«أنبياء سومريون»... البحث عن الحقيقة

الماجدي يستند إلى الحفريات الأركيولوجية المكتشفة حديثاً

«أنبياء سومريون»... البحث عن الحقيقة
TT
20

«أنبياء سومريون»... البحث عن الحقيقة

«أنبياء سومريون»... البحث عن الحقيقة

صدر عن «المركز الثقافي» في الدار البيضاء كتاب جديد يحمل عنوان «أنبياء سومريون: كيف تحوّل عشرة ملوك سومريين إلى عشرة أنبياء توراتيين؟» للدكتور خزعل الماجدي، الباحث المتخصص في علوم وتاريخ الأديان والحضارات والأساطير. يقع الكتاب في ثلاثة أبواب تضم في مجملها 17 فصلاً مع مقدمة وافية وثبت بالمصادر العربية والأجنبية.
يؤكد الباحث في مقدمته أنّ «الغرض من هذا الكتاب هو البحث عن الحقيقة» وليس هناك أي دوافع أخرى سواء كانت دينية أو سياسية أو فكرية، والفضل يعود، كما يذهب المؤلف، إلى الحفريات الأركيولوجية التي غيّرت تصوراتنا عن العالم برمته، فهي لا تدّعي الإحاطة بكل شيء لذلك تركتْ الأمر للمعنيين بالتاريخ والفكر كي يبنوا تصوراتهم الجديدة على أسس علميّة رصينة بعيداً عن شطحات الخيال، وأوهام المُعتقدات النابعة من الخرافات والأساطير القديمة.
يُفرِّق الماجدي بين مصطلحات العهد القديم والتناخ والتوراة ويدعو إلى فكّ الاشتباك بينها في حالة الإشارة إلى الكتاب العبري المقدّس ويقسمها إلى أربعة أقسام وهي: الكتاب المقدّس «بايبل»، والعهد القديم، والتناخ «الذي يتكوّن من قسم الشريعة، وقسم الأنبياء، وقسم الأدبيات»، والتوراة التي تضم الأسفار الخمسة وهي: «سفر التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية». وإضافة إلى الكتب المقدسة المذكورة أعلاه هناك نوعان من الكتب اليهودية وهما: «الكتب اليهودية الأساسية» التي تضم سبعة أنواع وهي: «الترجوم، والمشنا، والتلمود، والهلاخا، والهجادة، والكابالا، والمدراش». و«الكتب اليهودية الثانوية» وتشمل أبوغريفا، السيديبغرافيا، كُتب قمران، والكتب المفقودة مثل «سفر ياشر» و«حروب الرب».
يعتمد الباحث على ثبت الملوك السومريين ليبرهن لنا أنّ الملوك العشرة السومريين الذين تحولوا إلى عشرة أنبياء توراتيين بفعل الرؤية التوراتية. وهؤلاء الملوك أو الآباء هم: «آدم، شيث، إنوش، قينان، مهلالئيل، يارد، أخنوخ (إدريس)، متوشالح، لامك، نوح» الذين ينتمون جميعهم إلى مرحلة ما قبل الطوفان.
يتوسع الماجدي كثيراً في الحديث أسطورة الخلق وسنحاول اختصارها قدر الإمكان كي لا يفلت منّا خيط التيمة الرئيسة للكتاب. لقد خلق الله العالم في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع. ثمة أساطير متعددة في نظرية الخلق تختلف باختلاف الديانات والحضارات والشعوب.
لقد خلق الله آدم في اليوم السادس، جبلهُ من تراب، ونفخَ في أنفه نسمة الحياة، ثم خلق حوّاء لكن الحيّة أغرتهما فأكلا من شجرة المعرفة فعاقبهم الله ثلاثتهم: آدم وحواء والحيّة بالطرد من الجنة لأنهما خرقا وصيته وأكلا الثمرة المحرمة. أنجبت حواء قايين وهابيل فأصبح الأول فلاّحاً والثاني راعياً، ثم تنافسا على الزواج من أختهما «إقليما» الأمر الذي دفع قايين لأن يقتل هابيل فيطردهُ الرب إلى مكان صحراوي مهجور شرقي عدن يُدعى «نود» ليقيم هو وسلالته في تلك البرية القاحلة. تلد حواء شيثاً الذي يعني «البديل» الذي عوّضت به عن موت هابيل ويعتقد المسلمون والمندائيون بنبوة شيث لأن الله أنزل عليه 50 صحيفة، كما أنه صاحب أول حرب وقعت على الأرض بينه وبين أخيه «قابيل» كما يسمّى في الرواية الإسلامية. يُعدّ النبي شيث أول مَنْ نطق بالحكمة، وأول من استخرج المعادن، ومن