قضاة لبنان ماضون بالاعتكاف والتصعيد بمواجهة الحكومة

شددوا على استقلاليتهم مادياً ومعنوياً عن السلطة السياسية

TT

قضاة لبنان ماضون بالاعتكاف والتصعيد بمواجهة الحكومة

دخلت العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية مرحلة معقدة، بعد إصرار قضاة لبنان على تحدي الحكومة المصرّة على حسم نسبة من مخصصاتهم وتخفيض المساهمة في صندوق التعاضد العائد لهم، وتخفيض تقديمات منح التعليم والاستشفاء، وهو ما أبقى اعتكاف القضاة الذي دخل أسبوعه الرابع مفتوحاً لأجل غير مسمّى، مع ما يترتب على ذلك من آثار سلبية جراء تعليق البت بآلاف الدعاوى القضائية، وبقاء حقوق الناس معلقة على أمل انتهاء هذا الإضراب، وحرمان خزينة الدولة من إيرادات مالية كبيرة، بفعل التوقف عن إصدار الأحكام وجباية الرسوم القانونية للدعاوى، فضلاً عن رسوم مخالفات السير التي تدر على الخزينة أموالاً طائلة.
وفي غياب أي التفاتة من قبل الحكومة حيال مطالب القضاة، عقد أكثر من 300 قاضٍ اجتماعاً أمس في قاعة محكمة التمييز، بقصر العدل، في بيروت، بناء على دعوة من مجلس القضاء الأعلى، الذي وضع القضاة في صورة اتصالاته مع الحكومة ومجلس النواب، التي لم تحرز أي تقدم ملموس، وهو ما دفع القضاة إلى اتخاذ القرار بالاستمرار في الاعتكاف، إلى حين صدور إعلان صريح عن الحكومة أو المجلس النيابي، بإلغاء البنود التي تتضمنها الموازنة، والتي تقتطع جزءاً من مخصصاتهم؛ سواء في صندوق تعاضد القضاة أو التقديمات الاجتماعية.
وبينما لم يصدر بيان عن المجتمعين هذه المرة، أكدت مصادر قضائية لـ«الشرق الأوسط» أن القضاة «اتفقوا على عدم التراجع عن مطالبهم المادية والمعنوية، والاستمرار بوتيرة التصعيد إلى أن تعترف السلطة السياسية بأن القضاء سلطة مستقلة، يجب التعاطي معه على هذا الأساس». وشددت على أن «المنصب القضائي لم يعد مغرياً لكثيرين من القضاة، الذين يتكبدون عناء الانتقال من مكان سكنهم إلى مراكز عملهم في محافظات أخرى، ودفع مصاريف الانتقال، وتكبد التعب النفسي والجسدي من دون أي مقابل مادي أو معنوي، في وقت باتت أوضاع موظفين في كثير من إدارات الدولة أفضل بكثير من أوضاع القضاة». وأعطت مثالاً على ذلك بـ«الامتيازات التي يتمتع بها الضباط في المؤسسات الأمنية والعسكرية، بحيث يُعطى الضابط سيارة عسكرية وربما أكثر، بالإضافة إلى مرافقين، بالإضافة إلى نيل كل ضابط 20 صفيحة بنزين، علماً بأن أغلبهم لا يستخدم سيارته الخاصة، بل سيارات عائدة لمؤسساتهم، كما هو الحال بالنسبة لموظفي وزارة المالية ومصرف لبنان والجمارك وغيرها».
ويعمل القضاء اللبناني الآن بربع طاقته، بعد أن التزم غالبية القضاة قرار الاعتكاف، والامتناع عن عقد جلسات المحاكمة أو التحقيق، رغم أن أغلبهم يداومون في مكاتبهم، إلا أن قرار الاعتكاف أو المقاطعة لا يسري على الملفات التي تتعاطى مع موقوفين، والتي تتطلب ضرورة النظر بها والبت بطلبات إخلاء سبيل هؤلاء الموقوفين، أو قضايا تتعلق بفك الرهن أو المزاد العلني، وهذه الحالة أشبه بمناوبات العطلة القضائية، ما يعني أن القضاة دخلوا إجازة قضائية مبكرة، قد تتصل بالعطلة القضائية الدورية التي تبدأ في منتصف شهر يونيو (حزيران) المقبل، وتستمر حتى الأول من سبتمبر (أيلول)، وربما لا يعرف أفقها قبل إقرار الموازنة في البرلمان وصدورها بقانون.
ولم تخفِ المصادر القضائية أن «القضاة باتوا يشعرون بخطر حقيقي على أمنهم الاجتماعي، من هنا يجب فهم أبعاد الاعتكاف الذي يعبر عن مرارة وليس عن رغبة بالإضراب أو تأخير البت بقضايا الناس، التي هي أمانة في رقاب القضاة المؤتمنين على هذه الحقوق». وشددت على أن وضع القضاء «لن يستقيم إلا بإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية عن السلطة السياسية مادياً ومعنوياً، وأن تبقى العلاقة بينهما في إطار تعاون السلطات لا تبعية لإحداها للأخرى». ورأت أنه «من غير المقبول خضوع التعيينات في المراكز القضائية العليا والمناقلات القضائية لمراسيم تصدر عن مجلس الوزراء». وقالت: «يجب اختيار قضاة مجلس القضاء الأعلى والمراكز الأساسية بالانتخاب، وأن تجري التشكيلات القضائية بقرار يصدر عن مجلس القضاء الأعلى لوضع القاضي المناسب في المكان المناسب، وفق معيار النزاهة والكفاءة والاستقامة، وليس بمعيار التبعية السياسية لهذا الزعيم أو ذاك أو هذا المرجع الديني أو ذاك».



الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
TT

الحوثيون يكثّفون حملة الاعتقالات في معقلهم الرئيسي

جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)
جنود حوثيون يركبون شاحنة في أثناء قيامهم بدورية في مطار صنعاء (إ.ب.أ)

أطلقت الجماعة الحوثية سراح خمسة من قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في مناطق سيطرتها، بضمانة عدم المشاركة في أي نشاط احتجاجي أو الاحتفال بالمناسبات الوطنية، وفي المقابل كثّفت في معقلها الرئيسي، حيث محافظة صعدة، حملة الاعتقالات التي تنفّذها منذ انهيار النظام السوري؛ إذ تخشى تكرار هذه التجربة في مناطق سيطرتها.

وذكرت مصادر في جناح حزب «المؤتمر الشعبي» لـ«الشرق الأوسط»، أن الوساطة التي قادها عضو مجلس حكم الانقلاب الحوثي سلطان السامعي، ومحافظ محافظة إب عبد الواحد صلاح، أفضت، وبعد أربعة أشهر من الاعتقال، إلى إطلاق سراح خمسة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب، بضمانة من الرجلين بعدم ممارستهم أي نشاط معارض لحكم الجماعة.

وعلى الرغم من الشراكة الصورية بين جناح حزب «المؤتمر» والجماعة الحوثية، أكدت المصادر أن كل المساعي التي بذلها زعيم الجناح صادق أبو راس، وهو عضو أيضاً في مجلس حكم الجماعة، فشلت في تأمين إطلاق سراح القادة الخمسة وغيرهم من الأعضاء؛ لأن قرار الاعتقال والإفراج مرتبط بمكتب عبد الملك الحوثي الذي يشرف بشكل مباشر على تلك الحملة التي طالت المئات من قيادات الحزب وكوادره بتهمة الدعوة إلى الاحتفال بالذكرى السنوية للإطاحة بأسلاف الحوثيين في شمال اليمن عام 1962.

قيادات جناح حزب «المؤتمر الشعبي» في صنعاء يتعرّضون لقمع حوثي رغم شراكتهم الصورية مع الجماعة (إكس)

في غضون ذلك، ذكرت وسائل إعلام محلية أن الجماعة الحوثية واصلت حملة الاعتقالات الواسعة التي تنفّذها منذ أسبوعين في محافظة صعدة، المعقل الرئيسي لها (شمال)، وأكدت أنها طالت المئات من المدنيين؛ حيث داهمت عناصر ما يُسمّى «جهاز الأمن والمخابرات»، الذين يقودهم عبد الرب جرفان منازلهم وأماكن عملهم، واقتادتهم إلى معتقلات سرية ومنعتهم من التواصل مع أسرهم أو محامين.

300 معتقل

مع حالة الاستنفار التي أعلنها الحوثيون وسط مخاوف من استهداف قادتهم من قبل إسرائيل، قدّرت المصادر عدد المعتقلين في الحملة الأخيرة بمحافظة صعدة بنحو 300 شخص، من بينهم 50 امرأة.

وذكرت المصادر أن المعتقلين يواجهون تهمة التجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى؛ حيث تخشى الجماعة من تحديد مواقع زعيمها وقادة الجناح العسكري، على غرار ما حصل مع «حزب الله» اللبناني، الذي أشرف على تشكيل جماعة الحوثي وقاد جناحيها العسكري والمخابراتي.

عناصر من الحوثيين خلال حشد للجماعة في صنعاء (إ.ب.أ)

ونفت المصادر صحة التهم الموجهة إلى المعتقلين المدنيين، وقالت إن الجماعة تسعى لبث حالة من الرعب وسط السكان، خصوصاً في محافظة صعدة، التي تستخدم بصفتها مقراً أساسياً لاختباء زعيم الجماعة وقادة الجناح العسكري والأمني.

وحسب المصادر، تتزايد مخاوف قادة الجماعة من قيام تل أبيب بجمع معلومات عن أماكن اختبائهم في المرتفعات الجبلية بالمحافظة التي شهدت ولادة هذه الجماعة وانطلاق حركة التمرد ضد السلطة المركزية منذ منتصف عام 2004، والتي تحولت إلى مركز لتخزين الصواريخ والطائرات المسيّرة ومقر لقيادة العمليات والتدريب وتخزين الأموال.

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وانهيار المحور الإيراني، استنفرت الجماعة الحوثية أمنياً وعسكرياً بشكل غير مسبوق، خشية تكرار التجربة السورية في المناطق التي تسيطر عليها؛ حيث نفّذت حملة تجنيد شاملة وألزمت الموظفين العموميين بحمل السلاح، ودفعت بتعزيزات كبيرة إلى مناطق التماس مع القوات الحكومية خشية هجوم مباغت.

خلق حالة رعب

بالتزامن مع ذلك، شنّ الحوثيون حملة اعتقالات شملت كل من يُشتبه بمعارضته لسلطتهم، وبررت منذ أيام تلك الحملة بالقبض على ثلاثة أفراد قالت إنهم كانوا يعملون لصالح المخابرات البريطانية، وإن مهمتهم كانت مراقبة أماكن وجود قادتها ومواقع تخزين الأسلحة في صنعاء.

وشككت مصادر سياسية وحقوقية في صحة الرواية الحوثية، وقالت إنه ومن خلال تجربة عشرة أعوام تبيّن أن الحوثيين يعلنون مثل هذه العمليات فقط لخلق حالة من الرعب بين السكان، ومنع أي محاولة لرصد تحركات قادتهم أو مواقع تخزين الصواريخ والمسيرات.

انقلاب الحوثيين وحربهم على اليمنيين تسببا في معاناة ملايين السكان (أ.ف.ب)

ووفق هذه المصادر، فإن قادة الحوثيين اعتادوا توجيه مثل هذه التهم إلى أشخاص يعارضون سلطتهم وممارساتهم، أو أشخاص لديهم ممتلكات يسعى قادة الجماعة للاستيلاء عليها، ولهذا يعمدون إلى ترويج مثل هذه التهم التي تصل عقوبتها إلى الإعدام لمساومة هؤلاء على السكوت والتنازل عن ممتلكاتهم مقابل إسقاط تلك التهم.

وبيّنت المصادر أن المئات من المعارضين أو الناشطين قد وُجهت إليهم مثل هذه التهم منذ بداية الحرب التي أشعلتها الجماعة الحوثية بانقلابها على السلطة الشرعية في 21 سبتمبر (أيلول) عام 2014، وهي تهم ثبت زيفها، ولم تتمكن مخابرات الجماعة من تقديم أدلة تؤيد تلك الاتهامات.

وكان آخرهم المعتقلون على ذمة الاحتفال بذكرى الإطاحة بنظام حكم أسلافهم في شمال اليمن، وكذلك مالك شركة «برودجي» التي كانت تعمل لصالح الأمم المتحدة، للتأكد من هوية المستفيدين من المساعدات الإغاثية ومتابعة تسلمهم تلك المساعدات؛ حيث حُكم على مدير الشركة بالإعدام بتهمة التخابر؛ لأنه استخدم نظام تحديد المواقع في عملية المسح، التي تمت بموافقة سلطة الحوثيين أنفسهم