«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» (4): «إلى سما» يعيد طرح الحرب السورية من جديد


يطلق الفيلم الجديد «إلى سما» صوته المعارض في مهرجان «كان» السينمائي، متناولاً الوضع في مدينة حلب عندما استعر القتال حولها وفيها بين جهتي النزاع السوري القائم.
ليس في ذلك أي جديد؛ فالأفلام التي تناولت الحرب السورية سبق لبعضها وأن دار في حلب وانتقل بعضها الآخر لمواقع أخرى مثل حمص ودمشق، أو تركت الحدث يحلق في محيط عام بلا تحديد. والغالب أنه لن يمر وقت طويل قبل أن نرى فيلماً أو أكثر عن مدينة إدلب أو أي من المدن المتنازع عليها في الشمال السوري.
يطل الفيلم من على الشرفة «الكانية» خارج المسابقة بعدما كان جال بضعة مهرجانات سابقة بينها «هوت دوكس» الكندي، حيث خرج بالجائزة الأولى لأفضل فيلم تسجيلي طويل (95 دقيقة) ومهرجان SXSW الأميركي، حيث خرج بجائزة لجنة التحكيم الخاصة كما بجائزة الجمهور، والسعي جار لإبقاء فتيل الفيلم مشتعلاً وصولاً إلى الأوسكار كحال سواه من الأفلام التي دارت في الموضوع نفسه ودخلت فيما بعد ترشيحات الأوسكار الرسمية.
الفيلم بريطاني من إنتاج «شانل 4 نيوز» والإخراج قام به اثنان وعد الكاتب وإدوارد ووتس. الأولى من الميدان والثاني لتركيب العمل على سكتيه الفنيّتين وتنفيذ شروطه الفنية بعد التصوير. والموضوع آسر كما يتوقع المرء من فيلم توجه فيه أم من حلب (مخرجة الفيلم) كلامها إلى طفلتها سما التي أنجبتها خلال القصف.
وعد الكاتب كانت درست الإعلام في جامعة حلب قبل بداية الحرب الأهلية هناك سنة 2011. حين بدأت مصحوبة بتحوّل المعارضة من مظاهرات سلمية واجهتها القوى النظامية بالبطش إلى مسلحة هدفها تغيير النظام، كانت وعد في قلب المدينة التي سريعاً ما انتقل الصراع إليها. لخمس سنوات تابعت المخرجة المعارك، حيث تحوّلت إلى مراسلة حربية للقناة الرابعة البريطانية. كم مما سبق له وأن صوّرته موجود في هذا الفيلم لا علم لنا به، لكن إذا ما وُجد فهو قليل جداً لأن ما لدينا هنا هو فيلم كامل من وجهة نظر امرأة تزوّجت وأنجبت وتصنع الفيلم لتتحدث فيه عن حياتها خلال المحنة كما عن طفلتها التي تقول عنها: «أعلم أنك تعرفين ما يحدث حولك».
إنها رحلتها الخاصة في هذا المخاض الصعب. وعد الكاتب اختارت صف المعارضة وتتحدث، من خلال تعليق موجه لطفلتها، عن هذا الاختيار وتطلب منها أن تسامحها كونها أنجبتها في مثل هذه الظروف.
مثل سواه من الأفلام التي خرجت من أتون تلك الحرب، كما حال «عن الآباء والأبناء» و«الخوذات البيض» هناك تغييب لأي نوع من التحليل السياسي لما يقع. المسألة المثارة هنا، وسط القصف والدمار وأصوات الحرب الأخرى، هو صوت الأم الملائكي في طبيعته وهي تشرح ظروف الحياة وتؤرخ لبعض ما حدث وكيف تداعت الأمور إلى ما وصلت إليها، لكن لا قدرة على هذا الصياغ الإلمام بمرجعيات ما دار ولا حتى البحث فيما إذا كانت المعارضة المسلحة جميعاً تقف في صف واحد أو أن بعضها، كما الحال الآن، ينتمي إلى ميليشيات تركية وإيرانية السند.