أبرز إنجازاته هو تنظيم الريّ، وبناء السدود. أما الملك الثالث فهو إنوش الذي نزلت عليه الرؤية النبوية وأصبح نبياً. فيما تميّز الملك قينان بالحكمة، ونالها مبكراً في حياته، وقد علّم الناس، ونقل إليهم معارفه وعلومه. تُنسب إلى الأب الخامس مهلالئيل تأسيس مدينتي بابل وسوسة، ومحاربته لجيش الشيطان، كما أنه أول منْ قطع الأشجار. لم تُسجل الوثائق شيئاً إلى الأب السادس يارد الذي يعني اسمه حرفياً «سيفقد مكانته أو سيسقط» ولعله كان منشغلاً في الحفاظ على عرشه. أما الأب السابع فهو أخنوخ أو النبي إدريس عند المسلمين، ويقابله في التراث السومري والرافديني هرمس الذي علّم الناس نواميس الحضارة، واخترع الكتابة. لم يمت إدريس، بل صعد إلى السماء وتحوّل إلى رئيس للملائكة باسم ميتاترون. توصّل الماجدي إلى أنّ جذور شخصية أخنوخ سومرية وأصله هو «أينمين دور أنّا»، ملك مدينة سبار، أي من ملوك ما قبل الطوفان. يتميز الملك الثامن ميتوشالح بجمعه بين الحكمة والملوكية، وهو رجل السهم، وصاحب الوثبة السريعة، ويقابله من الملوك السومريين أوبار - توتو من مدينة شروباك ومن أبرز منجزاته هي مكافحته للمجاعة التي حدثت في عصره. أما «لامِك» وهو الملك التاسع الذي يوصف بأنه أول من عدّد زوجاته حين تزوج امرأتين، وهو صاحب أقدم قصيدة شعرية وقد وجهها لزوجتيه. يقابله شروباك بالسومرية والذي يعني «مكان الشفاء». تقترن وصايا شروباك بهذا الملك وتعد هذه الوصايا النص الأدبي الأول في التاريخ، وهو نص سومري كُتب في حدود 2600 ق. م. وسوف ينجب شروباك ابنا يُدعى زيو سيدرا وهو بطل الطوفان السومري الذي يسمّى «نوح السومري» وقد تأثرت لاءات موسى كثيراً بوصايا شروباك حتى بلغت درجة التطابق تقريباً. أما الملك العاشر والأخير فهو نوح الذي عاش 950 سنة ومات بعد الطوفان بـ350 عاماً ودفن في جبل أرارات. علامته المميزة سفينة نوح، وأهم منجزاته هي إنقاذ الجنس البشري والأحياء الأخرى من الطوفان.
يعتقد الماجدي أنّ عالم الآشوريات الإنجليزي جورج سميث قد فتح الباب واسعاً حين اكتشف في اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش الأصل الرافديني لقصة طوفان نوح العبري، فعقد أول مقارنة بين أصل حكاية الطوفان وأحد فروعها التي أعيدت روايتها في العهد القديم، بل إن فكرة الطوفان عند شعوب معينة مأخوذة من الأصل السومري مع اختلافات طفيفة. يُرجع الماجدي فكرة الحكماء السبعة إلى الحقبة السومرية وقد ورد ذكرهم في «ملحمة جلجامش».
يرى الباحث أنّ هناك خمس مدن سومرية ازدهرت قبل الطوفان وهي أريدو، وبادتبيرا، ولاراك، وسبار وشروباك. أما جنة عدن فهي مدينة أريدو نفسها، فيما تقع «نود» شرقيها تماماً. وحينما حدث الطوفان لم يترك أثراً لهذه المدن. ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أنّ الطوفان قد شمل جنوب العراق فقط وأن مخيلة الشعوب هي التي جعلته يغطي العالم برمته، وأن سفينة نوح قد بولغ بحجمها وبعدد البشر والكائنات الحية التي دخلت إلى جوفها، ويعتقد الماجدي أن شكلها مدور على هيئة «القُفّة» التي تستعمل في أنهار وسط وجنوب العراق. كما يتوقف الباحث عند الناصورائيين الذين أوجدوا الديانة المندائية لكنّ جهلهم باللغة هو الذي سبب ضياع الجزء الأكبر من معارفهم ولم يستطيعوا تدوينها لأن الكتابة اُخترعت في زمن النبي إدريس سنة 3200 ق.م. إن كتاب «أنبياء سومريون» يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ويدحض النظريات التوراتية المُضللة التي اعتاشت على الفكر السومري النيّر.


مقالات ذات صلة

المسكونون بشغف الأسئلة

كتب ديفيد دويتش

المسكونون بشغف الأسئلة

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية

لطفية الدليمي
كتب هانز كونغ

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

كان العالم اللاهوتي الكاثوليكي السويسري هانز كونغ (1928-2021) متحمساً جداً للحوار مع الإسلام. والكثيرون يعدونه أكبر عالم دين مسيحي في القرن العشرين

هاشم صالح
ثقافة وفنون هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية في «جائزة الشيخ زايد للكتاب»

أعلنت جائزة الشيخ زايد للكتاب في مركز أبوظبي للغة العربية، عن اختيار الكاتب الياباني العالمي هاروكي موراكامي شخصية العام الثقافية.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
ثقافة وفنون «ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

«ملصقات بيروت» للروائي ماجد الخطيب... رحلة باتجاه واحد

حين يقرر الإنسان السفر، تراوده مشاعر القلق والترقب، لكنه يجد في التجربة مغامرةً وتجديداً

حمدي العطار (بغداد)
كتب تشارلي إنجلش

الكتب مهّدت لانتصار الغرب الحاسم في الحرب الباردة

يبدو اسم كتاب صحافي «الغارديان» البريطانية تشارلي إنجلش الأحدث «نادي الكتاب في وكالة المخابرات المركزية» أقرب لعنوان رواية جاسوسيّة منه لكتاب تاريخ

ندى حطيط

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

هانز كونغ
هانز كونغ
TT
20

هانز كونغ والحوار مع الإسلام

هانز كونغ
هانز كونغ

كان العالم اللاهوتي الكاثوليكي السويسري هانز كونغ (1928-2021) متحمساً جداً للحوار مع الإسلام. والكثيرون يعدونه أكبر عالم دين مسيحي في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين أو من أكبرهم على الأقل. وهو ليس فقط رجل دين وإنما أحد كبار فلاسفة الدين في التاريخ. لقد جمع في شخصه بين الانفتاح الديني الواسع والتعمق الفلسفي الرائع. وهذا شيء نادر أن نراه لدى رجل دين. ولا يوازيه في الجهة العربية أو الإسلامية إلا شخصية فلسفية كبرى كمحمد أركون. لقد كان هذا العالم المسيحي منفتحاً على الإسلام انفتاحاً كبيراً وطيباً. وقد عبر عن ذلك في العديد من كتبه ومقالاته وحواراته. سوف نتوقف لحظة عند بعض الأفكار التي بلورها والآفاق التي دشنها. وقد ورد ذلك في كتابه الضخم في نحو الألف صفحة بعنوان: «الإسلام... الماضي، والحاضر، والمستقبل». وهو يفتتح الكتاب بهذا العنوان اللافت: «نحن ضد صدام الثقافات والحضارات».

يقول لنا المؤلف منذ البداية ما فحواه:

كتابي هذا عن الإسلام ليس إلا استمرارية متواصلة لكتابي عن اليهودية الصادر عام 1992، ثم كتابي الآخر الصادر عن المسيحية عام 1994. وهكذا أكون قد شملت الأديان الإبراهيمية الثلاثة بأبحاثي المطولة العويصة التي استغرقت مني عشرات السنين. وكل كتاب لا يقل عن الألف صفحة بل بعضها يزيد.

(بين قوسين ويا ليتها تترجم إلى العربية. ولكن من يتجرأ على ترجمتها؟ حتى الترجمة ممنوعة! ولو ترجمت لفهمنا معنى الديانات الإبراهيمية الثلاثة عن جد ولفهمنا أيضا ماهية القواسم الكبرى المشتركة فيما بينها وكذلك أوجه الاختلاف والخصوصية الفريدة لكل واحد منها). جميع هذه الكتب تشكل شرحاً مفصلاً للبرنامج الديني - الفلسفي الذي بلوره المؤلف بغية إحداث طفرة عقلية كبرى في الوعي الجمعي أو الجماعي الدولي والعالمي. وهي طفرة معرفية أصبحت ضرورية لكي تتعايش البشرية فيما بينها بكل سلام ووئام على الرغم من اختلاف أديانها وعقائدها ومذاهبها. وهذا البرنامج الكبير يتمثل في الشعارات التالية التي طرحها المؤلف:

أولاً: لا سلام في العالم دون سلام بين الأديان.

