لعنة «الأمن المهتز» تلاحق طرابلس مجدداً

الفقر المدقع العامل الأبرز وراء التحاق عدد كبير من شباب المدينة بالمجموعات المتطرفة

شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)
شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)
TT

لعنة «الأمن المهتز» تلاحق طرابلس مجدداً

شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)
شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)

ظنّت طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، أنها طوت في عام 2015 صفحة سوداء من تاريخها لطّختها دماء المئات من أبنائها الذين قُتِلوا سواء في الصراع المذهبي التاريخي الطويل بين أبنائها العلويين الذين يسكنون في «جبل محسن» وأبنائها السنّة الذين يتمركز قسم كبير منهم في «باب التبانة»، أو في التفجيرات الانتحارية المتلاحقة التي شهدتها. إلا أن لعنة «الأمن المهتز» عادت لتلاحقها مجدداً مع إقدام أحد العناصر اللبنانيين الذين كانوا يقاتلون في صفوف «داعش» بسوريا على استهداف آليتين للجيش وقوى الأمن الداخلي في المدينة عشية عيد الفطر، ما أدى إلى مقتل 4 عناصر أمنيين عن طريق الغدر.
وعلى الرغم من كل التطمينات التي تصدر من هنا وهناك حول كون الحادثة فردية وأن الإرهابي الذي فجّر نفسه غير مرتبط بقيادة التنظيم أو بمجموعة كبيرة، تفاقمت مخاوف الطرابلسيين من عودة المسلسل الأمني الدامي ليطرق أبوابهم بقوة بعد نحو 4 سنوات من الاستقرار الذي نعموا به كما باقي المناطق اللبنانية، وذلك منذ سير القوى السياسية بالتسوية التي أدت لانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتسمية سعد الحريري رئيساً للحكومة.
وتتركز الأنظار حالياً على العناصر الذين قاتلوا إلى جانب التنظيمات المتطرفة سواء في سوريا أو العراق وعادوا في الفترة الأخيرة إلى لبنان بعد أن تشربوا «الفكر المتطرف» واكتسبوا خبرات قتالية وأخرى مرتبطة بكيفية تنفيذ أعمال إرهابية. وفيما تتكتم الأجهزة الأمنية حول العدد التقريبي لهؤلاء، تتحدث بعض المصادر عن أنه يتخطى الـ500، علماً بأن أعداداً أخرى منهم تُقدَّر بـ600 جرت محاكمتهم في فترات سابقة بعد أن تم إلقاء القبض على معظمهم عند حدود لبنان الشرقية، وهم لبنانيون وسوريون وفلسطينيون، في وقت لا يزال المئات من أمثالهم قيد التحقيق والمحاكمة.
وقبل نحو أسبوع، أعلنت قيادة الجيش اللبناني أن مديرية المخابرات أحالت إلى القضاء المختص، 8 عناصر ينتمون إلى خلية تابعة لتنظيم «داعش» بعد أن تم رصدهم وتوقيفهم في مناطق لبنانية مختلفة، وقد دخلوا الأراضي اللبنانية خلسة إثر تضييق الخناق عليهم في الداخل السوري وبالتحديد في منطقة الباغوز. وكانت مديرية المخابرات تسلّمت، العام الماضي، ثمانية لبنانيين، بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية كانوا يقاتلون في صفوف «داعش» في سوريا والعراق، وباشرت التحقيق معهم بإشراف القضاء العسكري. وقد أدت التحقيقات إلى توقيف عناصر تابعين للتنظيم في لبنان، كانوا ضمن خلايا نائمة.

