصدقائي، أكلنا الكشري وندخن الشيشة».
وفي حديث سابق أجريته معه عن زيارته لمنزل عائلة أبو مصعب الزرقاوي الذي كان زعيما لتنظيم القاعدة بالعراق، قال سوتلوف: «نعم.. كان هذا من أهم الموضوعات.. وزرت من أجل هذا مدينة الزرقا التي ينتمي إليها الزرقاوي. أتذكر حين زرت عائلة الزرقاوي أن قام أحد الأطفال من أقاربه، وكان عمره نحو 6 سنوات، بقذفي بالحجارة حين علم أنني أميركي، بدأ بقذفي بالحجارة فجريت وقفزت داخل السيارة، وعرفت أن عائلة الزرقاوي كانت تكره الأميركيين ومن بينهم هذا الطفل أيضا. كان الزرقاوي عمه».
كان سوتلوف يدرس اللغة العربية في أحد المعاهد اليمنية قرب صنعاء، مستغلا هدوء المعارك بين الحوثيين والحكومة اليمنية عقب مفاوضات الصلح بعد «الحرب السادسة».. لكن حين تفجرت الأحداث في تونس في أواخر عام 2010، اضطر للانتقال على عجل من هناك لتغطية الثورة على الرئيس زين العابدين بن علي. ترك حقيبة ملابسه وكتبه، وهو أمر يتكرر معه دائما.. تركها وترك دراسة اللغة العربية وانتقل لتونس، على أمل أن يرجع منها سريعا لاستكمال حياته المؤقتة في اليمن، لكن الثورة انتقلت سريعا إلى مصر، فليبيا.
في حافلة أجرة صغيرة تنقل الصحافيين من السلوم إلى بنغازي كان الخوف هو العامل المشترك بين الجميع. من يضمن أن السائق لا يتبع قوات القذافي، أو أنه لن يسلمنا في أقرب نقطة تابعة للكتائب الموالية للنظام الذي كان يقاوم ضربات حلف الناتو من السماء وضربات المتمردين المسلحين على الأرض. وبدأ سوتلوف يجرب نتفا من اللغة العربية بلكنة يمنية، فطلب منه أحد الركاب، وكان صحافيا مصريا، الصمت، حتى لا يتسبب في إثارة الريبة في هذه البلاد المضطربة.
في بنغازي كان الهاجس أمام كثير من مراسلي الصحف الورقية العربية، يدور حول كيفية التوفيق بين أمرين، الأول: التدفق الإخباري اليومي الذي يملأ الإنترنت والفضائيات التلفزيونية عن الأحداث لحظة بلحظة، والثاني: محاولة الحصول على قصص مختلفة لم يسبق نشرها، وبينما كانت الطابعة الموجودة في مبنى محكمة بنغازي (مقر غرفة عمليات الثوار حينها) تخص العاملين في الغرفة شبه العسكرية، كانت أيضا تستغل لطباعة تقارير مراسل مجلة «تايم» عن الأحداث في ليبيا.
«إنه يكتب بطريقة يمكن التعلم منها»، هكذا يصيح المراسل المصري محاولا إقناع سالم المنفي، أحد مسؤولي غرفة العمليات في ذلك الوقت، من أجل طباعة المزيد من تقارير سوتلوف عن ليبيا، مثل قصته التي بناها على ظروف صاحب متجر في المدينة يكره القذافي، لكنه يتشكك في وجود مستقبل آمن لأولاده في حال سقوط نظام العقيد.
وكان سوتلوف يقوم بعملين متلازمين، الأول: متابعة ما يبث ويذاع، دون التورط في اجترار هذه الموضوعات التي أصبحت معلومة للعالم، والثاني: البحث عن زوايا جديدة لقصص إخبارية وإنسانية، ويحولها من حكايات على الهامش إلى قصص رئيسة، مثل التقاطه للتفاصيل الخاصة بتفجير مخازن الذخيرة في مطار بنغازي في ذلك الوقت. وهكذا أصبحت طريقة عمل سوتلوف مصدر إلهام لكثير من المراسلين الذين لم يكونوا قد تدربوا بعد على وسائل التغلب على التدفق الإخباري في عصر الإنترنت والفضائيات.
صحافيون يأتون ويمضون، بينما الاقتتال بين الليبيين لا يتوقف.. مراسلون يطلون برؤوسهم على خطوط الجبهات، ثم يرجعون سريعا خوفا من الرصاص المتطاير وقذائف الصواريخ، لكن سوتلوف، قصير القامة بجسده العريض المستدير، ولحيته الصفراء، ووجهه الطفولي، تجده يبتسم في صندوق واحدة من سيارات الدفع الرباعي وهي تنطلق ضمن رتل من أرتال المقاتلين إلى ما بعد مدينة إجدابيا؛ حيث الموت المحقق على أيدي قوات القذافي. كل رجل يمسك ببندقيته، وسوتلوف يمسك بـ«اللابتوب»؛ سلاحه الخاص به.
وتوغلت قوات «الثوار» إلى الأمام تحت الشمس الحارقة، بمعاونة كبيرة من قصف طائرات الناتو لكتائب القذافي. وبدأ شهر رمضان، وكان التراب الأحمر والنباتات الجافة والبارود، لها روائح نفاذة، وكان اليوم يبدو طويلا جدا دون طعام ولا ماء ولا تبغ. وكان سوتلوف لا يدخن، لكنه بين وقت وآخر يمكن أن يدخن سيجارة أو سيجارتين. ورغم ذلك صام مع المقاتلين 3 أيام، لكنه في اليوم الرابع، وكان يوما شديد الحرارة، غير رأيه.
