كيف يُقوض «الترافيك» وعينا الجمعي؟

كيف يُقوض «الترافيك» وعينا الجمعي؟
TT

كيف يُقوض «الترافيك» وعينا الجمعي؟

كيف يُقوض «الترافيك» وعينا الجمعي؟

تفيد دراسة حديثة أجرتها جامعة أوريغون Oregon الأميركية عن مؤشرات مواقع التواصل الاجتماعي، قام بإعدادها الباحثان داميان رادكليف، وبايتون بروني، بأن ثلثي الشباب العربي (63 في المائة تقريباً) يقولون إنهم يتجهون إلى «فيسبوك» و«تويتر» أولاً للحصول على الأخبار، ونصف تلك النسبة تتركز بين الشريحة العمرية من 18 إلى 24 عاماَ.
تؤكد شواهد موضوعية كثيرة هذا الاتجاه، الذي يكرس وسائط التواصل الاجتماعي باعتبارها المصدر الأكثر نفاذاً وانتشاراً للتزود بالأخبار، وما يصاحبها بالطبع من تحليلات وصور وانطباعات وآراء.
يقودنا هذا التغيير الجوهري في آليات التلقي إلى واقع جديد لا يشبه الأساليب التي اعتمدنا عليها في بث المحتوى واستقباله والتفاعل معه على مدى عقود خلت.
وينطوي هذا الواقع الجديد على «سلوكيات تلقٍ وتفاعل مغايرة»، ترسم ملامح المشهد الاتصالي في المنطقة، وهو مشهد يتغير بسرعة لافتة، لا تواكبها جهود تحليل وبحث كافية.
ومن بين التحديات التي يخلقها هذا الواقع الجديد الارتفاع المطرد في نسب التعرض لـ«السوشيال ميديا» والمواقع الإلكترونية على حساب الوسائط التقليدية، بشكل يؤدي إلى اختلال التوازن بينهما بصورة متسارعة.
وفي كثير من الدول العربية، أدى ظهور وسائل إعلام جديدة إلى احتدام المنافسة الإعلامية، وزيادة الطلب على منتجي المحتوى؛ الأمر الذي خلق صعوبة كبيرة في إيجاد صحافيين محترفين ومدربين بالشكل الكافي، ما أثر سلباً في القدرة على الالتزام بالمعايير المهنية.
وتبرز إلى جانب ذلك التحديات طويلة الأمد المرتبطة بحرية وسائل الإعلام التقليدية واستقلالها، وقدرتها على توفير عائدات في ظل منافسة شرسة مع الوافد الجديد على عوائد الإعلانات.
ووفق أحدث التقارير الموثوقة، فإن عائدات الإعلان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتوزع مناصفة بين الوسائط التقليدية وما يُسمى «الإعلام الجديد»، لكن الإشكال يكمن في أن نسب عائدات الإعلان تتزايد في قطاع «السوشيال ميديا» بوتيرة كبيرة بينما تعاني ثباتاً أو تراجعاً في وسط وسائل الإعلام التقليدية، ما يعني، في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه، تقلص قدرة الوسائط التقليدية على الاستمرار في العمل والمنافسة، وإضعاف قدرتها على النفاذ والتأثير، بل والبقاء أيضاً.
يأخذنا هذا التطور المتسارع إلى حقائق جديدة؛ أهمها يتعلق بأن مركز التأثير الاستراتيجي عبر الإعلام بات في قطاع «السوشيال ميديا» تقريباً، من دون أن يعني هذا تجاهل تأثير وسائل الإعلام التقليدية تماماً.
كما أن قدرة الحكومات، والمؤسسات العامة، والأطر غير الهادفة إلى الربح، على التأثير في الرسائل الإعلامية ذات فرص النفاذ الأكبر تتضاءل باطراد.
لقد بات الفاعلون الإعلاميون متعددين إلى أقصى درجة ممكنة. وبعض هؤلاء الفاعلين غير محدد الملامح. كما أن قطاعاً مهماً منهم من الهواة.
وبموازاة ذلك، فإن فرص تقويم الأداء، عبر التفاعل المباشر مع منتجي المحتوى، أو من خلال آليات المراجعة والمساءلة، أضحت أضعف من أي وقت مضى؛ إذ تتضاءل إلى أقصى درجة ممكنة قدرات التحكم المركزي في الرسائل الإعلامية أو نمط الأداء.
وبالطبع، فإنه يصعب بشكل كبير إزالة المحتوى الضار أو تحجيمه أو معالجته، ما دام أنه لا ينتهك قانوناً جنائياً نافذاً أو قاعدة من قواعد الاستخدام التي ترسيها شركات التكنولوجيا المُشغلة لهذه الوسائط.
تلك إذن ملامح هذا المشهد الاتصالي الذي باتت منطقتنا تعيشه، ويبدو أنها ستظل رهينة لآلياته لوقت ليس قليلاً، ومن بين هذه الآليات التي لا يلتفت إليها كثيرون آلية الحصول على «الزبائن» والمطالعات، والمشاهدات، وعلامات الإعجاب، والردود، والتفاعلات، والمشاركات.
يتموضع مفهوم «الترافيك» Traffic بوصفه أكثر المفاهيم مركزية في هذه العملية؛ إذ يبرز برهاناً راسخاً على الوجود، والنفاذ، والتأثير، والنجاح، بما قد يعنيه ذلك غالباً من مداعبة غرائز الجمهور، أو خدمة رغباته، بعيداً عما إذا كانت المادة المنشورة، التي يُراد لها الرواج، تمتلك القدر اللازم من أهلية البث أو مراعاة أولويات الجمهور، التي تتصل بالسياقات الموضوعية والمطالب الحيوية اللازمة لجعل أي عملية بث إعلامي رشيدة.
بسبب سيادة غائية «الترافيك»، تتسابق وسائط البث والنشر المهيمنة على المشهد الاتصالي في تفتيت الواقع، وتسفيهه، واجتراح الأساليب الترويجية لجذب «الزبائن» إلى بضاعة لا تهدف سوى إلى الحصول على أكبر عدد ممكن من «النقرات».
والإشكال يكمن في أن استمرار هذه الوسائط في بث تلك المواد المهترئة، بعيداً عن العرض الرصين المتماسك المُراعي لمفهومي التوثيق والسياق، سيُقوض الوعي الجمعي للمتلقين، ويحرفهم عن الحقائق، ويأخذهم إلى واقع مُفتت ومُبتذل، لا يقدم معرفة، ولا يُراعي قاعدة، أو يحترم معياراً.


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

«أبل» و«ميتا»... صراع متجدد يثير تساؤلات بشأن «خصوصية البيانات»

شعار ميتا (رويترز)
شعار ميتا (رويترز)
TT

«أبل» و«ميتا»... صراع متجدد يثير تساؤلات بشأن «خصوصية البيانات»

شعار ميتا (رويترز)
شعار ميتا (رويترز)

مرة أخرى يتجدَّد الصراع بين عملاقَي التكنولوجيا «أبل»، و«ميتا»، مثيراً تساؤلات بشأن مدى «حماية خصوصية بيانات المستخدمين». وبينما رأى خبراء التقتهم «الشرق الأوسط» أن المعركة الأخيرة جزء من نزاع مستمر بين «أبل»، و«ميتا» يتيح لهما البقاء على عرش التكنولوجيا الرقمية، فإنهم أشاروا إلى أن تأثير الصراع بشأن الخصوصية قد يمتد إلى مواقع الأخبار.

المعركة الأخيرة بدأت منتصف الشهر الحالي، مع تحذير وجَّهته شركة «أبل» بشأن تقديم منافستها «ميتا» مالكة «فيسبوك» و«إنستغرام» نحو «15 طلباً للوصول العميق إلى البيانات، في إطار قانون الأسواق الرقمية الجديد بالاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يضعف حماية بيانات المستخدمين».

ووفق «أبل»، فإنه «إذا حصلت طلبات (ميتا) على الموافقة، فسيكون باستطاعتها من خلال تطبيقاتها: (فيسبوك)، و(إنستغرام)، و(واتساب)، رؤية كل الرسائل القصيرة ورسائل البريد الإلكتروني والصور والمواعيد، وكل بيانات مكالمات المستخدمين». ونبَّهت «أبل»، في بيانها، إلى أن «مجموعة من الشركات تستخدم قانون الأسواق الرقمية الأوروبي؛ للوصول إلى بيانات المستخدمين». ولكن في المقابل، نفت «ميتا» هذه الاتهامات، وعدَّتها «حججاً تستخدمها (أبل) في إطار ممارساتها المضادة لحرية المنافسة». وقالت، في بيان لها، إن «(أبل) لا تعتقد بالتوافق بين الأجهزة الأخرى».

تعليقاً على ما هو حاصل، قال أنس بنضريف، الصحافي المغربي المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، إن «الصراع الأخير بين (أبل) و(ميتا) هو امتداد لمعارك سابقة متكررة ومتجددة بين عملاقَي التكنولوجيا». وأردف: «هناك قانونان يحكمان السوق الرقمية في أوروبا: الأول هو قانون الخدمات الرقمية الذي يستهدف منع الاحتكار وحماية بيانات المستخدمين. والثاني هو قانون الأسواق الرقمية الذي يجبر الشركات على إتاحة معلوماتها للمطوّرين».

