متحف «بيت نصيف» صخب الحاضر وعبق التاريخ

جدة السعودية تتحدّث عن تاريخها وتكشف «غيريتها»

TT

متحف «بيت نصيف» صخب الحاضر وعبق التاريخ

يزهو أهل مدينة جدة السعودية بمدينتهم، ويباهون بها المدائن، وحين يقولون «جدة غير» تخرج العبارة ناصعة، ترسم ملامح «الغيرية» التي تجعل منها مدينة مختلفة عن المدن في ثقافتها وملامحها وحضورها، يحدثونك عن «بيت نصيف» وملامح تاريخها.
تفوح من جدة أنفاس «البحر المالح» وتناجيها أصوات القادمين من كل الدنيا، عابرين البحر الأحمر لـ«يسكنوا إليها» فتضمهم إلى نسيج تاريخها الذي يفوح عبقاً في المكان، ويأسرهم حضورها الحديث الطاغي.
تمتزج في المدينة الساحلية الحداثة والقدم، السحنات والثّقافات، المعمار الحديث جداً والتاريخي، بما يجعل منها مدينة «مراوغة» تعطي الزائر العابر انطباعا بأنّها مجرد مدينة وميناء، لكنّ المتحدث إلى قلبها يرى التاريخ والحاضر والمستقبل يتعايشان على سطح واحد، هذا المزيج يتجسّد في أحد معالمها التاريخية الذي زارته «الشرق الأوسط» وهو «بيت نصيف».
وزير الإعلام السعودي تركي بن عبد الله الشبانة استضاف وفود الصحافيين القادمين من أنحاء الدنيا لتغطية «القمم الثلاث» المنعقدة في مكة المكرمة، في البيت الشهير بمدينة «جدة التاريخية»، وكأنه يقول: «دعونا نرتاح قليلاً من صخب الحاضر، ونسكن إلى التاريخ».
يقول أهل جدة: «من لم يزر بيت نصيف كمن لم يزر المدينة»، فالبيت الذي يرجح أنه أنشئ في العام 1872م، يعد أحد معالم تاريخها المعاصر بمعماره المميز و«المختلف»، وبثقله السياسي، فقد كان مقاما لمؤسس المملكة الملك عبد العزير بن عبد الرحمن آل سعود.
وحسب مصادر تاريخية، فقد بناه «الشيخ عمر أفندي» من حجارة وطين وخشب مستورد من الهند، وخشب سفينة إنجليزية غارقة قبالة سواحل جدة، بما جعل منه «صديقاً للبيئة» تمتص جدرانه حرارة الساحل ورطوبته.
وترجع التسمية إلى مالكه الشيخ «عمر نصيف»، وتبلغ مساحته 900 متراً مربعاً، وذلك حسب دليل سياحي حدث الصحافيين عنه، يقول: «هو تحفة معمارية مختلفة عن المعمار في جدة، بطوابقه الأربعة وسلالمه المتدرجة المنخفضة التي تجعل الصاعد عليها يحس كأنه يسير في أرض مسطحة، بما يتيح حتى للدواب صعوده دون عناء.
في البيت 40 غرفة موزعة على أربعة طوابق، الدور الأول منها مخصص لاستقبال الضيوف والثاني لضيافتهم، والثالث سكن الأسرة، والدور الرابع مكان الأنس عند الأمسيات صيفاً، إضافة لمكتبة اطّلاع واسعة وحمّام بخار تسخن مياهه بالفحم، وخزان مياه أمطار ضخم يكفي حاجة السّكان من المياه طوال العام، لكن أهم ما يميز البيت هو «السلم منخفض التدرج» الذي يتيح الصعود والهبوط من دون عناء، بل بإمكان حتى الدّواب يمكن أن تصعده محملة بحاجيات أهل الدار، يقول الدليل السياحي: «النساء كن يقمن في الطوابق العليا، لذلك تنقل حاجيات البيت على ظهور الدواب مباشرة إليهن».
استخدم الملك عبد العزيز البيت «سرايا ملكية» درج على سكناها كلما قدم جدة لأكثر من عشر سنوات، استقبل فيها ضيوفه، وتلقى شكاوى ومطالب المواطنين في قاعته الفسيحة، ويضيف: «شهد البيت توقيع اتفاقيات كثيرة مع دول ورؤساء، وزاره الكثير من رموز العالم والمجتمع».
في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز اشترت الدولة البيت بمبلغ 3.5 مليون ريال، ليتبع أمانة المدينة، التي قامت بصيانته وحولته إلى متحف ومركز ثقافي، ومزار يفاخر بعمارته أهل جدة.
ووفقا لوكالة الأنباء السعودية، فإنّ الدّولة تولي «بيت نصيف» اهتماماً بالغاً وتجري عليه عمليات ترميم تحفظ معالمه الأصلية، باعتباره أحد الرّموز التاريخية في المدينة إلى «ساحة نصيف» والمواقع التاريخية الأخرى المجاورة له، وأشهرها «عين فرج يسر، وبيت المتبولي، والمسجد الشافعي».
ولأهميته الثّقافية والتاريخية أضافته منظمة الأمم المتحدة للتّربية والعلم والثّقافة «اليونيسكو» إلى قائمة التراث العالمي في 21 يونيو (حزيران) 2014.



الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك
TT

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

قليلاً ما يتحول حفل تكريم مبدع كبير إلى احتفاءٍ بكل الحلقة الخلاّقة التي تحيط به. هذا يتطلب رقياً من المكرّم والمنظمين، يعكس حالةً من التسامي باتت نادرة، إن لم تكن مفقودة.

فمن جماليات حفل تكريم الشاعر الفذّ طلال حيدر على «مسرح كركلا»، برعاية وزير الإعلام اللبناني زياد المكاري وحضوره، الأحد الماضي، هذا التحلق اللافت لجمع من الشعراء وأهل الفكر والثقافة والفنانين والإعلاميين، حول شاعرهم الذي رفد الأغنية اللبنانية بأجمل القصائد، وأغنى الشعر بصوره المدهشة وتعابيره المتفجرة.

طلال حيدر قبل التكريم مع الفنان عبد الحليم كركلا ووزير الإعلام زياد المكاري

طربيه ودور البطل

قدم الحفل الممثل القدير رفعت طربيه الذي هو نفسه قيمة فنية، معتبراً أن حيدر «كان دائماً البطل الأول على (مسرح كركلا). فهو ابن الأرض، وابن بعلبك، لكنه في الوقت عينه واكب الشعر العالمي ودخل الحداثة فكراً وصورةً وإيقاعاً، راكباً صهيل الخيل». فليس شائعاً أن يترجم شاعر بالعامية إلى لغات أجنبية كما هي دواوين المكرّم وقصائده.

عبد الحليم كركلا مع الشاعر نزار فرنسيس (خاص - الشرق الأوسط)

ومن أرشيف المايسترو عبد الحليم كركلا، شاهد الحضور فيلماً قصيراً بديعاً، عن طلال حيدر، رفيق طفولته ودربه طوال 75 عاماً. قال كركلا: «لقاؤنا في طفولتنا كان خُرافياً كَأَسَاطِيرِ الزَمَان، غامضاً ساحراً خارجاً عن المألوف، حَصَدنَا مَواسم التراث معاً، لنَتَكَامل مع بعضنا البعض في كل عمل نبدعه».

فيلم للتاريخ

«طلال حيدر عطية من عطايا الله» عنوان موفق لشريط، يظهر كم أن جيل الستينات الذي صنع زهو لبنان ومجده، كان متآلفاً متعاوناً.

نرى طلال حيدر إلى جانبه كركلا، يقرآن قصيدة للأول، ويرسمان ترجمتها حركةً على المسرح. مارسيل خليفة يدندن نغمة لقصيدة كتبها طلال وهو إلى جانبه، وهما يحضّران لإحدى المسرحيات.

لقطات أثيرة لهذه الورشات الإبداعية، التي تسبق مسرحيات كركلا. نمرّ على مجموعة العمل وقد انضم إليها سعيد عقل، ينشد إحدى قصائده التي ستتحول إلى أغنية، والعبقري زكي ناصيف يجلس معه أيضاً.

عن سعيد عقل يقول حيدر: «كنا في أول الطريق، إن كان كركلا أو أنا، وكان سعيد عقل يرينا القوى الكامنة فينا... كان يحلم ويوسّع حلمه، وهو علّمنا كيف نوسّع الحلم».

في أحد المشاهد طلال حيدر وصباح في قلعة بعلبك، يخبرها بظروف كتابته لأغنيتها الشهيرة «روحي يا صيفية»، بعد أن دندن فيلمون وهبي لحناً أمامه، ودعاه لأن يضع له كلمات، فكانت «روحي يا صيفية، وتعي يا صيفية، يا حبيبي خدني مشوار بشي سفرة بحرية. أنا بعرف مش رح بتروح بس ضحاك عليي».

في نهاية الحوار تقول له صباح: «الله ما هذه الكلمات العظيمة!»، فيجيبها بكل حب: «الله، ما هذا الصوت!» حقاً ما هذا اللطف والتشجيع المتبادل، بين المبدعين!