ففي نحو الساعة الثانية ظهرا، أخذ سوتلوف قدرا صغيرا وحفنة من الأرز وقطعا من الطماطم والبصل، وقنينة زيت وزجاجتي مياه، وأخذ يمشي في الصحراء، إلى أن اختفى، وبعد ذلك بدأ الدخان ينبعث من أحد الأودية، وصاح أحد المقاتلين مازحا: «الأميركي يفطر.. كيف لم تتمكنوا من إدخاله الإسلام، إنه يحفظ سورة الفاتحة، وصام أول أيام رمضان، ويعرف قليلا من اللغة العربية، كان يمكن أن يهتدي».
وقال سوتلوف إنه كان يريد أن يكتب تقريرا صحافيا، وأنه لم يكن يمكنه كتابة ما يريد وهو يشعر بالجوع والعطش، وطلب من المقاتلين أن يغفروا له إفطاره في النهار، لكن عددا منهم رد عليه بمزيد من المزاح ما زالة الحرج، وقال أحدهم: حتى نحن لدينا من لا يستطيع القتال إلا إذا أفطر ودخن السجائر.
وضحكوا، وضحك معهم، ثم كتب تقريرا مطولا كشف فيه للعالم عن سر فشل المقاتلين في اجتياز منطقة الوادي الأحمر والبريقة طوال كل تلك الأسابيع.. «إنهم غير مدربين، هذا معلم في مدرسة لا يعرف أبسط قواعد صيانة سلاح كية 47 لدرجة أن السلاح انفجر في وجهه وشوهه تماما، وهذه مجموعة من سائقي الشاحنات الذين جاءوا للجبهة ويجربون منذ أيام إطلاق النيران من مدفع عيار 14.5، وفي كل مرة يخطئون الهدف ويفرون عائدين إلى إجدابيا».
وبدأ سوتلوف العمل بمنطقة الشرق الأوسط قبل 6 سنوات، وطاف في كثير من البلدان؛ حيث عمل أيضا معدا لبعض القنوات التلفزيونية الغربية.. وله هيئة رجل روسي، كما كان يتعامل معه السوريون للمرة الأولى، بسبب وجهه الأحمر المستدير ولحيته التي تضفي عليه ملامح سيبيرية. أما في ليبيا في ذلك الوقت، فقد انتقل في قارب من بنغازي إلى مصراتة الملتهبة، قبيل دخول الثوار مقر القذافي في طرابلس.
واختفى سوتلوف مجددا.. ربما سافر إلى اليمن أو إلى سوريا أو إلى الأراضي المحتلة، هذا خط سيره المعتاد، يكون حيث يكون النزاع والاقتتال والضحايا، هنا تنفتح شهيته ويجري وراء الناس العاديين ليعرف كيف يعيشون في هذا الجحيم. كنت في طرابلس الغرب، وفجأة ظهر مرة أخرى عبر اتصال هاتفي من بنغازي، كان الاتصال من أجل العمل؛ أن نجري تنسيقا للتحقيق في ملابسات تفجير القنصلية الأميركية في بنغازي في سبتمبر (أيلول) 2012، لم يكن أحد يعرف من هم المهاجمون، وما إذا كان الهجوم الذي قاموا به، وتسبب في مقتل السفير الأميركي في ليبيا و3 من زملائه، كان مخططا له أم عفويا، وفي بنغازي أخذنا نبحث عن الحراس الذين كانوا داخل القنصلية لحظة الهجوم عليها.
كان الحراس السبعة الذين كانوا داخل القنصلية لحظة الهجوم عليها قد جرى إخفاؤهم، ولم تستمع أي جهة تحقيق، بما فيها الـ«إف بي آي»، إليهم أو حتى التقوا بأي من هؤلاء الحراس، كان محققو «إف بي آي» في المبنى الذي يقع قرب الطريق الدائري للمدينة، وطلبوا من ضابط ليبي، أعتقد أنه كان يلقب بالمقدم «العومي»، تفتيشنا وتجريدنا من أجهزة التسجيل والتصوير وتركها في السيارة؛ أي على بعد 500 متر من مقر المبنى، وحين دخلنا عليهم كان سوتلوف غاضبا، وبدأ في التحدث معهم، إلا أنهم رفضوا إعطاءنا أي إفادات، ثم أخذ صوته يرتفع، وهو يتحدث بصفته أميركيا عن حق دافعي الضرائب في معرفة الحقيقة وما يدور، لكن رئيس المحققين كان يرد بكلمة واحدة يكررها مرة بعد مرة: «آسف.. آسف».
وبعد 3 أيام من البحث في أزقة بنغازي وحواريها، اتصل سوتلوف: «أريدك فورا.. يوجد رجل جريح في منزل أسرته في ضاحية الهواري.. هو من حراس القنصلية، وأصيب وقت الهجوم عليها»، كان الأب يجلس عند رأس ابنه المصاب، حالة من الذعر تسيطر على الأسرة، وقال لنا الأب إنه توجد تعليمات بعدم التحدث للصحافيين أو المحققين إطلاقا، وبعد مساومات تمكنا من الحصول على أرقام هواتف اثنين من الحراس الذين تصدوا للهجوم على القنصلية مع ابنه.
وبعد مناورات أخرى وافق الحارسان اللذان اتصلنا بهما، على مقابلتنا في الليل على شاطئ قرية سياحية تقع إلى الغرب قليلا من بنغازي، ولم نتحدث، ونحن في السيارة، عن الرعب التي بدأنا نشعر به.. فربما نقع في فخ، ولا نعود من هذا المشوار، لأن حراس قنصلية أميركا، وهذه المفاجأة الغريبة، كانوا جميعا من كتيبة 17 فبراير (شباط) التي يقودها إسلاميون متشددون، وأعتقد أن سوتلوف بدأ يتحدث عن فريقه المفضل لكرة السلة في أميركا «ميامي هيت»، لطرد الخوف.
وجلسنا على الشاطئ ننتظر لمدة ساعة، وأخيرا ظهر 3 حراس، وليس اثنين فقط، وأمضينا أكثر من ساعتين نطرح الأسئلة الدقيقة عليهم ونتلقى الإجابات عن أوصاف المهاجمين والطريقة التي اقتحموا بها المبنى، وكيفية مقتل السفير، واختفى الحراس في الجانب الآخر في الظلام ناحية البحر، وتوجهت مع سوتلوف بحثا عن سيارة أجرة، وحين شعرنا أن هناك من يتعقب خطواتنا في شوارع بنغازي، حملنا حقائبنا وهربنا من المدينة. وانفردت «الشرق الأوسط» بنشر تلك الشهادات في حينه، ولا أعرف إن كان سوتلوف قد تمكن من نشر القصة في أي من الصحف الأميركية، لأن ما حصلنا عليه كان يبدو منه أنه يدين بشكل أو بآخر وزارة الخارجية الأميركية، التي كانت مسؤولة عن الاستجابة لطلبات تأمين مقار السفارات في الخارج.
ومرة أخرى يختفي سوتلوف دون أن تعرف إن كان في غرب منطقة الشرق الأوسط أم في شرقها، ويأتي صوت والدته من أميركا، عبر البحار والمحيطات، لتسأل: «أين طفلي.. انصحه بالعودة والعمل في أميركا. أنا أخاف عليه بشدة. قل له ذلك»، وبعد أسابيع يرن الهاتف: «أين أنت؟»، إنه هو، سوتلوف مجددا، وقد شد الرحال إلى القاهرة قادما من الأراضي المحتلة عبر الأردن، يفتح الإنترنت ويقول: «انظر.. هذه قصة صحافية نشرتها أخيرا عن تجريف إسرائيل لمزرعة زيتون عبد الله؟ ومن هو عبد الله؟ مواطن من رام الله يعيش على هذه المزرعة ولديه 3 أولاد وبنت وعمره 55 سنة ولديه جرار زراعي.. إلخ»، إنه يحفظ كل شيء عن ظهر قلب، «والآن هيا لنأكل كشري».
وبسبب «الكشري» دخل سوتلوف في كثير من المشكلات في القاهرة، ففي الأيام الأولى لثورة 25 يناير 2011؛ حيث كانت اللجان الشعبية تحرس شوارع العاصمة بالسكاكين والسيوف، اتصل وقال إنه يريد أن نخرج لأكلة كشري، واعتقدت أنني أقنعته بأن الوضع خطير في الشوارع، وأن عليه أن يبقى؛ حيث هو في الليل؛ حيث كان يقيم وقتها في فندق ماريوت على نيل ضاحية الزمالك؛ لكن حين نظرت من النافذة لأعرف مصدر الجلبة في الخارج، وجدته وسط أكثر من 30 شابا يشهرون حوله السكاكين التي تلمع تحت الضوء، وقال أحدهم: هل تعرف هذا الجاسوس الإسرائيلي؟ فنزلت مسرعا، وأجريت اتصالا بقوات الجيش، التي جاءت وتسلمته مني بعد أن فحصت جواز سفره الأميركي وعمله كصحافي، وأعادته إلى الفندق.
وفي أواخر عام 2012 اتصل سوتلوف من الولايات المتحدة، لقد نسي حقائب ملابسه مرة أخرى، لكن في القاهرة هذه المرة، في فندق يقع في منطقة معروف بوسط القاهرة، مع العلم أنه لم يستعد ملابسه التي كان قد تركها في اليمن في أواخر عام 2010 حتى مقتله الأسبوع الماضي، وفي آخر مرة جاء فيها إلى القاهرة، بداية صيف العام الماضي، رسم لي طريق دخول الصحافيين إلى سوريا، عبر الحدود التركية، في حراسة الجيش الحر المعارض للرئيس بشار الأسد.
قال: «الصحافي صاحب رسالة، لا يعمل من وراء مكتب، بل يعمل من على الأرض.. تعال معنا لتكتب قصصا عن المقاتلين الإخوان، والسلفيين، والعلويين، والأكراد، والخليط المتصارع في تلك البلاد..»، لكن ارتباطات العمل في القاهرة كانت تحول دون ذلك وقتها، إلى أن جاءت الأخبار، في أغسطس العام الماضي، عن اختفائه هناك، ليظهر اسمه أخيرا ثاني صحافي أميركي يجري إعدامه على يد مقاتلي تنظيم «داعش»، بعد ذبح زميله جيمس فولي، انتقاما من الضربات الجوية الأميركية على مواقع التنظيم في العراق.
وظهر في شريط نشره تنظيم «داعش» يوم الثلاثاء الماضي سوتلوف راكعا على ركبتيه ومرتديا قميصا برتقاليا وإلى جانبه مسلح ملثم يحمل سكينا، وفي الشريط يدين المسلح الملثم الهجمات الأميركية على «الدولة الإسلامية» ويقطع عنق سوتلوف، ثم يعرض رهينة آخر بريطانيا متوعدا بقتله.
وجرى دفن سوتلوف قرب كنيسة تقع في ضواحي مدينة ميامي بولاية فلوريدا الأميركية، وقد بلغ من العمر 31 سنة.. كان مرحا محبا لتدبير المقالب والنكات، ومحبا للحياة والناس أيا كانت دياناتهم أو معتقداتهم أو آرائهم السياسية. وقالت والدته: «أفتخر بابني.. لقد بقي متمسكا بمبادئه إلى النهاية»، بينما استنكر الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، قطع رأس سوتلوف، وقال: «إننا ساخطون للمعلومات الواردة من العراق بشأن جرائم رهيبة يرتكبها تنظيم (داعش) بحق مدنيين بمن في ذلك الذبح المروع لصحافي آخر».