ولا سلام بين الأديان دون حوار صريح بين الأديان.

ثانياً: ولا حوار بين الأديان دون نقد راديكالي للتطرف الديني والتعصب الأعمى. وهذا ما سيؤدي إلى تحقيق الأخوة الإنسانية بين مختلف الأقوام والشعوب (بين قوسين هذا البرنامج هو ما حققته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مؤخراً).

ثالثاً وأخيراً: لا مستقبل للفكر البشري دون تحقيق المصالحة التاريخية بين العلم والإيمان أو بين الدين والفلسفة العقلانية التنويرية. ولا مستقبل دون تجاوز المفهوم الطائفي والإقصائي والتكفيري للدين...

ماذا يقصد المؤلف بالطفرة المعرفية الكبرى التي ينبغي أن تحققها البشرية؟ ماذا يقصد بهذه الطفرة الفلسفية التي تنقلنا من حال إلى حال؟ إنه يقصد ضرورة الانتقال من باراديغم القرون الوسطى إلى باراديغم الحداثة: أي من الفقه القديم الطائفي التكفيري إلى الفقه الجديد المتسامح التنويري. وهو يعني بالباراديغم هنا النموذج المعرفي الأعلى الذي يهيمن على ثقافة ما في فترة معينة من فترات التاريخ البشري. فمن الواضح أن المعيار الفكري الأعلى أو لنقل السقف الفكري الأعلى الذي كان يهيمن على العصور الوسطى غير المعيار الفكري الأعلى أو السقف الفكري الأعلى الذي يهيمن على العصور الحديثة. الأول منغلق كلياً على نفسه والثاني منفتح على كلية العالم. ومشكلتنا في العالم العربي هي أننا لا نزال واقعين تحت هيمنة السقف الأول لا الثاني فيما يخص الحركات الأصولية المتشددة على الأقل. وحدها النخب المتعلمة أو المثقفة خرجت من براثن هذا التطرف الأعمى والباراديغم الظلامي القروسطي القديم. ولكن هل يمكن الخلاص من الكابوس الأصولي السابق الذي خيم علينا طوال ألف سنة متواصلة بين عشية وضحاها؟ هل يمكن التحرر من براثن الفتاوى التكفيرية التي لا تزال تحظى بالقداسة والمعصومية حتى اللحظة؟ مستحيل. هذه العملية استغرقت من أوروبا 300 سنة. فهل يمكن أن يحققها العالم العربي في ظرف 30 سنة فقط؟ هذا هو السؤال. هذه قصة أجيال. هذه معركة العرب الكبرى: أكاد أقول هذه معركة المعارك، أم المعارك. ولكننا سائرون على الطريق بإذن الله. وأكبر دليل على ذلك وثيقة الأخوة الإنسانية الموقعة في أبو ظبي من قبل شيخ الأزهر وبابا روما بتاريخ 4 فبراير (شباط) 2019. وهي وثيقة متكاملة ومفصلة تدعو إلى تحقيق السلام العالمي والعيش المشترك بين جميع الأديان والشعوب والثقافات. وهذا مطابق حرفياً لما نص عليه القرآن الكريم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا). (الحجرات، 13). الشيء نفسه يمكن أن يقال عن وثيقة مكة المكرمة الموقعة بتاريخ 30 مايو (أيار) 2019، التي هي أيضاً وثيقة كبرى تهدف إلى تحقيق السلام بين الأمم، واتباع الوسطية والاعتدال في فهم الدين، والابتعاد عن التطرف والغلو.

