صورة الآخر الإسرائيلي

قراءة في رواية «جنين 2002» لأنور حامد

صورة الآخر الإسرائيلي
TT

صورة الآخر الإسرائيلي

صورة الآخر الإسرائيلي

مع التغيرات التي طالت مؤخرا نظرة العرب للقضية الفلسطينية، والتبدل الحاصل في الموقف الشعبي من فكرة المقاومة في شكلها «الحمساوي»، الإسلامي، خلال الأسابيع السبعة الأخيرة من العدوان على قطاع غزة، ربما باتت الفرصة مواتية لمراجعة تجسيد صورة الآخر الإسرائيلي في الثقافة العربية المعاصرة أيضا، وخاصة تناول الرواية لتلك الصورة، باعتبارها أكثر التجليات الثقافية رواجا، بعد الدراما التلفزيونية.
في روايته «جنين 2002» (2014، المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، يتناول الروائي الفلسطيني أنور حامد، حادثة اجتياح الجيش الإسرائيلي لمخيم جنين الواقع في الضفة الغربية في أبريل (نيسان) 2002، والعملية العسكرية الوحشية التي دارت في أعقابها على امتداد أكثر من عشرة أيام.
تدور أحداث الرواية حول شخصية «ديفيد أشكنازي»، المجند الشاب الذي يشارك في عملية اجتياح المخيم. وأثناء تفتيش أحد البيوت، يعثر ديفيد على مذكرات صبية تدعى «أريج الشايب»، دونتها خلال فترة حصار الجيش الإسرائيلي للمخيم. يعمل ديفيد، لاحقا، على ترجمة مذكرات أريج إلى العبرية، فتفجّر في داخله مجموعة من الأسئلة تطال مباشرة معتقداته ومفاهيمه للوطن والهوية، أي ما كان بالنسبة له من المسلمات، لتقوده في نهاية المطاف إلى العزلة ومن ثم الانتحار. يتشارك البطلان «الضدان»، سرد الأحداث، فنصف العمل يدور في رأس المجند الشاب، والنصف الآخر يحضر من خلال دفتر مذكرات الفتاة الفلسطينية التي تقرر أن توثق يوميات الحصار.
من حيث المبدأ، نحن أمام عمل أدبي دسم. فالموضوع يشكل نقطة مهمة من تاريخ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، والبنيان السردي واعد: فلا راو عليم يفسد على القارئ متعة البحث والتحليل والاستكشاف، ولا بطل أوحد يستأثر بمهمة الحكي. على العكس، ومن الجانب النظري، فالبنية المتوازنة للعمل، من ناحية توزيع الأدوار بالتساوي بين ديفيد وأريج، تعد بنوع من التكافؤ في الأصوات الروائية، الأمر الذي يصعب تحقيقه في النصوص الأدبية التي تعالج الصراعات الكبرى والقضايا الإشكالية.
إلا أن القارئ، وبعد تجاوز الصفحات الأولى، يصاب بنوع من الدوار، ذلك أن ميزان حامد السردي سرعان ما يباشر التأرجح. فمن المستغرب حقا أن يُقدم كاتب فلسطيني الآن، وبعد مضي أكثر من ستة عقود على احتلال فلسطين، على تصوير الآخر الإسرائيلي بهذه العجالة، لا بل حتى السطحية. إذ إن تجسيد الكاتب لشخصية ديفيد جاء مطابقا لصورة الإسرائيلي النمطية الراسخة، للأسف، في المخيال العربي الشعبي: شخص محدود التفكير يعيش داخل فقاعة آيديولوجية كفيلة بأن تعزله كليا عن واقع فلسطيني لا تفصله عنه سوى بضعة أمتار.
ففي اليوم الأول لاقتحام القوات الإسرائيلية مخيم جنين، وأثناء تفتيشه أحد المنازل، يندهش ديفيد حين يعثر داخل إحدى الغرف، على بعض الثياب الملونة، «توحي بأن نشاطا ما كان يدور هنا، نشاط غير عسكري. غريب!» (ص 54). ولدى إدراكه بأن بروفات مسرحية كانت تجرى في المنزل، يقول ديفيد بسذاجة: «لم يكن يخطر ببالي أن سكان المخيم يمارسون نشاطات كهذه». (ص 54).
في الواقع لا أدري ما الذي حدا بحامد لأن يرسم مثل هذا المشهد. وهل يعقل أن ديفيد، أو أي مجند إسرائيلي آخر، بهذا المستوى من العزلة، لا بل الغباء، لدرجة عدم معرفته فيما إذا كان أبناء المخيم يمارسون غير الأنشطة العسكرية؟ أيعقل لشاب في زمن الفضائيات والإنترنت، في أوائل الألفية الثالثة، أن يجهل طبيعة وعادات البشر القاطنين في المدينة المجاورة، حتى وإن كانوا أعداءه الفلسطينيين؟
لا تبدو التحولات التي تطرأ على شخصية ديفيد، بعد كل ما شاهده في المنزل مقنعة بدورها. فما شاهده داخل الغرفة، يقول ديفيد، كان كفيلا بأن «استعدت شيئا من وعيي الإنساني» (ص 55)، الأمر الذي جعله ينظر إلى «المكان (المخيم) بشكل مختلف». (ص 55). سذاجة ديفيد لا تنتهي هنا، فعند رؤيته صورا فوتوغرافية تعود لأصحاب المنزل، يعبر عن دهشته، إذ هي المرة الأولى التي يدرك فيها أن البيت الفلسطيني «فيه أيضا حياة عادية، تشبه حياتنا. فيه ناس يتناولون وجباتهم ويتبادلون الأحاديث، يزورون الجيران ويحتسون القهوة عندهم». (ص. 55) وكأنه اكتشف للتو، قبيلة بدائية على ضفاف الأمازون!
ولو اكتفى حامد بتصوير التمزق الداخلي للشخصية الإسرائيلية، ما بين ولائها للأجهزة الأمنية وماكينتها الدعائية التي تروج لفكرة أن «منفذي الكثير من العمليات الإرهابية الأخيرة (في إسرائيل) من جنين» (ص 51) وبين رفضها المشاركة في «هدم بيوت على رؤوس أصحابها»، أي لو جاء التركيز على معضلة البطل الأخلاقية لحظيت الشخصية بقبول أكبر، خصوصا أن الرؤية لدى الأفراد، تتداخل أثناء الصراعات، ويصعب التمييز بين الحدود الفاصلة، هذا إن وجدت، بين البياض والسواد. ولكن للأسف، يقع حامد في شراك الصورة النمطية للإسرائيلي الأمر الذي يؤدي إلى قيام الشخصية بتصرفات ساذجة.
طبعا نقطة التحول التي تنقل ديفيد من العتمة إلى النور، وتجعله يعيد النظر بموقفه من القضية الفلسطينية، تأتي مباشرة بعد عثوره على مذكرات أريج التي تشكل ذروة الحدث الدرامي التي تتحكم بخيوط العمل، وتسحبه بالاتجاه الذي يريده الكاتب. يقول ديفيد: «لاحظت أنها تقبض بيدها على شيء. كانت تمسك بكراسة مدرسية، عليها بقع دماء. كانت كأنها تحتضنها. هل كانت تعد واجباتها المدرسية؟ حاولت انتزاعها برفق. تمكنت من ذلك بصعوبة. تصفحت الكراسة. ما هذا؟ ليس هذا دفتر واجبات مدرسية. نص عربي، حاولت القراءة. أستطيع قراءة الخط العربي المطبوع، لا خط اليد، مع ذلك واصلت المحاولة. بدأت أتبين بعض الكلمات. غير معقول!! يا إلهي! هذه الفتاة كانت تكتب يومياتها! في أثناء القصف. أنا الآن في مواجهة أنا فرانك أخرى. أنا فرانك الفلسطينية» (ص 57).
من الأمور التي تؤخذ على العمل، الإيقاع السريع للأحداث. فحامد لا يعطي المشهد حقه من المسافة الزمنية، بما في ذلك المشاهد المفصلية. فهل يعقل أن يُمنح مثل هذا المشهد 78 كلمة فقط من أصل صفحات الكتاب التي تتجاوز الـ200؟ حتى إن سرعة البطل بالمقارنة بين أريج و«أنا فرانك» تحتاج إلى فطنة وسرعة بديهة تتناقض مع حجم السذاجة التي أظهرها طيلة العمل.
ليست هذه كل ما واجه ديفيد من أحداث في «أوديسته» عبر المخيم. في أحد البيوت، يعثر ديفيد على صحن فيه بعض من مربى المشمش، الطبق الذي يغير نظرته تجاه ساكني البيت الذين تفترض ثقافته أنهم إرهابيون، بينما هم أناس عاديون. يقول ديفيد: «أحسست بالجوع. داهمتني رغبة بتذوق مربى المشمش. غمست إصبعي بالطبق ولحسته. كان لذيذا. لا بد أن تلك المرأة المسجاة في الغرفة الأخرى كانت طاهية ماهرة. غمست إصبعي مرة أخرى، أحسست بشعور غريب» (ص57).
فصورة الإسرائيلي في هذا المشهد المفصلي هي استجرار لـ«كليشيه» مسطح يفتقد إلى أي عمق. وتجسيد ديفيد هو أقرب إلى التمثيل الطفولي للشخصيات. ديفيد، الذي فيما بعد تتكشف الجوانب الإنسانية من شخصيته، يبدو هنا ككائن متوحش يقتحم البيوت ويقتل أصحابها ومن ثم يتناول طعامهم. فالقارئ أمام مشهد كاريكاتيري مبسط، مرسوم بالأبيض والأسود، قد يصلح لوحة ضمن قصة لليافعين لا أكثر.
بالعودة إلى موضوع الطعام، تستحوذ المأكولات على حيز واسع من الكتاب تترك انطباعا لدى القارئ بأن ما بين يديه هو كتاب عن فنون الطبخ. ذلك أنه، وبخلاف كل التوقعات، يجد نفسه أمام عمل يسلط الضوء على تفاصيل جانبية غير منطقية في ظروف القتل والدمار. فعلى سبيل المثال، نقرأ في مذكرات أريج، أن الفتاة بعد أن وجدت نفسها وحيدة في بيت جدتها التي قتلت جراء القصف، شغلت نفسها بأمور الطبخ. مباشرة بعد مقتل جدتها أمام عينيها تصدمنا أريج بالتفكير فيما ستأكل أثناء الحصار، فتستعرض في ذهنها محتويات مطبخ جدتها «العامر» بـ«المشمش والعنب والسفرجل.. وكبيس الخيار.. والمقدوس من الباذنجان والفلفل» حيث «تحشي الأول بالجوز والثوم والثاني بالبندورة والبقدونس» (ص 89).
بعد مرور أيام على الحصار، وعلى الرغم من اضطرار أريج إلى التقنين بمحتويات المطبخ، تشعر الفتاة برغبة في تناول «الجبنة النابلسية»، وتتساءل بكل برود، بينما تتكوم جثة جدتها في الغرفة المجاورة: «ترى لماذا يسمونها جبنة نابلسية؟».
قد يقول البعض إن حامد استطاع أن يعرض للأحداث اليومية للمخيم التي غالبا ما تُعرِض عنها نشرات الأخبار. لا بل قد يجادل البعض الآخر بأن الروائي قد نجح في تقديم شخصية فلسطينية متحررة من الصورة النمطية للإنسان الفلسطيني، اليساري أو الإسلامي، ذلك أن أريج، الفتاة المراهقة التي تحب ابن الجيران عارف، والمولعة بالحياة والرقص مع الأصدقاء في حفلات عيد الميلاد تمثل محاولة جادة من قبل حامد لتقديم الإنسان الفلسطيني العادي المحب للحياة، المُعرِض عن جميع أنواع العنف والصراع. لكن تبقى أريج شخصية غير مقنعة، وتساؤلاتها الساذجة حول الطبخ، خصوصا إذا ما قيست بحجم المأساة التي حلت بالمخيم، مهينة لعقل القارئ وذائقته أيضا.
رواية «جنين 2002» تضعنا أمام تساؤلات جدية حيال القصور الظاهر في تجسيد صورة الآخر الإسرائيلي في الرواية العربية المعاصرة. من ناحية أخرى، فإن تجدد المواجهة مع قوات الاحتلال تحتم علينا كقراء أن نمارس دورنا عبر المساءلة المستمرة وإعادة التقييم للأعمال الأدبية التي تعالج الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، سعيا للارتقاء بأدوات التصوير السردي للآخر الإسرائيلي وتجاوز القوالب الجاهزة التي وضعت أساسا لإرضاء غرورنا بعد أكثر من نصف قرن من الهزائم.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.