رفيف الظل: في غيِّها، أمُمُ الحَجَر

رفيف الظل: في غيِّها، أمُمُ الحَجَر
TT

رفيف الظل: في غيِّها، أمُمُ الحَجَر

رفيف الظل: في غيِّها، أمُمُ الحَجَر

كيف أسمّي مَنْ لا اسم له؟
إذا ثملتِ الوردةُ، فسيكون من حق الكأس أن يغلق حانته وأن يضطربَ بعيداً في فراشه.
كيف أروي من لا رؤية له؟!
حين يجتمعُ السحرةُ حول عصا المليكة،
فإن ثعبان الضُحى سيطبق سمَّهُ على ما بقي من ارتعاشاته.
هكذا هو،
نبي بلا اسم
رسولٌ بلا رؤية،
تثمل وردته في نبيذها كلَّ مساء، ليوحي لها آيةً جديدة.
الوردة المنقوعة في الدم لم تكن في الأصل حمراء،
وشاربُ عطرها كان يخفي عن النهار يده السكين.
الآن، تنكسر مسافةُ النداء،
وتنفضُ الأشجار أوراقها، فتسقط ثمرةُ المعاني الفاسدة،
ولا عزاءَ للحطّاب سوى انتظار خريفِها.
السيدةُ النائمة في الوسادة،
والدعاءُ المرفوع بقوة الصمت،
ورجلٌ يلكم ماضيه بقبضة القدر،
هل وصلوا؟
وهل جرعةُ الحروفِ تُشبِعُ هذا الجدار؟
كان السيلُ حفرة نبع،
ويدَّعي النهرُ أن منبتَهُ في القصيدة،
ولكن الجهات مخنوقةٌ في البوصلة،
وها هو الشمال يتقوسُ مظلةً على العالم،
ومن عيونها الدمع ما يجف،
ومن بين الستائر هناك الهوى خلسة.
لكأن النومَ لا يكفي لأحلام الأطفال الذين لا يجدون الوقتَ ليكبروا،
ولا جهاتٍ تسعهم ليضعوا خطواتهم المترددة على طريق واضح،
لا بوصلة تدلهم ولا أدلاءَ لهم.
موتهم أقربُ من جرعة السماء.
انظروا لهم،
كم إنّ لأمهاتهم صبراً على ذلك،
لا يدركه الكتابُ ولا تهديه المواعظ.
بصيرتهم تزرّقُ،
الخديعة على مشارف القبيلة،
والفرسان يتدفأون بزنجبيل الشجاعة.
رموشهم تهتزّ كجنينٍ تروي له أمه حكايات الخروج.
ها هم الخوارج يصقلون أسنّة أحاديثهم الضعيفة،
ثم يطلقونها باتجاه الآمنين.
والسبات الأزرق أننا حلمنا بالورد،
وتفتحت عيوننا على دخان نفخناه على مرايا يائسة،
والصبر، وهو الطريق إلى القبر
كان أمْراً،
ولكننا تشظيّنا في هلاله،
ولعبنا في الخفاء مع الحسرة،
وتركنا الجهلاءَ يتسابقون في عبط احتضارهم،
وحين اكتمل العيدُ في أحلامنا،
وجدناه مُراً
ولم تعكس مراياه سوى التماعة الدمع.
ثم قال المجنون: خذوني حكيماً،
وصدقه الأنبياء.
ومن بلاد إلى بلاد،
تدحرجتِ الكلمةُ
وتناسلتْ في غيّها أمم الحجر.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.