كل هذا يمشي في الاتجاه الصحيح لحركة التاريخ. كل هذا يقذف بأمتنا العربية الإسلامية خطوات كبيرة إلى الأمام. كل هذا يصالحنا مع أنفسنا ومع عصرنا ومع الجماعة الدولية بأسرها. وكل هذا يشفينا من مرض التطرف الأعمى الذي لا يؤدي إلا إلى خراب الشعوب والأوطان وتفكيك الوحدة الوطنية. فمتى سيفهم المتطرفون الدمويون ذلك؟ متى سيدركون أن مشروع الإسلام السياسي بكلا شقيه الإخواني والخميني قد وصل إلى الجدار المسدود وفشل فشلاً ذريعاً؟ وذلك لأنه خاضع كلياً لباراديغم القرون الوسطى المظلمة ومضاد لحركة التاريخ، بل ومضاد لجوهر القرآن الكريم ذاته. هذا من جهة. وأما من جهة أخرى فنلاحظ أن هانز كونغ من أنصار مشروع حوار الحضارات المضاد لمشروع صدام الحضارات على طريقة صموئيل هانتنغتون. ولكنه يرى أن هانتنغتون الذي ابتدأ تنظيراته عام 1993 بمقالة واحدة كان حذراً جداً في البداية، ثم أصبح متشدداً في النهاية.

ثم يردف هانز كونغ قائلاً: من الواضح أن مستشار البنتاغون لم يلحظ الديناميكية الداخلية للثقافات البشرية. ولم ينتبه بالأخص إلى مدى حيوية الثقافة العربية الإسلامية وعظمتها التاريخية. مشكلته أنه لم يلحظ مدى تنوعها وانقسامها إلى تيارات خصبة، بل وحتى متصارعة فيما بينها. أَنَظَر إلى الصراع بين العقلانيين الوسطيين من جهة، والأصوليين المتطرفين من جهة أخرى في كل بلد عربي أو إسلامي؟ وبالتالي فخطيئة هانتنغتون تكمن في أنه نظر إلى الحضارة الإسلامية ككتلة واحدة صماء، بكماء، عمياء، ليس لها هدف سوى ضرب الغرب أو تفجيره. أطروحة صموئيل هانتنغتون صحيحة بلا شك ولكنها لا تنطبق إلا على المتطرفين فقط في العالم العربي. إنها لا تنطبق إلا على الحركات الظلامية المتعصبة داخل الثقافة العربية الإسلامية. نظرية صموئيل هانتنغتون لا تنطبق إطلاقاً على تيار نجيب محفوظ أو طه حسين أو محمد أركون أو بقية النهضويين والتنويريين العرب والمسلمين. محال. وإنما تنطبق فقط على تيار المتطرفين من أمثال حسن البنا وسيد قطب والخميني وخامنئي، إلخ. هنا يمكن القول إن موقفه مبرر تماماً، بل واستبق ضربة 11 سبتمبر (كانون الأول) الإجرامية الكبرى. وهذا مدهش فعلاً ودليل على أنه مفكر استشرافي نبوئي واسع المدى ويرى أبعد من أنفه. ولهذا السبب نال كتابه شهرة دولية وترجم إلى مختلف لغات العالم. لقد استبق حركة التاريخ وتنبأ بها قبل أن تحصل. وهذا شيء نادر عند المثقفين بل ولا يقدر عليه إلا فلاسفة التاريخ الكبار من أمثال هيغل أو جان جاك روسو أو كانط. فمقالته التي تحولت لاحقاً إلى كتاب سبقت ضربة 11 سبتمبر بسبع سنوات فقط. لقد أتت قبلها مباشرة تقريباً. لقد أرهصت بها واستبقتها. كل هذا صحيح. ولكن ماذا نفعل بالتيارات الليبرالية التحديثية داخل العالم العربي والإسلامي يا سيد هانتنغتون؟ هل نشملها أيضاً بنظرية صدام الحضارات كالمتطرفين؟ غير معقول. بل ماذا نفعل بالتيارات العقلانية الوسطية المعتدلة داخل الحركة الإسلامية ذاتها. ألم يقل القرآن الكريم: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)؟ لم يقل قط: وكذلك جعلناكم أمة متطرفة!

أخيراً يرى هانز كونغ أن الإسلام شكل واحدة من أعظم الحضارات على وجه الأرض في الماضي. فلماذا لا يستطيع تشكيلها في الحاضر أو المستقبل؟ لقد أشرق هذا الدين القيّم على العالم يوماً ما إبان العصر الذهبي وكان أستاذاً للبشرية كلها علماً وفلسفة وأخلاقاً. لقد شكل حضارة كبرى قائمة على ركنين أساسيين: العقل والنقل، العلم والإيمان، الدين والفلسفة. وعندما انهار أحد هذين الركنين (أي الفلسفة العقلانية) انهارت حضارتنا وهيمنت علينا الأصولية العمياء طوال عصور الانحطاط ولا تزال!