لعنة «الأمن المهتز» تلاحق طرابلس مجدداً

الفقر المدقع العامل الأبرز وراء التحاق عدد كبير من شباب المدينة بالمجموعات المتطرفة

شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)
شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)
TT

لعنة «الأمن المهتز» تلاحق طرابلس مجدداً

شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)
شرطيون لبنانيون في موقع الهجوم الذي تعرضت له دورية لقوى الأمن الداخلي في مدينة طرابلس يوم الإثنين الماضي (رويترز)

ظنّت طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، أنها طوت في عام 2015 صفحة سوداء من تاريخها لطّختها دماء المئات من أبنائها الذين قُتِلوا سواء في الصراع المذهبي التاريخي الطويل بين أبنائها العلويين الذين يسكنون في «جبل محسن» وأبنائها السنّة الذين يتمركز قسم كبير منهم في «باب التبانة»، أو في التفجيرات الانتحارية المتلاحقة التي شهدتها. إلا أن لعنة «الأمن المهتز» عادت لتلاحقها مجدداً مع إقدام أحد العناصر اللبنانيين الذين كانوا يقاتلون في صفوف «داعش» بسوريا على استهداف آليتين للجيش وقوى الأمن الداخلي في المدينة عشية عيد الفطر، ما أدى إلى مقتل 4 عناصر أمنيين عن طريق الغدر.
وعلى الرغم من كل التطمينات التي تصدر من هنا وهناك حول كون الحادثة فردية وأن الإرهابي الذي فجّر نفسه غير مرتبط بقيادة التنظيم أو بمجموعة كبيرة، تفاقمت مخاوف الطرابلسيين من عودة المسلسل الأمني الدامي ليطرق أبوابهم بقوة بعد نحو 4 سنوات من الاستقرار الذي نعموا به كما باقي المناطق اللبنانية، وذلك منذ سير القوى السياسية بالتسوية التي أدت لانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وتسمية سعد الحريري رئيساً للحكومة.
وتتركز الأنظار حالياً على العناصر الذين قاتلوا إلى جانب التنظيمات المتطرفة سواء في سوريا أو العراق وعادوا في الفترة الأخيرة إلى لبنان بعد أن تشربوا «الفكر المتطرف» واكتسبوا خبرات قتالية وأخرى مرتبطة بكيفية تنفيذ أعمال إرهابية. وفيما تتكتم الأجهزة الأمنية حول العدد التقريبي لهؤلاء، تتحدث بعض المصادر عن أنه يتخطى الـ500، علماً بأن أعداداً أخرى منهم تُقدَّر بـ600 جرت محاكمتهم في فترات سابقة بعد أن تم إلقاء القبض على معظمهم عند حدود لبنان الشرقية، وهم لبنانيون وسوريون وفلسطينيون، في وقت لا يزال المئات من أمثالهم قيد التحقيق والمحاكمة.
وقبل نحو أسبوع، أعلنت قيادة الجيش اللبناني أن مديرية المخابرات أحالت إلى القضاء المختص، 8 عناصر ينتمون إلى خلية تابعة لتنظيم «داعش» بعد أن تم رصدهم وتوقيفهم في مناطق لبنانية مختلفة، وقد دخلوا الأراضي اللبنانية خلسة إثر تضييق الخناق عليهم في الداخل السوري وبالتحديد في منطقة الباغوز. وكانت مديرية المخابرات تسلّمت، العام الماضي، ثمانية لبنانيين، بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية كانوا يقاتلون في صفوف «داعش» في سوريا والعراق، وباشرت التحقيق معهم بإشراف القضاء العسكري. وقد أدت التحقيقات إلى توقيف عناصر تابعين للتنظيم في لبنان، كانوا ضمن خلايا نائمة.

الأولوية للعمل المخابراتي
لا تزال الأجهزة الأمنية والعسكرية تدقق في العملية الأمنية الأخيرة التي شهدتها طرابلس، وإن كانت مصادر أمنية لا تخفي أنه يتم التحقيق مع عدد من الموقوفين لتبيان ما إذا كان الإرهابي عبد الرحمن مبسوط الذي نفذ العملية قد خطط لها وحيدا أم أنه مرتبط بخلية إرهابية. وتشير مصادر عسكرية إلى أن العمل اليوم يتم على خطين أساسيين لتفادي تكرار العملية التي شهدتها طرابلس سواء في المدينة نفسها أو في مناطق لبنانية أخرى، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه، ومنذ فترة، بدأ الانكباب على محاولة ضبط الحدود رغم صعوبة الأمر لغياب العدد والعتاد اللازم لقطع الطريق على عمليات تهريب وعودة العناصر الإرهابية من سوريا إلى لبنان. وأوضحت أن الطبيعة الجغرافية لجهة تداخل الأراضي والقرى تصعّب المهمة رغم أن أبراج المراقبة التي تم إنشاؤها غطت مساحات كبيرة إضافة للدوريات التي نقوم بها والتي هي الأخرى أسهمت بضبط الوضع ولكن ليس بالمستوى المطلوب، وهو ما يجعلنا نركّز بشكل أساسي على العمل الأمني والمخابراتي الداخلي الذي يقوم على ملاحقة ومتابعة العناصر العائدين، وقد أسهم ذلك إلى حد كبير بالتضييق عليهم ما صعب مهمتهم بضرب الاستقرار الداخلي. وتشدد المصادر العسكرية على وجوب أن يترافق كل هذا العمل الأمني والمخابراتي مع العمل على محاربة الفكر التكفيري، وهذا يتطلب مجهوداً كبيراً وتضافر جهود عدة فرقاء، لافتة إلى أن تطوع عدد كبير من أبناء طرابلس في الجيش يساهم كثيرا في هذا المجال إضافة إلى الدور الذي تلعبه مديرية التعاون المدني – العسكري في الجيش، التي تنفذ الكثير من المشاريع الإنمائية والنشاطات.
وشهد لبنان ما بين عامي 2013 و2015 عدداً كبيراً من التفجيرات الإرهابية، أغلبها نفّذت بواسطة انتحاريين، دخلوا بسيارات مفخخة من سوريا إلى لبنان، والبعض الآخر عبر دراجات نارية مفخخة وأحزمة ناسفة أوقعت عشرات الضحايا، والآن يُخشى من عودة هذا الكابوس، وفق التقييم الأمني، رغم أن خطره تقلّص إلى حدّ كبير.
ولا ينفي السياسي الطرابلسي والمستشار السياسي لرئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، الدكتور خلدون الشريف، أن العملية الإرهابية التي شهدتها طرابلس «معرضة للتكرار في المدينة كما في أي منطقة لبنانية أخرى، فالخلايا الإرهابية موجودة بكل مكان في العالم وقد ضربت في عدد كبير من الدول، وبالتالي المطلوب العمل اليوم على تعزيز الأمن الوقائي ورفع مستوى التضامن بين أهل الحكم، لأن الأمن الاجتماعي كما الأمن السياسي أساسيان لتوفير الاستقرار الأمني». ويضيف الشريف في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «القوى الأمنية تقوم بدور ممتاز، لكن المطلوب تنسيق أكبر في ما بينها ومتابعة الأشخاص المشكوك بهم بشكل لا يمس الأمن العام والأمن القومي».
ويرى الشريف أنه من الطبيعي والمنطقي أن يعود العناصر الذين قاتلوا إلى جانب المجموعات المتطرفة سواء في سوريا والعراق إلى المناطق ذات الغالبية السنية؛ إن كان طرابلس أو عكار أو البقاع الغربي وغيرها من المناطق، لأن كل هؤلاء من أبناء الطائفة السنية، وبالتالي سيعودون إلى البيئة التي ينتمون إليها، مشدداً على أن ذلك لا يعني على الإطلاق أن هذه البيئة كلها متطرفة، بل على العكس تماماً، باعتبار أن عدد المتطرفين صغير جداً، وهو ما أثبتته التجربة الأخيرة حين عبّر أهالي طرابلس عن كرههم ولفظهم للعملية الإرهابية الأخيرة التي استهدفتهم أصلاً. ويضيف: «لا شك أن الأمن الوقائي عنصر أساسي للتعامل مع هؤلاء العناصر مع أهمية إنشاء مراكز تأهيل للخارجين منهم من السجون لإعادة تكوين شخصيتهم».