الأولوية للعمل المخابراتي
لا تزال الأجهزة الأمنية والعسكرية تدقق في العملية الأمنية الأخيرة التي شهدتها طرابلس، وإن كانت مصادر أمنية لا تخفي أنه يتم التحقيق مع عدد من الموقوفين لتبيان ما إذا كان الإرهابي عبد الرحمن مبسوط الذي نفذ العملية قد خطط لها وحيدا أم أنه مرتبط بخلية إرهابية. وتشير مصادر عسكرية إلى أن العمل اليوم يتم على خطين أساسيين لتفادي تكرار العملية التي شهدتها طرابلس سواء في المدينة نفسها أو في مناطق لبنانية أخرى، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه، ومنذ فترة، بدأ الانكباب على محاولة ضبط الحدود رغم صعوبة الأمر لغياب العدد والعتاد اللازم لقطع الطريق على عمليات تهريب وعودة العناصر الإرهابية من سوريا إلى لبنان. وأوضحت أن الطبيعة الجغرافية لجهة تداخل الأراضي والقرى تصعّب المهمة رغم أن أبراج المراقبة التي تم إنشاؤها غطت مساحات كبيرة إضافة للدوريات التي نقوم بها والتي هي الأخرى أسهمت بضبط الوضع ولكن ليس بالمستوى المطلوب، وهو ما يجعلنا نركّز بشكل أساسي على العمل الأمني والمخابراتي الداخلي الذي يقوم على ملاحقة ومتابعة العناصر العائدين، وقد أسهم ذلك إلى حد كبير بالتضييق عليهم ما صعب مهمتهم بضرب الاستقرار الداخلي. وتشدد المصادر العسكرية على وجوب أن يترافق كل هذا العمل الأمني والمخابراتي مع العمل على محاربة الفكر التكفيري، وهذا يتطلب مجهوداً كبيراً وتضافر جهود عدة فرقاء، لافتة إلى أن تطوع عدد كبير من أبناء طرابلس في الجيش يساهم كثيرا في هذا المجال إضافة إلى الدور الذي تلعبه مديرية التعاون المدني – العسكري في الجيش، التي تنفذ الكثير من المشاريع الإنمائية والنشاطات.
وشهد لبنان ما بين عامي 2013 و2015 عدداً كبيراً من التفجيرات الإرهابية، أغلبها نفّذت بواسطة انتحاريين، دخلوا بسيارات مفخخة من سوريا إلى لبنان، والبعض الآخر عبر دراجات نارية مفخخة وأحزمة ناسفة أوقعت عشرات الضحايا، والآن يُخشى من عودة هذا الكابوس، وفق التقييم الأمني، رغم أن خطره تقلّص إلى حدّ كبير.
ولا ينفي السياسي الطرابلسي والمستشار السياسي لرئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، الدكتور خلدون الشريف، أن العملية الإرهابية التي شهدتها طرابلس «معرضة للتكرار في المدينة كما في أي منطقة لبنانية أخرى، فالخلايا الإرهابية موجودة بكل مكان في العالم وقد ضربت في عدد كبير من الدول، وبالتالي المطلوب العمل اليوم على تعزيز الأمن الوقائي ورفع مستوى التضامن بين أهل الحكم، لأن الأمن الاجتماعي كما الأمن السياسي أساسيان لتوفير الاستقرار الأمني». ويضيف الشريف في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «القوى الأمنية تقوم بدور ممتاز، لكن المطلوب تنسيق أكبر في ما بينها ومتابعة الأشخاص المشكوك بهم بشكل لا يمس الأمن العام والأمن القومي».
ويرى الشريف أنه من الطبيعي والمنطقي أن يعود العناصر الذين قاتلوا إلى جانب المجموعات المتطرفة سواء في سوريا والعراق إلى المناطق ذات الغالبية السنية؛ إن كان طرابلس أو عكار أو البقاع الغربي وغيرها من المناطق، لأن كل هؤلاء من أبناء الطائفة السنية، وبالتالي سيعودون إلى البيئة التي ينتمون إليها، مشدداً على أن ذلك لا يعني على الإطلاق أن هذه البيئة كلها متطرفة، بل على العكس تماماً، باعتبار أن عدد المتطرفين صغير جداً، وهو ما أثبتته التجربة الأخيرة حين عبّر أهالي طرابلس عن كرههم ولفظهم للعملية الإرهابية الأخيرة التي استهدفتهم أصلاً. ويضيف: «لا شك أن الأمن الوقائي عنصر أساسي للتعامل مع هؤلاء العناصر مع أهمية إنشاء مراكز تأهيل للخارجين منهم من السجون لإعادة تكوين شخصيتهم».

