«أنبياء سومريون»... البحث عن الحقيقة

الماجدي يستند إلى الحفريات الأركيولوجية المكتشفة حديثاً

«أنبياء سومريون»... البحث عن الحقيقة
TT

«أنبياء سومريون»... البحث عن الحقيقة

«أنبياء سومريون»... البحث عن الحقيقة

صدر عن «المركز الثقافي» في الدار البيضاء كتاب جديد يحمل عنوان «أنبياء سومريون: كيف تحوّل عشرة ملوك سومريين إلى عشرة أنبياء توراتيين؟» للدكتور خزعل الماجدي، الباحث المتخصص في علوم وتاريخ الأديان والحضارات والأساطير. يقع الكتاب في ثلاثة أبواب تضم في مجملها 17 فصلاً مع مقدمة وافية وثبت بالمصادر العربية والأجنبية.
يؤكد الباحث في مقدمته أنّ «الغرض من هذا الكتاب هو البحث عن الحقيقة» وليس هناك أي دوافع أخرى سواء كانت دينية أو سياسية أو فكرية، والفضل يعود، كما يذهب المؤلف، إلى الحفريات الأركيولوجية التي غيّرت تصوراتنا عن العالم برمته، فهي لا تدّعي الإحاطة بكل شيء لذلك تركتْ الأمر للمعنيين بالتاريخ والفكر كي يبنوا تصوراتهم الجديدة على أسس علميّة رصينة بعيداً عن شطحات الخيال، وأوهام المُعتقدات النابعة من الخرافات والأساطير القديمة.
يُفرِّق الماجدي بين مصطلحات العهد القديم والتناخ والتوراة ويدعو إلى فكّ الاشتباك بينها في حالة الإشارة إلى الكتاب العبري المقدّس ويقسمها إلى أربعة أقسام وهي: الكتاب المقدّس «بايبل»، والعهد القديم، والتناخ «الذي يتكوّن من قسم الشريعة، وقسم الأنبياء، وقسم الأدبيات»، والتوراة التي تضم الأسفار الخمسة وهي: «سفر التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية». وإضافة إلى الكتب المقدسة المذكورة أعلاه هناك نوعان من الكتب اليهودية وهما: «الكتب اليهودية الأساسية» التي تضم سبعة أنواع وهي: «الترجوم، والمشنا، والتلمود، والهلاخا، والهجادة، والكابالا، والمدراش». و«الكتب اليهودية الثانوية» وتشمل أبوغريفا، السيديبغرافيا، كُتب قمران، والكتب المفقودة مثل «سفر ياشر» و«حروب الرب».
يعتمد الباحث على ثبت الملوك السومريين ليبرهن لنا أنّ الملوك العشرة السومريين الذين تحولوا إلى عشرة أنبياء توراتيين بفعل الرؤية التوراتية. وهؤلاء الملوك أو الآباء هم: «آدم، شيث، إنوش، قينان، مهلالئيل، يارد، أخنوخ (إدريس)، متوشالح، لامك، نوح» الذين ينتمون جميعهم إلى مرحلة ما قبل الطوفان.
يتوسع الماجدي كثيراً في الحديث أسطورة الخلق وسنحاول اختصارها قدر الإمكان كي لا يفلت منّا خيط التيمة الرئيسة للكتاب. لقد خلق الله العالم في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع. ثمة أساطير متعددة في نظرية الخلق تختلف باختلاف الديانات والحضارات والشعوب.
لقد خلق الله آدم في اليوم السادس، جبلهُ من تراب، ونفخَ في أنفه نسمة الحياة، ثم خلق حوّاء لكن الحيّة أغرتهما فأكلا من شجرة المعرفة فعاقبهم الله ثلاثتهم: آدم وحواء والحيّة بالطرد من الجنة لأنهما خرقا وصيته وأكلا الثمرة المحرمة. أنجبت حواء قايين وهابيل فأصبح الأول فلاّحاً والثاني راعياً، ثم تنافسا على الزواج من أختهما «إقليما» الأمر الذي دفع قايين لأن يقتل هابيل فيطردهُ الرب إلى مكان صحراوي مهجور شرقي عدن يُدعى «نود» ليقيم هو وسلالته في تلك البرية القاحلة. تلد حواء شيثاً الذي يعني «البديل» الذي عوّضت به عن موت هابيل ويعتقد المسلمون والمندائيون بنبوة شيث لأن الله أنزل عليه 50 صحيفة، كما أنه صاحب أول حرب وقعت على الأرض بينه وبين أخيه «قابيل» كما يسمّى في الرواية الإسلامية. يُعدّ النبي شيث أول مَنْ نطق بالحكمة، وأول من استخرج المعادن، ومن أبرز إنجازاته هو تنظيم