خطر إدلب يلاحق لبنان
يعتبر العميد المتقاعد محمد رمال أن ما دفع الخلايا النائمة الإرهابية للتحرك مجدداً من بوابة طرابلس هو الجو العام في البلد وإقحام الأجهزة الأمنية مادّةً من مواد السجال السياسي، لافتا إلى أن الإرهاب لا يتوقف بتوقيف أشخاص وعناصر فالفكر يبقى موجودا، وحين يتحين أصحاب هذا الفكر الفرصة المناسبة لا يتأخرون عن تنفيذ ضرباتهم. ويوضح رمال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن الخلايا النائمة تستفيد من أوضاع متشنجة سواء سياسية أو أمنية لتخرج لإعادة ممارسة نشاطها الإرهابي، أما في مرحلة الاستقرار فهي تجمد عملها لأنها تعي أن لا قدرة وجرأة لها لتخرج في أوضاع مماثلة تسهل عملية كشفها. ويضيف: «أخيرا عاد التشنج السياسي إلى البلد على خلفية ملفات عديدة، حتى إنه تناول مواضيع وقيادات أمنية، ما جعل هذه الخلايا تعتقد أن الفرصة باتت مواتية بعد نحو 3 أو 4 سنوات من الاستقرار والتنسيق الأمني الممتاز بين الأجهزة الذي منع تحركها».
ويتحدث رمال عن مصدرين أساسيين لمد الخلايا النائمة بالعناصر حالياً، أولاً: المجموعات التي يتم توقيفها فتحاكم وتنهي محكوميتها أو يتم الإفراج عنها لأسباب أو لأخرى، وثانياً، المجموعات التي تأتي من سوريا، لافتاً إلى أن «الأنظار تتجه اليوم إلى محافظة إدلب، وما إذا كانت الأمور تتجه هناك لحسم عسكري لصالح النظام السوري ما سيدفع المسلحين هناك للبحث عن منفذ وبما أن معظم الأبواب مغلقة بوجههم سواء لجهة الحدود التركية - السورية أو العراقية - السورية، فإن قسماً كبيراً منهم قد يتجه إلى لبنان باعتبار أن هناك مناطق حدودية غير ممسوكة تماماً». ويضيف: «إذا وجد هؤلاء وضعا أمنيا متوترا وبيئة مناسبة فقد يعودون لممارسة الأعمال الإرهابية. ونخشى أن يكون ما حصل في طرابلس أخيرا محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال محاولة جس النبض حول إمكانية أن يكون الشمال اللبناني مكانا مناسبا لتحرك المسلحين الذين يدخلون إلى لبنان».
وقد تحولت محافظة إدلب السورية التي تسيطر على الأجزاء الأكبر منها، «هيئة تحرير الشام»، التي تشكل «جبهة النصرة» عمودها الفقري، إلى مأوى لعشرات المطلوبين للسلطات اللبنانية الذي غادروا مخيم «عين الحلوة» للاجئين الفلسطينيين الواقع في مدينة صيدا جنوب لبنان قبل نحو عامين. فبعد الإعلان عن وصول شادي المولوي، وهو أحد أبرز هؤلاء المطلوبين إلى الشمال السوري في عام 2017 انضم إليه هيثم الشعبي الملقب بـ«أبو مصعب»، وهو أحد أبرز مسؤولي «الشباب المسلم»، وكان يتزعم مجموعة مؤلفة من نحو 40 عنصراً في المخيم. وقد غادر «عين الحلوة» برفقة الشعبي أيضاً محمد العارف وهو أحد المنتمين إلى «جبهة النصرة»، وقاتل في صفوفها بسوريا، لينضما بذلك لآخرين سبقوهم ومنهم «أبو خطاب» الذي اتهمه الجيش اللبناني بتزعم خلية كانت تخطط لتنفيذ عمليات «إرهابية» في الداخل اللبناني.
واليوم وبعد إعادة طرح مصير إدلب على طاولة المباحثات، يتخوف المسؤولون اللبنانيون من عودة من فروا من لبنان إليه مع عشرات آخرين من العناصر المتطرفة في حال تقرر الحسم العسكري هناك. وما يفاقم المخاوف هو عدم قدرة الجيش اللبناني سواء من حيث عدد عناصره أو العتاد الذي يمتلكه من ضبط الحدود الشاسعة مع سوريا بشكل كلي، ما قد يسهل مهمة تسلل هؤلاء إلى أكثر من منطقة لبنانية خصوصاً المناطق التي قد يجدون فيها أرضية مناسبة لاستعادة نشاطهم.

الفقر والسياسة... سببا البلاء
يُعتبر الفقر المدقع العامل الأبرز الذي يؤدي لالتحاق عدد كبير من شباب المدينة بالمجموعات المتطرفة، إذ تُعد طرابلس من أفقر المدن على حوض البحر المتوسط، وهو ما جعل كثيراً من أبنائها يلتحقون بالتنظيمات الإرهابية ويشاركون بأكثر من 20 جولة قتال بين باب التبانة وجبل محسن منذ عام 2007. وبحسب الأرقام المتوافرة لدى مجموعات المجتمع المدني، فإن 57 في المائة من المقيمين في طرابلس يعيشون تحت خط الفقر والحرمان، فيما 77 في المائة من العائلات في المدينة محرومة اقتصاديا (95 في المائة في التبانة والسويقة). وتصل نسب البطالة في طرابلس إلى مستويات مرتفعة جدّاً، تصل لثلث الشباب، فيما لا يتخطى دخل نحو نصف الأسر في طرابلس 500 دولار أميركي شهرياً.
ورغم كل الوعود التي أغدقها زعماء المدينة على أهلها خلال الانتخابات النيابية الماضية، لم يلحظ هؤلاء تطبيق أي منها على أرض الواقع. وهو ما تعبّر عنه ح. ي. (40 عاماً) لافتة إلى أن المدينة لا تزال تتخبط في فقرها وعوزها، وكأنه لم يكن ينقصها إلا تحريك الوضع الأمني مجددا كي يتحول الوضع فيها إلى «كارثي» بكل ما للكلمة من معنى. وتشير ح. ي. في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن أكثر من يثير السخرية هو أن «من لم يلتفت إلينا طوال العام الماضي عاد إلى المدينة في الانتخابات الفرعية الأخيرة ليردد نفس الوعود التي رددها في مايو (أيار) 2018، لكن جواب الأهالي كان حاسما هذه المرة، باعتبار أن نسبة الاقتراع لم تتجاوز الـ12.5 في المائة».
وقد تمكن رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي من حصد العدد الأكبر من المقاعد النيابية في المدينة في الانتخابات العامة بحيث فاز تيار «العزم» الذي يرأسه بـ4 مقاعد مقابل 3 لـ«تيار المستقبل» الذي يرأسه رئيس الحكومة سعد الحريري، ومقعد لفيصل كرامي.
إلا أن المعركة الانتخابية الضارية التي شهدتها طرابلس في مايو 2018 لم تتكرر أخيراً خلال الانتخابات الفرعية التي شهدتها المدينة بعد إبطال المجلس الدستوري نيابة مرشحة «المستقبل» ديما جمالي، فقد نجح الحريري في الأشهر الماضية بإصلاح علاقته بكل الزعماء والقوى الطرابلسية انطلاقاً من ميقاتي مروراً بوزير العدل السابق أشرف ريفي، وقد طوى مع الأخير ثلاث سنوات من الخلافات المستحكمة، ما مهَّد لفوز جمالي مجدداً بمقعدها النيابي.
وكان الافتراق وقع بين الحريري وريفي على أثر إعلان الأخير استقالته بشكل مفاجئ من حكومة الرئيس تمام سلام، في 21 فبراير (شباط) 2016، من دون التنسيق مع الحريري الذي سمّاه وزيراً للعدل في تلك الحكومة، ووصل الخلاف ذروته بين الرجلين، خلال الانتخابات البلدية التي خاضها ريفي في طرابلس بمواجهة تحالف الحريري ورئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، وتمكن خلالها ريفي من اكتساح المقاعد البلدية بكاملها، لكنه أخفق في تكرار هذا الانتصار في الانتخابات النيابية.