وأوضح بنضريف أن «الصراع الأخير بين (أبل) و(ميتا) مرتبط بقانون التسويق الرقمي، إذ تعدّ (ميتا) من المطوّرين المتاحة تطبيقاتهم، مثل (إنستغرام) و(فيسبوك) على هواتف (أبل)». وتوقّع أن تنتهي المعركة لصالح «ميتا»، مبرراً ذلك بأن «حجة (أبل) ضعيفة وغير كافية، وخصوصية بيانات المستخدمين محمية قانوناً في أوروبا، إلا أن مخالفة (ميتا) لقوانين حماية الخصوصية تُعرِّضها لغرامات كبيرة... وفي أي حال الصراع هو جزء من معركة تستهدف الضغط على (أبل) لفتح خدماتها وإتاحتها على منتجات تابعة لشركات أخرى».

للعلم، حسب قانون الأسواق الرقمية الأوروبي، لا يسمح للشركات المشغّلة للمنصّات الحصول على امتيازات خاصة. وتطالب المفوضية الأوروبية شركة «أبل» بأن تغدو أجهزتها متوافقة مع التكنولوجيا التي تنتجها شركات أخرى.

وبموجب إجراءات المفوضية الأوروبية يتوجب على «أبل» تقديم وصف واضح للمراحل والمواعيد النهائية المختلفة والمعايير والاعتبارات التي ستطبقها أو تأخذها في الاعتبار عند تقييم طلبات التشغيل البيني من مطوري التطبيقات، مع تزويد المطورين بتحديثات منتظمة، وتقديم التعليقات وتلقيها فيما يتعلق بفاعلية حل التشغيل البيني المقترح. ومن المتوقع صدور قرار من المفوضية بشأن ما إذا كانت «أبل» تلتزم بشرط قابلية التشغيل البيني، بحلول مارس (آذار) المقبل، وفق ما نقلته «رويترز».

من جهة ثانية، صرَّح محمد الصاوي، الصحافي المصري المتخصص في الرصد والتحليل الإعلامي، لـ«الشرق الأوسط» شارحاً أن «التوترات المستمرة بين (أبل) و(ميتا)، إلى جانب قانون الأسواق الرقمية في الاتحاد الأوروبي، تسلط الضوء على الأهمية المتزايدة لتنظيم شركات التكنولوجيا الكبرى، خصوصاً فيما يتعلق بالخصوصية والمنافسة». وأضاف أن «التحذير الذي أطلقته (أبل) بشأن (ميتا) أثار ذلك جدلاً حول ما إذا كانت مثل هذه الممارسات قد تضعف حماية البيانات للمستخدمين، والتركيز المتجدد على قانون الأسواق الرقمية يعد جزءاً من جهود الاتحاد الأوروبي لمنع شركات التكنولوجيا الكبرى من استغلال هيمنتها، حيث يهدف القانون إلى ضمان المنافسة العادلة عن طريق تقييد الشركات من منح نفسها مزايا خاصة، أو الوصول إلى بيانات المستخدمين بشكل مفرط دون موافقة».

وأشار الصاوي إلى أن «تأثير قانون الأسواق الرقمية يمتد إلى ما هو أبعد من شركات التكنولوجيا الكبرى، حيث قد يؤثر أيضاً على المواقع الإخبارية، لا سيما تلك التي تعتمد على منصات مثل (فيسبوك) في توزيع منتجاتها». وأوضح أن «القانون قد يجبر المنصات على معاملة أكثر عدلاً، ما يضمن ألا تتضرر المواقع الإخبارية من الخوارزميات أو ممارسات البيانات المتحيزة، كما يفرض إعادة التفكير في كيفية جمع البيانات الشخصية ومشاركتها وحمايتها عبر المنصات، مما يشير إلى تحول نحو أنظمة رقمية أكثر شفافية».

وعدّ الصاوي «قانون الأسواق الرقمية محاولةً لإعادة التوازن في ديناميكيات القوة في السوق الرقمية، ما قد يؤثر بشكل كبير على المبدعين في مجال المحتوى، بما في ذلك المواقع الإخبارية، في كيفية تفاعلهم مع المنصات... في حين يضمن استمرار الصراع بين (أبل) و(ميتا) بقاءهما متربعتين على عرش المنافسة الرقمية».

وحقاً، يأتي الصراع الأخير بين «أبل» و«ميتا» في وقت قرَّرت فيه هيئة حماية البيانات الآيرلندية فرض غرامة قيمتها 251 مليون يورو على شركة «ميتا»؛ بسبب عملية اختراق واسعة لبيانات نحو 29 مليون مستخدم على مستوى العالم في عام 2018.