منذ انطلاقه في عام 1951 مع مجموعة الصُلب والفحم، وعلى امتداد مراحله التأسيسية حتى الصيغة الاتحادية غير المكتملة إلى اليوم، لم يشهد المشروع الأوروبي مثل التحوّلات التي تعاقبت عليه في الفترة الأخيرة، ولم يواجه مخاطر وتهديدات كتلك التي تحاصره حاليّاً من الداخل والخارج.
المملكة المتحدة التي، بسبب تاريخها وجغرافيتها ومسارها السياسي، كان اعتناقها للمشروع الأوروبي دائماً موضع تشكيك وتردد، تتأرجح منذ ثلاث سنوات على عتبة خروج أوقعها في حال من الشلل السياسي غير المسبوق، وأحدث صدعاً اجتماعياً لن يكون من السهل رأبه في ظل الانقسامات الحادة والأزمة القيادية التي تعاني منها كل الأحزاب السياسية.
في ألمانيا التي تشكّل مصدر الدفع الرئيسي للاتحاد الأوروبي، يترنّح الائتلاف الحكومي الكبير بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي الديمقراطي بعد الانتكاسة المؤلمة التي لحقت بالأول والنزيف الشعبي الذي أصاب الثاني في الانتخابات الأوروبية الأخيرة.
الحكومة الإيطالية من جهتها تعد أيامها، بعد الانقلاب الكبير في موازين القوى داخل الصيغة الائتلافية وصعود حزب الرابطة اليميني المتطرف إلى صدارة المشهد السياسي، فيما تطلق المفوضية الأوروبية صفّارات الإنذار وتهدد بعقوبات تاريخية إزاء ارتفاع العجز والدين العام واستمرار الركود في الاقتصاد الإيطالي.
وفي النمسا، أدت فضيحة الفيديو الذي كشف العلاقة بين اليمين المتطرف وموسكو إلى زعزعة الحكومة التي سقطت بعد أن حجبت الثقة عن رئيسها سيباستيان كورتز وتمّت الدعوة إلى إجراء انتخابات مسبقة في سبتمبر (أيلول) المقبل.
وبلجيكا عادت إلى دوّامة تشكيل الحكومات التي قد تستغرق شهوراً كما حصل في عام 2014، أو في عام 2010 عندما استمرت المفاوضات أكثر من سنة وتمخضت عن حكومة لم تعمّر طويلاً.
الوضع في إسبانيا يبدو مختلفاً في ظاهره بعد أن رسّخ الحزب الاشتراكي انتصاره في الانتخابات الأوروبية، لكن مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة تنذر بعقبات كبيرة قد تؤدي مرة أخرى إلى إعادة الانتخابات إذا تعذّر توفير الأغلبية البرلمانية اللازمة ضمن المهل الدستورية.
في الدنمارك، لن يكون فوز الاشتراكيين الديمقراطيين كافياً لتشكيل حكومة جديدة حيث لم يحصلوا سوى على 26 في المائة من الأصوات، مما يضطرهم إلى الدخول في تحالفات مع شركائهم اليساريين الذين يفرضون شروطاً تعجيزية.
أما اليونان فتستعد لانتخابات جديدة في السابع من الشهر المقبل، والبرتغال في السادس من أكتوبر (تشرين الأول)، وبولندا قبل نهاية السنة الجارية. وحده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المشهد الأوروبي يمارس ولاية كاملة، ويستند إلى أغلبية مريحة في الجمعية الوطنية.
في هذه الأجواء الوطنية المتعثّرة، تواجه المؤسسات الأوروبية مرحلة انتقالية مفصلية مع تعيين رؤساء المفوضية والمجلس والبرلمان والمصرف المركزي والمندوب السامي للسياسة الخارجية.
أما على الصعيد الخارجي، فالمشهد لا يقلّ صعوبة مع ازدياد التوتّر في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي تستخدم كامل ترسانتها التجارية والعسكرية والدبلوماسية للدفاع عن مصالحها، وإزاء صعود النفوذ الصيني الذي دخل أوروبا من أبواب عدة، في الوقت الذي تتفاقم مجموعة من الأزمات الدولية التي ليس بمقدور الاتحاد الأوروبي أن ينأى عن تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
منذ أيام احتفل الأوروبيون بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لإنزال قوات الحلفاء على شاطئ النورماندي الفرنسي لصد الهجوم النازي الذي كان قاب قوسين من الإطباق على كامل أوروبا. يومها، أدركت القوى الديمقراطية في أوروبا أن ثمن الحريّة مهما غلا يبقى زهيداً، لكن يبدو أن دروس الماضي لم تعد مصدراً للسياسات الراهنة التي تطرح كل شيء في سلّة المساومات قصيرة الأمد والأهداف السريعة.