الحقبة السوداء
وعرفت طرابلس ما بين عامي 2007 و2015 «حقبة سوداء» في تاريخها، فشهدت منطقتا جبل محسن وباب التبانة أكثر من 20 جولة قتال أدت لمقتل وجرح المئات، وتأججت جولات العنف هذه بعد العام 2011 على خلفية النزاع السوري مع وقوف غالبية السنَّة في لبنان إلى جانب المعارضة السورية وتأييد العلويين لنظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وفي شهر أغسطس (آب) 2013 تم تفجير مسجدي «التقوى» و«السلام» في طرابلس، ما أدى إلى سقوط 42 قتيلاً ونحو 500 جريح. واتهم القضاء اللبناني في عام 2016 ضابطين في المخابرات السورية بالوقوف وراء التفجيرين وشملت الخلية اللبنانية المنفذة 5 أشخاص من جبل محسن، بحسب القرار الاتهامي.
واستمر المسلسل الأمني في عام 2014. إذ شهدت منطقة التبانة، مواجهات بين الجيش ومجموعتي شادي المولوي وأسامة منصور المنتميين فكريّاً لـ«جبهة النصرة»، انتهت بهروبهما من المنطقة.
وفي يناير (كانون الثاني) من عام 2015، قُتِل 9 أشخاص وأصيب 37 آخرون بجروح في تفجيرين انتحاريين وقعا في منطقة جبل محسن ذات الغالبية العلوية. إلا أن هذا المسلسل وصل إلى نهايات سعيدة مع توصل القوى السياسية المعنية إلى نوع من التسوية في العام نفسه أدَّت إلى خروج أمين عام الحزب العربي الديمقراطي رفعت عيد من جبل محسن إلى سوريا، علماً بأن المحكمة العسكرية الدائمة أصدرت حكماً غيابيّاً قضى بإنزال عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة بحقه، وذلك لإدانته بجرم التحريض على الاقتتال بين منطقتي جبل محسن وباب التبانة وتوزيع الأسلحة والحضّ على القتل، بينما صدرت مذكرة بحث وتحرٍّ في حق والده علي عيد للتحقيق معه في مسألة إخفاء أشخاص مقربين منه متهمين بالتورط في تفجيري المسجدين بطرابلس.
ولا يزال رفعت عيد في سوريا، وهو يحمّل حلفاءه في قوى «8 آذار» مسؤولية «نفيه». وقد قال في حديث سابق لـ«الشرق الأوسط» إن «التسويات السياسية في لبنان دائماً تحصل على دمنا، وليس الخصوم فقط من يتحملون المسؤولية، بل عتبنا أيضاً على حلفائنا بالدرجة الأولى الذين هم من طلبوا منا الخروج من طرابلس وجرت معنا اتصالات من أعلى المستويات لهذا السبب»، رافضاً تسمية هذه الجهات.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.