كبار يساندون بعضهم

في لقطة أخرى، وديع الصافي يغني قصيدة حيدر التي سمعناها من مارسيل خليفة: «لبسوا الكفافي ومشوا ما عرفت مينن هن»، ويصرخ طرباً: «آه يا طلال!» وجوه صنعت واجهة الثقافة اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين، تتآلف وتتعاضد، تشتغل وتنحت، الكلمة بالموسيقى مع الرقصة والصورة. شريط للتاريخ، صيغ من كنوز أرشيف عبد الحليم كركلا.

المقطع الأخير جوهرة الفيلم، طلال حيدر يرتجل رقصة، ويترجم بجسده، ما كتبه في قصيدته ومعه راقصو فرقة كركلا، ونرى عبد الحليم كركلا، أشهر مصمم رقص عربي، يرقص أمامنا، هذه المرة، وهو ما لم نره من قبل.

عبد الحليم كركلا يلقي كلمته (خاص - الشرق الأوسط)

روح الألفة الفنية هي التي تصنع الإبداع. يقول حيدر عن تعاونه مع كركلا: «أقرأه جيداً، قرأنا معاً أول ضوء نحن وصغار. قبل أن أصل إلى الهدف، يعرف إلى أين سأصل، فيسبقني. هو يرسم الحركة التصويرية للغة الأجساد وأكون أنا أنسج اللغة التي ترسم طريق هذه الأجساد وما ستذهب إليه. كأن واحدنا يشتغل مع حاله».

طلال حيدر نجم التكريم، هو بالفعل بطل على مسرح كركلا، سواء في صوغ الأغنيات أو بعض الحوارات، تنشد قصائده هدى حداد، وجوزف عازار، وليس أشهر من قصيدته «وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان» التي غنتها فيروز بصوتها الملائكي.

أعلن رئيساً لجمهورية الخيال

طالب الشاعر شوقي بزيع، في كلمته، بأن ينصّب حيدر «رئيساً لجمهورية الخيال الشعري في دولة لبنان الكبير» بصرف النظر عمن سيتربع على عرش السياسة. ورغم أن لبنان كبير في «الإبداعوغرافيا»، كما قال الشاعر هنري زغيب، فإن طلال حيدر «يبقى الكلام عنه ضئيلاً أمام شعره. فهو لم يكن يقول الشعر لأنه هو الشعر».

وقال عنه كركلا: «إنه عمر الخيام في زمانه»، و«أسطورة بعلبك التي سكبت في عينيه نوراً منها، وجعلت من هيبة معابدها حصناً دفيناً لشعره». وعدَّه بطلاً من أبطال الحضارة الناطقين بالجمال والإبداع. سيعيش دوماً في ذاكرة الأجيال، شعلةً مُضيئةً في تاريخ لبنان.

الفنان مارسيل خليفة الذي تلا كلمته رفعت طربيه لتعذّر حضوره بداعي السفر، قال إن «شعره مأخوذ من المتسكعين والباعة المتجولين والعاملين في الحقول الغامرة بالخير والبركة». ووصفه بأنه «بطل وصعلوك في آن، حرّ حتى الانتحار والجنون، جاهليّ بدويّ فولكلوريّ خرافيّ، هجّاء، مدّاح، جاء إلى الحياة فتدبّر أمره».

وزير الإعلام المكاري في كلمته توجه إلى الشاعر: «أقول: طلال حيدر (بيكفّي). اسمُك أهمّ من كلّ لقب وتسمية ونعت. اسمُك هو اللقب والتسمية والنعت. تقول: كبروا اللي بدهن يكبروا، ما عندي وقت إكبر. وأنا أقول أنتَ وُلِدْتَ كبيراً»، وقال عنه إنه أحد أعمدة قلعة بعلبك.

أما المحامي محمد مطر، فركزّ على أن «طلال حيدر اختار الحرية دوماً، وحقق في حياته وشعره هذه الحرية حتى ضاقت به، لذا أراه كشاعر فيلسوف ناشداً للحرية وللتحرر في اشتباكه الدائم مع تجليات الزمان والمكان».

الحضور في أثناء التكريم (خاص - الشرق الأوسط)

وفي الختام كانت كلمة للمحتفى به ألقاها نجله علي حيدر، جاءت تكريماً لمكرميه واحداً واحداً، ثم خاطب الحضور: «من يظن أن الشعر ترف فكري أو مساحة جمالية عابرة، إنما لا يدرك إلا القشور... الشعر شريك في تغيير العالم وإعادة تكوين المستقبل».