خطر إدلب يلاحق لبنان
يعتبر العميد المتقاعد محمد رمال أن ما دفع الخلايا النائمة الإرهابية للتحرك مجدداً من بوابة طرابلس هو الجو العام في البلد وإقحام الأجهزة الأمنية مادّةً من مواد السجال السياسي، لافتا إلى أن الإرهاب لا يتوقف بتوقيف أشخاص وعناصر فالفكر يبقى موجودا، وحين يتحين أصحاب هذا الفكر الفرصة المناسبة لا يتأخرون عن تنفيذ ضرباتهم. ويوضح رمال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن الخلايا النائمة تستفيد من أوضاع متشنجة سواء سياسية أو أمنية لتخرج لإعادة ممارسة نشاطها الإرهابي، أما في مرحلة الاستقرار فهي تجمد عملها لأنها تعي أن لا قدرة وجرأة لها لتخرج في أوضاع مماثلة تسهل عملية كشفها. ويضيف: «أخيرا عاد التشنج السياسي إلى البلد على خلفية ملفات عديدة، حتى إنه تناول مواضيع وقيادات أمنية، ما جعل هذه الخلايا تعتقد أن الفرصة باتت مواتية بعد نحو 3 أو 4 سنوات من الاستقرار والتنسيق الأمني الممتاز بين الأجهزة الذي منع تحركها».
ويتحدث رمال عن مصدرين أساسيين لمد الخلايا النائمة بالعناصر حالياً، أولاً: المجموعات التي يتم توقيفها فتحاكم وتنهي محكوميتها أو يتم الإفراج عنها لأسباب أو لأخرى، وثانياً، المجموعات التي تأتي من سوريا، لافتاً إلى أن «الأنظار تتجه اليوم إلى محافظة إدلب، وما إذا كانت الأمور تتجه هناك لحسم عسكري لصالح النظام السوري ما سيدفع المسلحين هناك للبحث عن منفذ وبما أن معظم الأبواب مغلقة بوجههم سواء لجهة الحدود التركية - السورية أو العراقية - السورية، فإن قسماً كبيراً منهم قد يتجه إلى لبنان باعتبار أن هناك مناطق حدودية غير ممسوكة تماماً». ويضيف: «إذا وجد هؤلاء وضعا أمنيا متوترا وبيئة مناسبة فقد يعودون لممارسة الأعمال الإرهابية. ونخشى أن يكون ما حصل في طرابلس أخيرا محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال محاولة جس النبض حول إمكانية أن يكون الشمال اللبناني مكانا مناسبا لتحرك المسلحين الذين يدخلون إلى لبنان».
وقد تحولت محافظة إدلب السورية التي تسيطر على الأجزاء الأكبر منها، «هيئة تحرير الشام»، التي تشكل «جبهة النصرة» عمودها الفقري، إلى مأوى لعشرات المطلوبين للسلطات اللبنانية الذي غادروا مخيم «عين الحلوة» للاجئين الفلسطينيين الواقع في مدينة صيدا جنوب لبنان قبل نحو عامين. فبعد الإعلان عن وصول شادي المولوي، وهو أحد أبرز هؤلاء المطلوبين إلى الشمال السوري في عام 2017 انضم إليه هيثم الشعبي الملقب بـ«أبو مصعب»، وهو أحد أبرز مسؤولي «الشباب المسلم»، وكان يتزعم مجموعة مؤلفة من نحو 40 عنصراً في المخيم. وقد غادر «عين الحلوة» برفقة الشعبي أيضاً محمد العارف وهو أحد المنتمين إلى «جبهة النصرة»، وقاتل في صفوفها بسوريا، لينضما بذلك لآخرين سبقوهم ومنهم «أبو خطاب» الذي اتهمه الجيش اللبناني بتزعم خلية كانت تخطط لتنفيذ عمليات «إرهابية» في الداخل اللبناني.
واليوم وبعد إعادة طرح مصير إدلب على طاولة المباحثات، يتخوف المسؤولون اللبنانيون من عودة من فروا من لبنان إليه مع عشرات آخرين من العناصر المتطرفة في حال تقرر الحسم العسكري هناك. وما يفاقم المخاوف هو عدم قدرة الجيش اللبناني سواء من حيث عدد عناصره أو العتاد الذي يمتلكه من ضبط الحدود الشاسعة مع سوريا بشكل كلي، ما قد يسهل مهمة تسلل هؤلاء إلى أكثر من منطقة لبنانية خصوصاً المناطق التي قد يجدون فيها أرضية مناسبة لاستعادة نشاطهم.

الفقر والسياسة... سببا البلاء
يُعتبر الفقر المدقع العامل الأبرز الذي يؤدي لالتحاق عدد كبير من شباب المدينة بالمجموعات المتطرفة، إذ تُعد طرابلس من أفقر المدن على حوض البحر المتوسط، وهو ما جعل كثيراً من أبنائها يلتحقون بالتنظيمات الإرهابية ويشاركون بأكثر من 20 جولة قتال بين باب التبانة وجبل محسن منذ عام 2007. وبحسب الأرقام المتوافرة لدى مجموعات المجتمع المدني، فإن 57 في المائة من المقيمين في طرابلس يعيشون تحت خط الفقر والحرمان، فيما 77 في المائة من العائلات في المدينة محرومة اقتصاديا (95 في المائة في التبانة والسويقة). وتصل نسب البطالة في طرابلس إلى مستويات مرتفعة جدّاً، تصل لثلث الشباب، فيما لا يتخطى دخل نحو نصف الأسر في طرابلس 500 دولار أميركي شهرياً.
ورغم كل الوعود التي أغدقها زعماء المدينة على أهلها خلال الانتخابات النيابية الماضية، لم يلحظ هؤلاء تطبيق أي منها على أرض الواقع. وهو ما تعبّر عنه ح. ي. (40 عاماً) لافتة إلى أن المدينة لا تزال تتخبط في فقرها وعوزها، وكأنه لم يكن ينقصها إلا تحريك الوضع الأمني مجددا كي يتحول الوضع فيها إلى «كارثي» بكل ما للكلمة من معنى. وتشير ح. ي. في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن أكثر من يثير السخرية هو أن «من لم يلتفت إلينا طوال العام الماضي عاد إلى المدينة في الانتخابات الفرعية الأخيرة ليردد نفس الوعود التي رددها في مايو (أيار) 2018، لكن جواب الأهالي كان حاسما هذه المرة، باعتبار أن نسبة الاقتراع لم تتجاوز الـ12.5 في المائة».
وقد تمكن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي من حصد العدد الأكبر من المقاعد النيابية في المدينة في الانتخابات العامة بحيث فاز تيار «العزم» الذي يرأسه بـ4 مقاعد مقابل 3 لـ«تيار المستقبل» الذي يرأسه رئيس الحكومة سعد الحريري، ومقعد لفيصل كرامي.
إلا أن المعركة الانتخابية الضارية التي شهدتها طرابلس في مايو 2018 لم تتكرر أخيراً خلال الانتخابات الفرعية التي شهدتها المدينة بعد إبطال المجلس الدستوري نيابة مرشحة «المستقبل» ديما جمالي، فقد نجح الحريري في الأشهر الماضية بإصلاح علاقته بكل الزعماء والقوى الطرابلسية انطلاقاً من ميقاتي مروراً بوزير العدل السابق أشرف ريفي، وقد طوى مع الأخير ثلاث سنوات من الخلافات المستحكمة، ما مهَّد لفوز جمالي مجدداً بمقعدها النيابي.
وكان الافتراق وقع بين الحريري وريفي على أثر إعلان الأخير استقالته بشكل مفاجئ من حكومة الرئيس تمام سلام، في 21 فبراير (شباط) 2016، من دون التنسيق مع الحريري الذي سمّاه وزيراً للعدل في تلك الحكومة، ووصل الخلاف ذروته بين الرجلين، خلال الانتخابات البلدية التي خاضها ريفي في طرابلس بمواجهة تحالف الحريري ورئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، وتمكن خلالها ريفي من اكتساح المقاعد البلدية بكاملها، لكنه أخفق في تكرار هذا الانتصار في الانتخابات النيابية.

الحقبة السوداء
وعرفت طرابلس ما بين عامي 2007 و2015 «حقبة سوداء» في تاريخها، فشهدت منطقتا جبل محسن وباب التبانة أكثر من 20 جولة قتال أدت لمقتل وجرح المئات، وتأججت جولات العنف هذه بعد العام 2011 على خلفية النزاع السوري مع وقوف غالبية السنَّة في لبنان إلى جانب المعارضة السورية وتأييد العلويين لنظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وفي شهر أغسطس (آب) 2013 تم تفجير مسجدي «التقوى» و«السلام» في طرابلس، ما أدى إلى سقوط 42 قتيلاً ونحو 500 جريح. واتهم القضاء اللبناني في عام 2016 ضابطين في المخابرات السورية بالوقوف وراء التفجيرين وشملت الخلية اللبنانية المنفذة 5 أشخاص من جبل محسن، بحسب القرار الاتهامي.
واستمر المسلسل الأمني في عام 2014. إذ شهدت منطقة التبانة، مواجهات بين الجيش ومجموعتي شادي المولوي وأسامة منصور المنتميين فكريّاً لـ«جبهة النصرة»، انتهت بهروبهما من المنطقة.
وفي يناير (كانون الثاني) من عام 2015، قُتِل 9 أشخاص وأصيب 37 آخرون بجروح في تفجيرين انتحاريين وقعا في منطقة جبل محسن ذات الغالبية العلوية. إلا أن هذا المسلسل وصل إلى نهايات سعيدة مع توصل القوى السياسية المعنية إلى نوع من التسوية في العام نفسه أدَّت إلى خروج أمين عام الحزب العربي الديمقراطي رفعت عيد من جبل محسن إلى سوريا، علماً بأن المحكمة العسكرية الدائمة أصدرت حكماً غيابيّاً قضى بإنزال عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة بحقه، وذلك لإدانته بجرم التحريض على الاقتتال بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة وتوزيع الأسلحة والحضّ على القتل، بينما صدرت مذكرة بحث وتحرٍّ في حق والده علي عيد للتحقيق معه في مسألة إخفاء أشخاص مقربين منه متهمين بالتورط في تفجيري المسجدين بطرابلس.
ولا يزال رفعت عيد في سوريا، وهو يحمّل حلفاءه في قوى «8 آذار» مسؤولية «نفيه». وقد قال في حديث سابق لـ«الشرق الأوسط» إن «التسويات السياسية في لبنان دائماً تحصل على دمنا، وليس الخصوم فقط من يتحملون المسؤولية، بل عتبنا أيضاً على حلفائنا بالدرجة الأولى الذين هم من طلبوا منا الخروج من طرابلس وجرت معنا اتصالات من أعلى المستويات لهذا السبب»، رافضاً تسمية هذه الجهات.



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.