«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE
TT

«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE

تعيش هوليوود واحدة من أكثر لحظاتها اضطراباً منذ عقود، بعدما تحوّلت صفقة الاستحواذ على «ورنر بروس ديسكفري» إلى مواجهة مفتوحة بين عملاق البث «نتفليكس» من جهة، والتحالف الذي تقوده «باراماونت – سكاي دانس» برئاسة ديفيد إليسون (نجل مؤسس «أوراكل» الملياردير لاري إليسون)، المدعوم بثروات هائلة وشبكة نفوذ سياسية، من جهة أخرى.

ورغم أن ظاهر المعركة تجاري بحت، فإن جوهرها يتجاوز حدود صناعة الترفيه ليصل إلى توازنات القوة الإعلامية في الولايات المتحدة، وإلى مقاربات البيت الأبيض التنظيمية، وربما حتى إلى علاقة الرئيس دونالد ترمب بعدد من هذه المؤسسات.

Paramount, Netflix and Warner Bros logos are seen in this illustration taken December 8, 2025. REUTERS/Dado Ruvic/Illustration

أهمية «ورنر بروس»

تعد «ورنر بروس» إحدى أثقل القلاع الثقافية والإعلامية في العالم. فإلى جانب تاريخها السينمائي العريق، تمتلك الشركة واحدة من أضخم مكتبات المحتوى التي تضم أعمالاً من «هاري بوتر» و«دي سي كوميكس» و«غيم أوف ثرونز»، إضافة إلى شبكة «إتش بي أو» ومحفظة تلفزيونية واسعة. والسيطرة عليها تمنح مالكها ثلاث ركائز جوهرية:

• محتوى ضخم عالي القيمة قادر على تغذية منصات البث لعقود مقبلة.

• حقوق بث وتوزيع دولية تتيح توسعاً كبيراً في الأسواق العالمية.

• تكامل رأسي كامل يجمع بين الإنتاج والتوزيع والبث، ويخلق قوة سوقية استثنائية.

من هنا، فإن فوز «نتفليكس» أو «باراماونت» بالاستوديو يعني تغيّراً جوهرياً في المشهد العالمي، وظهور كيان يتجاوز في وزنه معظم الشركات الإعلامية الحالية.

"باراماونت" تخوض سباقاً مع "نتفليكس" لشراء "ورنر بروس" (أ.ف.ب)

صفقة نتفليكس و«قلق» البيت الأبيض

أعلنت «نتفليكس» قبل أيام التوصل إلى اتفاق مبدئي لشراء معظم أصول «ورنر بروس ديسكفري» مقابل 83 مليار دولار (عرضت فيها 27.75 دولار للسهم)، مع إبقاء «سي إن إن» والقنوات الإخبارية والرياضية ضمن شركة مستقلة تدعى «ديسكفري غلوبال».

عدّ كثيرون الخطوة منطقية: توحيد أكبر منصة بث في العالم مع واحد من أضخم الاستوديوهات، ما يخلق عملاقاً يصعب منافسته. لكن العامل السياسي دخل ساحة المعركة بقوة. فقد صرّح الرئيس ترمب بأنه سيكون «منخرطاً» في تقييم الصفقة، ملمّحاً إلى أن الحصة السوقية لـ«نتفليكس» قد تشكل «مشكلة».

ورغم ثنائه على تيد ساراندوس، الرئيس التنفيذي المشارك للمنصة، فإن تلويحه بالتدخل التنظيمي ألقى ظلالاً من الشك على الصفقة، خصوصاً أن عرض «نتفليكس» يجمع بين النقد والأسهم، ما يعرّضه لتدقيق احتكاري واسع.

باراماونت.. عرض «عدائي» ونقد أكثر

لم تتأخر «باراماونت – سكاي دانس» في الرد. فبعد ساعات من إعلان «نتفليكس»، أطلقت عرضاً عدائياً مباشراً للمساهمين بقيمة 108.4 مليار دولار، وبسعر 30 دولاراً للسهم، أي أعلى بكثير من عرض منافستها.

ويمتاز عرض «باراماونت» بأنه أكثر نقداً وتمويلاً مباشراً، مدعوماً من ثروة عائلة إليسون وصناديق «ريدبيرد» و«أفينيتي بارتنرز»، إضافة إلى ثلاثة صناديق سيادية عربية (السعودية، الإمارات، قطر) تشارك بتمويل بلا حقوق حوكمة. ووفقاً لمصادر في الشركة، فإن عرضها «أكثر يقيناً وسرعة في التنفيذ»، مقارنة بعرض «نتفليكس» الذي يتوقع أن يواجه تدقيقاً احتكارياً وتنظيمياً معقداً.

البعد السياسي للصراع

على الرغم من محاولة الطرفين الظهور وكأن معركتهما تجارية بحتة، فإن السياسة حاضرة بكل ثقلها. ويلعب جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترمب، دوراً محورياً بصفته شريكاً مالياً في عرض «باراماونت» عبر «أفينيتي بارتنرز». وتحدثت تقارير بريطانية عن وعود من «باراماونت» بإجراء تغييرات جذرية في «سي إن إن» في حال فوزها، وهو ما يمنح الصفقة بعداً سياسياً حساساً.

في المقابل، ينتقد ترمب «باراماونت» و«سي بي إس» التابعة لها بسبب خلافات مع برنامج «60 دقيقة». ومع ذلك، صعّد ترمب هجومه المباشر على «سي إن إن»، مطالباً بتغيير مالكيها كجزء من أي صفقة لبيع «ورنر». وقال في اجتماع بالبيت الأبيض: «لا أعتقد أنه يجب السماح للأشخاص الذين يديرون (سي إن إن) حالياً بالاستمرار. يجب بيعها مع باقي الأصول». كما أكد أنه سيشارك بنفسه في قرار الموافقة على الصفقة، في خروج غير مألوف عن الأعراف التنظيمية.

هذا التناقض يكشف عن صراع مفتوح على النفوذ الإعلامي، قد يؤثر على القرار النهائي أكثر من معايير الاحتكار ذاتها، رغم أن اكتمال أي من الصفقتين، سيؤدي إلى ولادة عملاق إعلامي فائق.

منصتان فائقتان

اندماج «نتفليكس ورنر بروس» سيخلق أكبر منصة بث ومكتبة محتوى في العالم، تفوق «أمازون برايم» و«ديزني» مجتمعتين في حجم الاشتراكات والمحتوى الأصلي والحقوق. أما اندماج «باراماونت ورنر بروس» فسيكوّن أكبر استوديو سينمائي - تلفزيوني متكامل، يضم «سي بي إس» و«باراماونت» و«إيتش بي أو» و«سي إن إن» (في حال لم تُفصل)، ما يجعله النسخة الحديثة من «استوديو هوليوودي شامل». وسيعد الكيان الناتج عن أي من الصفقتين الأكبر عالمياً في مجال الإعلام والترفيه، لكن بدرجات مختلفة: «نتفليكس» ستتربع على قمة البث، و«باراماونت» على قمة الإنتاج التقليدي والخبري.

لكن المخاطر كبيرة أيضاً. فوفق محللين، قد يبتلع الاستوديو إدارة «نتفليكس» ويستهلك طاقاتها، بينما يخشى البعض من تراجع نوعية المحتوى إذا خضعت المكتبة الضخمة لمنهج المنصة القائم على الكميات الكبيرة.

ويتفق خبراء على أن كلا العرضين يواجه عوائق تنظيمية ضخمة، لكن الخطر الأكبر ليس تنظيمياً، بل سياسي، كما قال وليام باير، المدير السابق لقسم مكافحة الاحتكار في وزارة العدل. وقال لصحيفة «واشنطن بوست»: «المشكلة الحقيقية هي إن كانت القرارات ستُبنى على اعتبارات قانونية أم على مصلحة الرئيس».

بالنسبة لمحطة «سي إن إن» التي يناهضها ترمب علناً، فستكون مع عرض «نتفليكس»، جزءاً من شركة منفصلة لديها استقلال أكبر، بعيداً عن الصراع السياسي. وهو ما يعدّه كثير من العاملين فيها مخرجاً آمناً، بعد تخوفهم من احتمال أن تقود «باراماونت»، المتجهة نحو توجّهات محافظة، عمليات تغيير واسعة فيها. ومع ذلك، من الناحية الاقتصادية، سيكون مستقبل «سي إن إن» في شركة صغيرة تحدياً قد يقود إلى تقشف أكبر.

وفي النهاية، قد تكون القرارات السياسية هي العامل الحاسم في تحديد من سيضع يده على إرث «ورنر بروس» العريق.


قرارات «يوتيوب» حول «مراقبة المحتوى» تثير جدلاً متصاعداً

شعار «يوتيوب»         (د.ب.أ)
شعار «يوتيوب» (د.ب.أ)
TT

قرارات «يوتيوب» حول «مراقبة المحتوى» تثير جدلاً متصاعداً

شعار «يوتيوب»         (د.ب.أ)
شعار «يوتيوب» (د.ب.أ)

أثارت قرارات «يوتيوب» بشأن «مراقبة المحتوى» بالاعتماد على «نظام الإشراف القائم على الذكاء الاصطناعي في المنصة»، جدلاً متصاعداً بين صُنّاع المحتوى، بعد تكرار حالات الإغلاق المفاجئ لقنوات بـ«تهم الممارسات الخادعة وعمليات الاحتيال»، دون ردود واضحة من المنصة حول الأسباب. إذ يأتي الرد على الطعون بشكل «نمطي جاهز»، مما يعرّض قنوات بارزة للاختفاء بعد سنوات من الجهد.

واللافت أن بعض حالات حجب القنوات انتهت باستعادتها بعد لجوء صُنّاع المحتوى إلى إثارة «ضجة» على منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، حسبما رصد «سيرش إنجين جورنال». من جانبها، نفت «يوتيوب»، عبر مدونتها، اتهامات «عدم الدقة»، وقالت إنها «لم ترصد أي مشكلات واسعة النطاق في قرارات إغلاق القنوات، وإن نسبة صغيرة فقط من إجراءات الإنفاذ يتم التراجع عنها».

ويرى المتخصص في الإعلام الرقمي بالإمارات، تاج الدين الراضي، أن «يوتيوب» منصة لها استراتيجية خاصة مقارنةً بالمنصات الأخرى. وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «(يوتيوب) ارتبطت بالمحتوى الغني والعميق والفيديو الطويل، ومن ثم فإن أي تطوير في المنصة يجب ألا يخترق هويتها». وأضاف أن «(يوتيوب) ليست منصة تصفّح سريع بلا مضمون، فما يميزها هم صُنّاع محتوى استثمروا وقتاً وجهداً وإنتاجاً».

وعن توسّع «يوتيوب» في استخدام الذكاء الاصطناعي في «مراقبة المحتوى»، قال الراضي: «هذا الاتجاه من (يوتيوب) هو أمر مفهوم في إطار تطوير إدارة المنصة، لكن بشرط أساسي، ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى نسخة جديدة من (السباق وراء السرعة) على حساب جوهر (يوتيوب)». وأشار إلى أن «أي نموذج رقابي آلي يحمل هامش خطأ عالي المستوى، وعملياً قد لا يكون عادلاً، وهنا تكلفة الخطأ كبيرة، لأنها منصة مهنية أكثر منها منصة عبور سريع».

وأثار الراضي خلال حديثه شعوراً بـ«عدم الأمان لدى صُنّاع المحتوى على (يوتيوب)» وتأثير هذه القرارات على الاستثمار في المنصة. وقال إن «مناخ عدم الأمان يدفع (اليوتيوبرز) نحو محتوى أكثر تحفظاً وأقل عمقاً، ويضعف استعدادهم للاستثمار طويل الأمد في (يوتيوب)، لأن مستقبلهم يصبح مرهوناً بقرار آلي غير متوقع».

وتحدث موقع Dexerto الإنجليزي عن حالة صانع محتوى يملك آلاف المشتركين، تم حظره بسبب تعليق لصانع المحتوى كتبه من حساب آخر عندما كان عمره 13 عاماً. ولاحقاً اعتذرت «يوتيوب» وأبلغته أن الحظر كان خطأ من جانبها.

وأعلنت «يوتيوب» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن برنامج تجريبي باسم «الفرص الثانية» يسمح لبعض المبدعين بإنشاء قنوات جديدة إذا استوفوا شروطاً محددة، وكانت قنواتهم قد أُغلقت منذ أكثر من عام، إلا أن البرنامج لا يعيد الفيديوهات أو المشتركين المفقودين.

من ناحية أخرى، أشار الرئيس التنفيذي لـ«يوتيوب»، نيل مواهان، في مقابلة مع مجلة «تايم»، في ديسمبر (كانون الأول) الجاري، إلى «نية الشركة توسيع أدوات الإشراف بالذكاء الاصطناعي». وقال إن «(يوتيوب) ستمضي قدماً في توسيع الإنفاذ بالذكاء الاصطناعي رغم مخاوف المبدعين».

ويعتقد الصحافي المصري، المدرّب المتخصص في الإعلام الرقمي، معتز نادي، أن النموذج الأنسب ليس اختياراً بين مراجعة بشرية أو شفافية خوارزميات تعلن عنها منصة «يوتيوب»، بل معادلة هجينة تجمع أيضاً الذكاء الاصطناعي. وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «ذلك يتحقق من خلال الفرز أولاً وفق معايير واضحة، لكن مع مراجعة بشرية إلزامية تشرح سبب المخالفات والبنود التي تعرضت للانتهاك في السياسة الخاصة بالموقع وكيفية تقديم استئناف (ضد قرارات الحظر)».

وتعليقاً على تصريح رئيس «يوتيوب» بأن الشركة ستواصل توسيع استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، قال معتز نادي إن «العلاقة المقبلة مع صُناع المحتوى ستكون على المحك، فالمنصة تريد الـAI (الذكاء الاصطناعي) لأنه سلاحها لتنقيح كل المحتوى في ظل العدد الهائل من الحسابات».

وأضاف أن «صُنّاع المحتوى أمام سيناريو مواصلة العمل على منصة (يوتيوب) للحصول على مزيد من الأرباح والانصياع لسياساتها وبنودها، أو التفكير في الهجرة لمنصة تواصل اجتماعي أخرى، لكن يبقى هاجس المكاسب حاضراً، فالكل يبحث عن زيادة موارده، والكنز هنا هو الجمهور بعدد مشاهداته، ومن ثم سيكون الربح هو لغة التعامل بينهما».


بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
TT

بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)

أقفل الإعلامي اللبناني الراحل بسّام برَّاك باب العربية الفصحى وراءه ومشى. أصدقاؤه وزملاؤه، عندما تسألهم من يرشحون لحمل إرثه، يردّون: لا أحد. حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه. أبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته. ألقابه ترتبط ارتباطاً مباشراً بها، وهي كثيرة. فهو «الأستاذ» و«المعلّم» و«عاشق اللغة» و«حارسها». كثيرون من أهل الإعلام والصحافة يعدّونه شخصية لن تتكرر في لبنان. وكان برَّاك قد رحل بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز الـ53 عاماً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

حالة العشق هذه لم يكن يخفيها عن أحد. يفتخر بإجادة العربية وبالتحدث بها في أي مكان ومناسبة. حتى عندما يحاور أولاده في البيت كان يتكلّم معهم بالفصحى، وهو على يقين بأن زرع بذور العربية في أعماقهم، لا بدّ أن تتفتّح براعمها عند الكبر.

الإعلامية لينا دوغان رافقته في مشوار إعلامي طويل (الشرق الأوسط)

جائزة بسام برَّاك للغة العربية

حلم الإعلامي الراحل بتنظيم جائزة يكرّم من خلالها اللغة المغرم بها. فهو تربّى في منزل يهوى أفراده، من والدين وأخوة، العربية. نشأ على حبها والإعجاب بها. حاول أكثر من مرة إطلاق الجائزة، غير أن ظروفاً عاكسته. وعندما أصابه المرض وبدأت صحته تتراجع، أوصى زوجته دنيز بأن تنفذها بعد مماته.

تقول دنيز لـ«الشرق الأوسط»: «كان يطرب للعربية فيقرأها بنهم، ويتحدث بها بشغف. كانت فكرة الجائزة تراوده دائماً. وعندما مرض أوكل هذه المهمة لي. وسنعلن عن هذه الجائزة في الذكرى السنوية الأولى لوفاته، ونقدمها لمن يستحقها».

المناسبة الثانية التي سيتم تكريم بسام برَّاك خلالها تقام في 18 ديسمبر (كانون الأول)، ويصادف اليوم العالمي للغة العربية. تنظّم مدرسة العائلة المقدسة التي كان أستاذ الصفوف العربية فيها، يوماً كاملاً لاستذكاره.

كان الراحل برّاك يلقب بـ"عاشق اللغة العربية وحارسها" (الشرق الأوسط)

بسام الزميل الخلوق

عندما تسأل أصدقاء الراحل بسام برَّاك عنه تأتيك أجوبة متشابهة، وجميعها تصب في خانة «الزميل الخلوق». يؤكدون كذلك أنه إعلامي متميّز بشدة حبّه للعربية الفصحى.

الإعلامية لينا دوغان التي رافقت برَّاك في مشوارٍ مهني طويل، تعدّه مثلها الأعلى في اللغة العربية. وتضيف لـ«الشرق الأوسط»: «كان دقيقاً جداً في ملاحظاته للأخطاء في العربية. فعندما تسمع أذنه أي لفظ أو إلقاء أو خطأ يقترفه مذيع أخبار، يبادر إلى تصحيحه بشكل تلقائي».

وعن التأثير الذي تركه بسام على الذاكرة الجماعية من خلال اللغة، تردّ: «لقد قام بخطوة استثنائية في هذا الخصوص. أطلق مسابقة (الإملاء باللغة العربية). ووضع حجر الأساس للغة نحكيها، ولا نجيد قواعدها ولا كتابة ألفاظها. حتى أنه كان من النادر جداً في المسابقة المذكورة، أن ينجح أحد فيها، مع أن المتسابقين من الطراز الأول، ويتألفون من دكاترة واختصاصيين في العربية، إضافة إلى أدباء ووزراء ونواب».

تروي لينا دوغان أنه لبالغ ولعه بالفصحى، كان يتكلمها مع أطفاله. «تخيلي كان عندما يتوجه لابنه الصغير الذي يؤدي بالفرنسية أغنية طفولية معروفة (Tape les mains) يقول له: (صفّق صفّق). كان حارساً للغة، يعدّها أساسية في هويتنا العربية». وتضيف: «لقد كان إعلامياً مثقفاً جداً ومهذباً، خلوقاً. وهو ما بتنا نفتقده اليوم في مهنتنا».

وعما تعلّمته منه تردّ: «الكثير وأهمها الدقّة في العمل. ولا سيما قراءة النص أكثر من 10 مرات كي أتقّن إذاعته. كما تعلمت منه المثابرة في العمل. فبسام كان يملك تقنية إلقاء مثالية. ومرات كثيرة يرتجل مباشرة على المسرح في مناسبة يطلب منه تقديمها».

الإعلامي جورج صليبي كان رفيق دربه في المهنة وفي حب فيروز (الشرق الأوسط)

فيروز ألهمته فرحل وهو يردد «إيماني ساطع»

علاقة وطيدة كانت تربط بين بسام برَّاك والسيدة فيروز. وكان يردد بأنه عشق العربية من خلالها. كان صوتها يلهمه للبحث في هذه اللغة، وكذلك إتقان مخارج الحروف وعملية تحريك النص. آخر مشوار للقائها، قام به بمناسبة تقديم التعازي لفيروز بوفاة نجلها زياد الرحباني، رافقه فيه زميله وصديقه الإعلامي جورج صليبي. وتشير زوجته دنيز إلى أنه كان على علاقة وثيقة بـ«سفيرتنا إلى النجوم». «كانا يتبادلان الهدايا في المناسبات، ومن بينها ربطة عنق أوصاني بأن يرتديها عندما يرحل. وكان يزورها بين وقت وآخر. أما أغنيتها (إيماني ساطع) فقد بقي يسمعها حتى لحظاته الأخيرة». وتتابع: «صوت فيروز كان يرافقنا دائماً، في البيت كما في السيارة، وفي أي مناسبة أخرى. فلا يتعب ولا يملّ من سماعه وكأنه خبزه اليومي».