الريّ، وبناء السدود. أما الملك الثالث فهو إنوش الذي نزلت عليه الرؤية النبوية وأصبح نبياً. فيما تميّز الملك قينان بالحكمة، ونالها مبكراً في حياته، وقد علّم الناس، ونقل إليهم معارفه وعلومه. تُنسب إلى الأب الخامس مهلالئيل تأسيس مدينتي بابل وسوسة، ومحاربته لجيش الشيطان، كما أنه أول منْ قطع الأشجار. لم تُسجل الوثائق شيئاً إلى الأب السادس يارد الذي يعني اسمه حرفياً «سيفقد مكانته أو سيسقط» ولعله كان منشغلاً في الحفاظ على عرشه. أما الأب السابع فهو أخنوخ أو النبي إدريس عند المسلمين، ويقابله في التراث السومري والرافديني هرمس الذي علّم الناس نواميس الحضارة، واخترع الكتابة. لم يمت إدريس، بل صعد إلى السماء وتحوّل إلى رئيس للملائكة باسم ميتاترون. توصّل الماجدي إلى أنّ جذور شخصية أخنوخ سومرية وأصله هو «أينمين دور أنّا»، ملك مدينة سبار، أي من ملوك ما قبل الطوفان. يتميز الملك الثامن ميتوشالح بجمعه بين الحكمة والملوكية، وهو رجل السهم، وصاحب الوثبة السريعة، ويقابله من الملوك السومريين أوبار - توتو من مدينة شروباك ومن أبرز منجزاته هي مكافحته للمجاعة التي حدثت في عصره. أما «لامِك» وهو الملك التاسع الذي يوصف بأنه أول من عدّد زوجاته حين تزوج امرأتين، وهو صاحب أقدم قصيدة شعرية وقد وجهها لزوجتيه. يقابله شروباك بالسومرية والذي يعني «مكان الشفاء». تقترن وصايا شروباك بهذا الملك وتعد هذه الوصايا النص الأدبي الأول في التاريخ، وهو نص سومري كُتب في حدود 2600 ق. م. وسوف ينجب شروباك ابنا يُدعى زيو سيدرا وهو بطل الطوفان السومري الذي يسمّى «نوح السومري» وقد تأثرت لاءات موسى كثيراً بوصايا شروباك حتى بلغت درجة التطابق تقريباً. أما الملك العاشر والأخير فهو نوح الذي عاش 950 سنة ومات بعد الطوفان بـ350 عاماً ودفن في جبل أرارات. علامته المميزة سفينة نوح، وأهم منجزاته هي إنقاذ الجنس البشري والأحياء الأخرى من الطوفان.
يعتقد الماجدي أنّ عالم الآشوريات الإنجليزي جورج سميث قد فتح الباب واسعاً حين اكتشف في اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش الأصل الرافديني لقصة طوفان نوح العبري، فعقد أول مقارنة بين أصل حكاية الطوفان وأحد فروعها التي أعيدت روايتها في العهد القديم، بل إن فكرة الطوفان عند شعوب معينة مأخوذة من الأصل السومري مع اختلافات طفيفة. يُرجع الماجدي فكرة الحكماء السبعة إلى الحقبة السومرية وقد ورد ذكرهم في «ملحمة جلجامش».
يرى الباحث أنّ هناك خمس مدن سومرية ازدهرت قبل الطوفان وهي أريدو، وبادتبيرا، ولاراك، وسبار وشروباك. أما جنة عدن فهي مدينة أريدو نفسها، فيما تقع «نود» شرقيها تماماً. وحينما حدث الطوفان لم يترك أثراً لهذه المدن. ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أنّ الطوفان قد شمل جنوب العراق فقط وأن مخيلة الشعوب هي التي جعلته يغطي العالم برمته، وأن سفينة نوح قد بولغ بحجمها وبعدد البشر والكائنات الحية التي دخلت إلى جوفها، ويعتقد الماجدي أن شكلها مدور على هيئة «القُفّة» التي تستعمل في أنهار وسط وجنوب العراق. كما يتوقف الباحث عند الناصورائيين الذين أوجدوا الديانة المندائية لكنّ جهلهم باللغة هو الذي سبب ضياع الجزء الأكبر من معارفهم ولم يستطيعوا تدوينها لأن الكتابة اُخترعت في زمن النبي إدريس سنة 3200 ق.م. إن كتاب «أنبياء سومريون» يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ويدحض النظريات التوراتية المُضللة التي اعتاشت على الفكر السومري النيّر.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم