عندما ألمّت بالولايات المتحدة فترة الكساد الكبير خلال ثلاثينات القرن الماضي إثر انهيار سوق الأسهم الأميركيّة عام 1929 تراجعت مبيعات معظم المنتجات والسلع مع استثناءين ملحوظين: السجائر وتذاكر دور السينما. كانت تلك طريقة المجتمع المستسلم لقدره في التعاطي مع الوقائع القاسية: الانكفاء هروباً إلى التدخين الشّره وعالم الفانتازيا والخيال بدلاً من المواجهة.
وتثير تلك التجربة التاريخيّة وكيفيّة استجابة الجمهور بتعامله مع أزمات الرأسماليّة الكبرى شهيّة المعنيين بمتابعة تحولات الثقافة الشعبيّة المعاصرة بمختلف تمثلاتها في الأدب والتلفزيون والسينما والفنون والأزياء وألعاب الفيديو والموسيقى الشعبيّة وطرائق تناول الطعام وطرائق العيش اليومي بهدف إجراء قراءة لتأثيرات الأزمة الماليّة العالميّة 2008 على المجتمعات المعاصرة لا سيّما بعدما أصبحت مصاعب الاقتصاد الأميركي مصدراً لمتاعب الاقتصاد العالمي برمته ولم تعد مقتصرة على دول الغرب، وأن تلك التحولات الثقافيّة قد استكملت عقداً من الزمان بحيث لم تعد مجرّد موجات عابرة تبهت بعد وقت قصير.
ولعل أوضح استجابات الجيل الجديد لهذي الأزمة التاريخيّة المتجددة للرأسماليّة كانت في تلك الشّعبيّة الهائلة التي أسلمها لأنواع معينة من الإنتاجات الأدبيّة ونسخها السينمائيّة والتلفزيونيّة دون غيرها، لدرجة أن تحوّل بعضها ظواهر فاقت كل ما عرفته البشريّة مجمل تاريخها بمقدار تشظّيها وعبورها للأمم واللغات والأجيال: الفانتازيّات التي تنقل الصراع بين الخير والشر إلى دُنيا الخيال والوحوش والتنانين (Game of Thrones)، أو الأبطال الجبارين الخارقين (Avengers)، أو الزومبيّات ومصاصي الدّماء والموتى الّذين لا يموتون (The Walking Dead)، أو الديستوبيّات عن مستقبل مظلم للبشريّة حتى يكاد يبدو الحاضر القاسي بكل ما فيه نعيماً مقيماً بالمقارنة (Handmaid Tale)، أو برامج تلفزيون الواقع التي تُعنى حصراً بتفاهات الحياة المعاصرة (The Great British Bake Off)، أو فانتازيّات التسلم الجنسي (Fifty Shades of Gray)، والسلوكيّات المثليّة.
ويضيف آخرون إلى تلك القائمة ردّة لإحياء أعمال أدبيّة وتلفزيونيّة كلاسيكية قديمة من طراز روايات آغاثا كريستي، ومغامرات شرلوك هولمز، وقصص الشعوب القديمة، وبطولات فرسان القصور الوسطى التي تسمح للمتلقين بالمخيّلة إلى السفر نحو فترات نوستالجيا تاريخيّة تُصوَّر ذهبيّة وفاتنة.
ولعل القاسم المشترك بين هذي الأنواع الأدبيّة كلّها يمكن اختزاله في كونها نوعاً من انكفاء وهروب جماعي جرّاء فقدان السّيطرة على المصائر التي تعصف بأيامنا في مواجهة الحروب الكبرى، والأمراض الوبائيّة، واعتلالات المناخ، وسياسات التقشّف القاهرة، كما الاستقطابات السياسيّة المرتبطة بالهوّيات المُختلقة والتي شرعت تستدعي أشباح الاحترابات القديمة الدّامية.
وبالطبع فإن هذا الانكفاء أدبياً –وما يرتبط به من أعمال بصريّة– وازته اتجاهات انسحابيّة الطابع في مظاهر الثقافة الشعبيّة كلّها: من دُنيا الأزياء حيث حوّلت المتاجر التي تروج للبساطة والمُوديلات قصيرة العمر ذات الأسعار الرّحيمة بفعل الإقبال الشديد إمبراطوريات عالميّة، إلى السّفر حيث انسحب الجمهور زرافات ووحداناً نحو شركات الطيران الاقتصادي وسلاسل الفنادق ذات الميزانيّات المحدودة التي تقدّم خدمات أساسيّة دون أي من وسائل الرّاحة الإضافيّة، كما وجبات الطعام المجهّزة الرّخيصة التي وجدت فيها متاجر التجزئة سوقاً متضخمة يوماً بيوم وأصبحت البديل لخروج العائلات إلى المطاعم، وانتشار نوادي اللياقة البدنيّة حيث يعمد الأفراد إلى التخلّص من توترات حياتهم اليومية بقهر أجسادهم علناً أمام الملأ، وغيرها الكثير من جوانب الحياة المعاصرة. وحتى عندما كان يرتفع بعض الأصوات بالاحتجاج هنا أو هناك كما في بعض الأعمال الموسيقيّة مثل أغنيات PJ Harvey أو Lily Allen، أو في الفنون الغرافيكيّة والبصريّة مثل جداريّات الفنان Banksy فإنها بقيت أصواتاً مدجنّة أليفة تجد فضاءها وصداها دائماً وحصراً داخل المنظومة الرأسماليّة ذاتها لا خارجها. وهكذا بدلاً من اشتعال الغضب والميل إلى الراديكاليّة نتيجة فشل النخب النيوليبراليّة في إدارة مقاليد العالم، اكتفت الجماهير بالهروب من واقعها والتكيّف تنازلاً عن الحدود الدنيا، والسقوط عميقاً في اتجاهات وأذواق وسلوكيّات محافظة ومذعورة.
وقد أذهلت نوعيّة تلك الاستجابة قديماً مفكرين كباراً في مجالات العلوم الاجتماعية لا سيّما أولئك المنخرطين تحت راية مدرسة فرانكفورت الشهيرة حتى ذهب أحدهم -ثيودور أدورنو (1903 – 1969)- إلى التبشير باستحالة قيام الثّورات بشكلها الكلاسيكي في المجتمعات الغربيّة الحديثة بالنظر إلى تحقق هيمنة شبه كليّة لثقافة وقيم وتوجهات الطبقة المهيمنة على طريقة تفكير الطبقة (العاملة) وبالتالي توجيه استجابة تلك الأخيرة إلى الضغوط الاقتصاديّة الهائلة نحو مرافئ آمنة، بل وربما مربحة في الوقت نفسه.
وللحقيقة، فإن أفضل الأدوات النقديّة التي تتوفر للمعاصرين في تحليل أسباب أعراض الانكفاءات الثقافيّة للجماهير في مواجهة الأزمات الرأسماليّة المتتابعة لا نزال مدينين فيها لثلاثة مفكرين من القرن الماضي شخّصوا في مجموع أعمالهم ما يمكن تسميتها «الهيمنة الثقافيّة» والتي تعني غلبة مجموعة من الأفكار في التعامل مع العالم تنعكس سلوكاً وقناعات وأسلوب حياة تتبعها الأكثريّة دون كثير مساءلة. ويفسّر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) والهنغاري كارل مانهايم (1893 – 1947) والفرنسي لويس ألتوسير (1918 – 1990) عبر سلسلة من كتاباتهم، المنهجيّات التي توظّفها الفئات المهيمنة في المجتمعات لفرض ما يخدمها من ثقافة على الأكثريّة.
غرامشي يذهب في دفاتر سجنه التي كتبها فترة 1929 - 1935 إلى أن النخب المهيمنة تفرض القيم والقناعات التي تريدها على الآخرين دون اللجوء دائماً إلى منطق القوّة والعنف الرّسمي وذلك عبر سيطرتها المحكمة على مؤسسات المجتمع المدني –وهي عنده الجامعات والمدارس ومؤسسات الدّين الرّسمي كما الإعلام والصحافة والفنون بمختلف أنواعها– التي تتضامن معاً لتشكيل عقل الأفراد وتوجيه سلوكياتهم نحو المساحات المرغوبة حصراً. مانهايم -الذي يُعد على نطاق واسع رائد ما تُعرف بسيسيولوجيا المعرفة– يؤكد بدوره أن المعرفة لا تكون بأي حال مستقلّة عن الإطار (المكاني والزمانيّ) الذي نعيش فيه. وكتب يقول في «الآيديولوجيا واليوتوبيا» (1939) إن الأفراد يواجهون العالم بتشكيل وجهة نظر عن طرائق عمله مستقاة من بيئتهم وخبراتهم، وهو ما يضمن دائماً أنهم ينتهون إلى قناعات وسلوكيّات نتيجة تفكير غير سليم أو قاصر أو محدود بمحليته في أفضل الأحوال. وقد أسهب ألتوسير لاحقاً في توصيف تلك الظاهرة في كتابه «لينين والفلسفة ومقالات أخرى» (1971) تحت لافتة الآيديولوجيا التي هي فيما يرى «علاقة متخيَّلة عن طبيعة علاقة الأفراد بشروط وحقائق وجودهم» تأخذهم من كونهم «رعايا أحراراً» في المجتمع إلى «رعايا متقبِّلة للخضوع برضاها».
ورغم أن النّسق الفكري الذي يطرحه هؤلاء المفكرون الثلاثة يميل إلى تصوير «الهيمنة الثقافيّة» إلى نوع من الحتميّة التي لا مفرّ للأغلبيّة السّاحقة من الأفراد بالخضوع لها، فإن قراءة معمقة لدفاتر سجن غرامشي مثلاً يمكن أن تؤخذ أبعد من مجرّد دليل لوصف ميكانيكيّات الهيمنة لتكون في الوقت نفسه منهج عمل لكل راغبٍ في التصدي للثقافة المهيمنة وبناء فضاءات مقاومة للتيارات الغالبة عبر مجالات الثقافة كافة وتمثلاتها في المجال العام. ولعل التقدّم التكنولوجي، سيّما مجال التواصل الاجتماعي الذي لم يكن متوفراً على أيّام مفكري القرن العشرين، يمنحنا اليوم وبشكل غير مسبوق أدوات لاستطلاع أفكار بديلة، وبناء تجارب مغايرة وربما تحقيق تأثير أبعد من فرد أو دائرة أفراد قلائل.
إذا لم يكن أمام جيل الثلاثينات سوى أن ينفث غضبه سجائر أو يلتحف ظلمة قاعات السينما بحكاياها الخياليّة للهروب من الحقائق القاسية للكساد الكبير، فإنه لا عذر للأجيال الجديدة بالاستمرار على سيرة الخضوع والتسليم بعدما منحتنا الحياة أدوات شديدة الفعاليّة للتفاوض مع الثقافة المهيمنة وعدم التسليم الكامل لما تدعونا إليه. فهلّا فعلنا؟
الثقافة الشعبية المعاصرة... الانكفاء هروباً
النخب المهيمنة تفرض قيمها عبر الإعلام والثقافة والفنون
الثقافة الشعبية المعاصرة... الانكفاء هروباً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة