روسيا والعرب: المصالح بعد الآيديولوجيا

عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
TT

روسيا والعرب: المصالح بعد الآيديولوجيا

عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)
عرض عسكري روسي في الميدان الأحمر بموسكو أقيم في وقت سابق من الشهر الحالي بمناسبة الذكري الـ74 على هزيمة القوات النازية (أ.ف.ب)

استغرقت السياسة العربية لروسيا نحو العقدين من الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لتعيد صياغة ذاتها، وتحدد أولوياتها، وتنجح في تسويق نفسها بصور تتناسب مع تعدد الاهتمامات والمصالح والمحاور العربية، حتى ليبدو أن لموسكو سياسات مختلفة ومتنوعة باختلاف الدول العربية، وتنوع التطلعات في هذه المنطقة.
الاعتبارات الآيديولوجية التي نَظّمت العلاقات السوفياتية - العربية بين عشرينيات القرن الماضي وتسعينياته، اختفت مع اختفاء الاتحاد السوفياتي، لكن المقومات السابقة للسياسة الروسية السابقة على نظيرتها السوفياتية، كانت قد اختفت أيضاً ما فرض على روسيا الاتحادية الجديدة التفكير في أطر حديثة لدورها في الإقليم. بكلمات ثانية، قامت السياسة الروسية في الحقبة القيصرية على السعي إلى الاستفادة القصوى من ضعف السلطنة العثمانية التي كانت تحكم أجزاء واسعة من العالم العربي. فكان التقدم الروسي جنوباً يجري عسكرياً في مناطق البلقان والقوقاز والقرم عن طريق الحروب المباشرة، أو دعم الثورات والانتفاضات المحلية ضد الحكم العثماني، على غرار دعم تمرد والي مصر علي بك الكبير وتحالفه مع ظاهر العمر في فلسطين ما نجم عنه قصف البحرية الروسية لمدينة بيروت، التي كانت في أيدي الأتراك، واحتلالها لفترة وجيزة سنة 1773 على سبيل المثال. ويترافق، من جهة ثانية، مع ضغوط سياسية ودبلوماسية ومطالب بضمان أمن الحجاج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، حيث أنشأ الروس عدداً من المدارس والأديرة.
قطع العهد السوفياتي مع هذه الممارسات، وكان اهتمام السلطة البلشفية الوليدة بالعالم العربي هامشياً وملحقاً بسياستها نحو «شعوب الشرق» التي كان أكثرها خاضعاً للاستعمار، إضافة إلى ما اعتبره السوفيات تخلفاً في البنى الاجتماعية والاقتصادية المحلية ما يؤجل التحاقها بالثورة العالمية التي كانت موسكو قد عيّنت نفسها عاصمة لها. هذا الموقف تغيّر بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور أهمية الشرق الأوسط كساحة منافسة مع الغرب في إطار الحرب الباردة، حيث دعم الاتحاد السوفياتي دعماً ملموساً حركات التحرر الوطني، وما سمي في ذلك الحين «الأنظمة التقدمية» التي أعلنت العداء للاستعمار، وعملت على التخلص من هيمنته والتبعية له.
بيد أن العامل الآيديولوجي لم يكن المكوّن الوحيد للسياسة السوفياتية نحو المنطقة. فعلى الرغم من التأييد المذكور للأنظمة التقدمية ولحركات التحرر، كانت موسكو تخوض حرباً ضارية ضد الولايات المتحدة وحلفائها للبقاء في الشرق الأوسط. فبعد انتصارات كبيرة سجلتها عبر تأييدها لزعامة جمال عبد الناصر، الذي بلغ الذروة في تشييد السد العالي، ثم في إرسال آلاف الخبراء الذين انخرطوا في القتال مباشرة في حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967، مع تجاهل السوفيات القمع الذي كان يتعرض له الشيوعيون العرب، الذين كان من المفترض أن يكونوا الحلفاء الطبيعيين لموسكو التي فضّلت مصالحها الجيو - استراتيجية على المبادئ الأممية، وبعد نجاحها في إحباط مشروع حلف بغداد، تغيّرت الرياح العربية مع طرد الرئيس أنور السادات للخبراء السوفيات في 1972، وتبني حافظ الأسد في سوريا سياسة انفتاح حيال الغرب، خلافاً لسلفه اليساري صلاح جديد، وتصاعد نفوذ دول الخليج التي لم يكن عدد منها يقيم علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي.
أعوام التسعينيات الروسية المضطربة كانت فترة شبه جامدة في العلاقات الروسية - العربية، بسبب انشغال موسكو في ترتيب أوضاعها الداخلية، وتأرجح زعامة بوريس يلتسين بين الانضواء في التحالف الغربي وبين الخضوع لضرورات الأمن القومي الروسي. وبدأت في تلك الفترة تباشير الأفكار «الأوراسية» بالظهور والدعوة إلى إرساء الأمن الروسي على الامتداد الجغرافي الهائل بين القسم الآسيوي من روسيا وصولاً إلى غرب أوروبا. ما يفترض تركيز الاهتمام على إقامة تحالفات ضمن ثلاث دوائر: «الجوار القريب» أي دول الاتحاد السوفياتي السابقة. والصين كعمق اقتصادي، سواء للصادرات النفطية والعسكرية الروسية، أو كقوة صاعدة على الجناح الشرقي لروسيا. والدائرة الثالثة هي أوروبا التي ترتبط روسيا بصلات تاريخية معها لا تقتصر على التبادل التجاري، بل تشمل أيضاً التأثر والتأثير في السياسات الداخلية، وإن على نحو غير مباشر.
في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، عادت المنطقة العربية لتبرز من بين الاهتمامات الروسية. الهدوء النسبي الذي شهده العالم العربي في التسعينيات، لم يكن إلا هدوءاً سابقاً للعاصفة التي انطلقت مع احتلال العراق، ثم اندلاع الثورات العربية، وانهيار «النظام العربي الرسمي»، جراء تناقضات أكثرها داخلي. واعتبرت روسيا أنها ما زالت مهددة بالتطويق من حلف شمال الأطلسي الذي لم يتوقف عن قبول أعضاء كانوا من حلفاء موسكو السابقين، والتأكيد على بناء الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا، ومساندة من تراهم روسيا أعداء لها في أوكرانيا وجورجيا وغيرهما.
أزمة شبه جزيرة القرم، كانت نقطة تجاوزت ارتدادتها أوروباً، ووصلت إلى المناطق التي اعتادت موسكو إدراجها ضمن ساحاتها المضمونة. المثال الأبرز على ذلك كان التحوّل الكبير في السياسات الروسية في سوريا. فبعد أن كان الكرملين يساند نظام بشار الأسد في المحافل الدولية، كمجلس الأمن، ويمده بالسلاح والمال، انتقلت هذه المساندة بعد أزمة القرم إلى التدخل العسكري المباشر، وإرسال عشرات الطائرات الحربية وآلاف الجنود للحيلولة دون سقوط النظام السوري، الذي قدّر مسؤولون روس أنه لن يصمد أكثر من ثلاثة شهور بعد خسارته السيطرة على مدينة إدلب وبلدة جسر الشغور الاستراتيجية، وتقدم المعارضة المسلحة إلى أطراف الساحل السوري الذي يعتبر معقل النظام في صيف 2015.
وفي الوقت الذي ساد فيه أن التدخل هذا سينسف كامل العلاقات الروسية مع الدول العربية الأخرى التي كانت تساند المعارضة السورية، تمكنت الدبلوماسية الروسية من تحويل الأنظار العربية إلى ضرورة التعاون في مجالات تهم الطرفين، خصوصاً في تصدير الطاقة، والتحكم في الأسعار التي شهدت في تلك الفترة انخفاضاً حاداً حمل الروس والعرب على البحث عن حلول للأزمة، في منأى عن استمرار الخلاف في الملف السوري، في الوقت الذي لم تغير فيه موسكو مواقفها من مسائل حساسة تهم العرب مثل القضية الفلسطينية. تغلّب إذن الجانب العملي في العلاقات الروسية - العربية، واستطاع الجانبان تحييد عناصر التفجير، وفق جدول أولويات قد لا يكون مثالياً، إلا أنه يعكس موازين القوى الحالية، وتبدل اهتمامات العرب، وما ينتظرونه من دولة بحجم روسيا ووزنها.


مقالات ذات صلة

بـ2.4 مليار دولار... السعودية تعلن عن أكبر مدينة للثروة الحيوانية بالشرق الأوسط

الاقتصاد أكبر مدينة للثروة الحيوانية في منطقة الشرق الأوسط (واس)

بـ2.4 مليار دولار... السعودية تعلن عن أكبر مدينة للثروة الحيوانية بالشرق الأوسط

أعلنت السعودية، الأربعاء، عن أكبر مدينة للثروة الحيوانية في منطقة الشرق الأوسط بقيمة 9 مليارات ريال (2.4 مليار دولار)، لتعزيز أمنها الغذائي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
«كاتريون» للتموين بالسعودية توقع عقداً مع «طيران الرياض» بـ612.7 مليون دولار

«كاتريون» للتموين بالسعودية توقع عقداً مع «طيران الرياض» بـ612.7 مليون دولار

وقّعت شركة «كاتريون» للتموين القابضة السعودية عقداً استراتيجياً مع «طيران الرياض» تقوم بموجبه بتزويد رحلات الشركة الداخلية والدولية بالوجبات الغذائية والمشروبات

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد وزير الطاقة السعودي في مؤتمر البترول العالمي في كالغاري (رويترز)

عبد العزيز بن سلمان: «نظام المواد البترولية» يضمن تنافسية عادلة للمستثمرين

قال وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان، إن «نظام المواد البترولية والبتروكيماوية» يدعم جهود استقطاب الاستثمارات ويضمن بيئة تنافسية عادلة للمستثمرين

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ناطحات سحاب في مركز الملك عبد الله المالي بالعاصمة السعودية الرياض (رويترز)

السعودية تجمع 12 مليار دولار من سندات دولية وسط طلب قوي

جمعت السعودية 12 مليار دولار من أسواق الدين العالمية بأول طرح لها لسندات دولية هذا العام استقطب طلبات بنحو 37 مليار دولار وهو ما يظهر مدى شهية المستثمرين.

محمد المطيري (الرياض)
الاقتصاد العاصمة السعودية الرياض (واس)

ارتفاع موافقات التركز الاقتصادي في السعودية إلى أعلى مستوياتها

حققت الهيئة العامة للمنافسة في السعودية رقماً قياسياً في قرارات عدم الممانعة خلال عام 2024 لعدد 202 طلب تركز اقتصادي، وهو الأعلى تاريخياً.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.