ولكن من ترشّح زوجته ليكمل طريق بسام في العربية؟ تجاوب: «في الحقيقة لا أعرف من يمكن أن يحمل هذا الإرث. بسام كان يبدي إعجابه بكثيرين يجيدون العربية الفصحى قراءة ولفظاً، ومن بينهم زملاء كالإعلاميين يزبك وهبي وماجد بو هدير وجورج صليبي ومنير الحافي والمؤرّخ الدكتور إلياس القطار وغيرهم، وجميعهم ضليعون بالعربية ويحبونها».

أصدر بسّام برَّاك كتاباً واحداً من تأليفه بعنوان «توالي الحبر»، وتضمن صوراً أدبية كثيرة، وضعها تحت عنوان الحبر، ومن بينها «حبر الحب» و«حبر الوطن» و«حبر فيروز». كما كتب مؤلفاً بعنوان «أسطورة المال والأعمال»، يحكي فيه سيرة عدنان القصار كرجل أعمال وسياسي. والجدير ذكره أن الإعلامي الراحل تأثر كثيراً بأستاذه الراحل عمر الزين. فهو من وضعه على سكة الفصحى المتقنة خلال عمله الإذاعي عبر أثير «صوت لبنان». وعندما رحل الزين أوصى بمنح برَّاك مكتبته المؤلفة من مجلدات ومؤلفات عربية، وكذلك من مدونات، وقصاصات، ورقية وخواطر. واليوم يترك بسام خلفه، إرثين، أحدهما يخصه، والآخر ورثه عن عمر الزين.

صداقة وزمالة وذكريات مع بسام برَّاك

كل من عرف الراحل بسام برَّاك عن قرب من زملاء وأصدقاء، يحدثك عنه بحماس. فالإعلامي يزبك وهبي يعتبره نابغة في مجاله، وكذلك زافين قيومجيان الذي قال عند رحيله إن اللغة العربية أصبحت يتيمة، بينما وصفه الرئيس اللبناني العماد جوزيف عون بأنه كان «الصحّ دوماً».

حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه، فأبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته

من جهته، يقول زميله جورج صليبي الذي بقي على اتصال به حتى لحظاته الأخيرة، بأنه الزميل الصديق والوفي. كانت تربطه به علاقة مميزة، عمرها 33 سنة، منذ عملهما سوياً في إحدى الإذاعات اللبنانية في أوائل التسعينات. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لجيلنا كان الراحل برَّاك مرجعنا الوحيد للعربية. نتصل به ونستفهم منه حول كيفية تحريك عبارة ما. وحتى عن معنى كلمة تصادفنا لأول مرة. كان موسوعة متنقلة للغة العربية. وأعتبره مقاتلاً شرساً في سبيلها».

ويستطرد صليبي: «كان يبالغ أحياناً في اعتماده الفصحى في أي زمان ومكان. وأذكر مرة عندما أهداني ربطة عنق، اتصلت به لأشكره، قال لي: لا نسميها كرافات أو ربطة عنق، بل (الإربة). فلا أحد يضاهيه في ثقافته وغوصه في هذه اللغة».

ترافق صليبي وبرَّاك في حبّهما لفيروز. الاثنان مولعان بها ويحبان أغنياتها ويحضران حفلاتها، فيلحقان بها أينما كانت حتى خلال تقديمها تراتيل كنائسية. «أول حفلة حضرناها معاً لفيروز، كانت في 17 سبتمبر (أيلول) من عام 1994 وسط بيروت. وبقينا نتذكر هذا التاريخ في موعده من كل عام. فيروز كانت تمثّل له العالم الذي يعشقه تماماً، كما اللغة العربية. وحتى عندما كنا نزورها سوياً، كان يخرج من عندها مفعماً بالفرح والإعجاب».

التقاه صليبي قبل 36 ساعة من وفاته: «حزن كثيراً لمصابه، فمرضه العضال أفقده القدرة على النطق. وهو ما كان يعدّه النقطة الأساسية في مهنته. فكان يحزّ في قلبه كثيراً هذا السكوت الذي ابتلي به وفُرض عليه. المرض أفقده صوته وشغفه بالإلقاء. وكان يعبّر عن هذا الأمر بلوم وعتب. وفي آخر لقاء معه كان شبه فاقد لوعيه، ولا أعرف إذا ما كان يسمعني، أخبرته عن ذكرياتي معه، وعن فيروز وأمور أخرى يحبها».

أما عن إرث بسام برَّاك اللغوي والأدبي، فيعلّق صليبي: «أرشيف غني وضخم، كان يملكه زميلي الراحل بسام. وهو تضاعف بعدما أوصى عمر الزين بتحويل مكتبته الأدبية له بعد رحيله. هذان الإرثان يجب أن يتم الاهتمام بهما من قبل مؤسسة جامعية أو ثقافية، لأن الحفاظ عليهما يفوق قدرة الفرد الواحد».