على ذلك، ما يعرضه الفيلم مؤثر لأنه لا يغفل عن سرد الحكاية الشخصية. تاريخها الخاص وكيف تعرفت على زوجها الطبيب ثم ساعدته عندما أنشأ عيادته الجراحية الخاصة (نشاهد بعض عملياته) وتزوّجته (تعرض ليلة الزفاف) وكيف انتقلا إلى منزل جديد أنجبت فيه ابنتها وهو المنزل الذي تهدم جداره بفعل القصف.
هذا التلازم بين الواقع المعاش خارج الخاص، وذاك الخاص يبقى من وجهة نظر شخصية يعمد المخرج البريطاني إدوارد ووتس إلى حياكتها بنجاح. ووعد، التي صوّرت الفيلم بنفسها (لكن من صوّرها وهي أمام الكاميرا)، لديها طاقة كبيرة في أن تبقى محافظة على رباطة جأشها الذي يتطلبه تحقيق هذا الفيلم.
تمويل خارجي
اختيار المهرجانات الدولية لعرض تجارب الحرب السورية أمر بدهي في أساسه. خلال سنوات الحرب المدمرة سعى المخرجون إلى عرض أفلامهم في تلك المنصات كما سعت المهرجانات لاستحواذ العدد الأكبر من بينها. للمخرجين رغباتهم في عرض القضايا والانتقال معها، أو من دونها، إلى مستقبل ناجح حتى وإن لم يتضمن العودة إلى حكايات الحرب. بالنسبة للمهرجانات فإن عرض أعمال جيدة عن الحرب الأهلية (أو عن أي حرب اشتعلت شرارتها في السنوات السبع الماضية) يحمل تلبية لرغبات الجمهور الحاضر وتأمين مساهمة المهرجان المعني بالمشاركة في الحدث الدائر.
معظم هذه الأفلام لم تكن لتتم كذلك من دون مشاركات إنتاجية خارجية (أوروبية غالباً)، فالسينمائيون المعارضون ليسوا قادرين على تأمين التمويل اللازم، ولا على إنجاز الأعمال على نحو تقني جيد من دون تلك المعونة الخارجية. لذلك كان سهلاً على المهرجانات تداول تلك الأفلام كونها آتية من مكاتب إنتاج خارجية. وهذا كان حال «عن الآباء والأبناء» لطلال الديركي الذي تم تمويله ألمانياً. «لسه منسجل» لسعيد البطل وغيث أيوب استمد تمويله من بضعة محطات بينها بريطانيا وفرنسا وقطر و«يوم أضعت ظلي» لسؤدد كعدان هو فرنسي- قطري مشترك، بينما «آخر رجال حلب» لفراس فياض إنتاج دنماركي.
وكل هذه الأفلام وسواها شهدت عروضاً قبل تسلل بعضها إلى الأسواق التجارية. «لسه منسجل» شهد عروضه في مهرجان فينيسيا (أسبوع النقاد) ثم في مهرجان مراكش ولوكمسبورغ. «يوم فقدت ظلي» (وهو من القليل الروائي في هذا المجال) عرض أولاً في مهرجاني فينيسيا وتورونتو ثم في «الجونة» وبوسان وسنغابور بين أخرى.
«فوضى» وهو فيلم تسجيلي آخر إنما بنبرة هادئة حققته سارة فتّـاحي بتمويل نمساوي غالب، نال جائزة في مهرجان لوكارنو ثم انتقل منها إلى مهرجانات فيينا ومونتريال بين أخرى.
والملاحظ من هذا النسيج، الذي لا يشمل هنا كل ما تم إنتاجه من أفلام المعارضة لضيق المساحة، هو أن هذه الأفلام كانت لها اليد الطولى في الوصول إلى المهرجانات الكبرى (كان، فينيسيا، لوكارنو، برلين، تورونتو، صندانس إلخ…) في حين أن الأفلام التي أنتجتها مؤسسة السينما السورية، وهي مؤسسة حكومية، أو شركات إنتاج تعمل في دمشق، لم تصل إلا لنذر يسير من هذه المهرجانات أو، تحديداً، إلى مهرجانات إقليمية مثل القاهرة والجونة وأيام قرطاج السينمائية. ليس هذا تبعاً لمستويات فنية غير متوفرة للجهات المنتجة (على العكس أحياناً)، بل لأن المهرجانات الغربية لم تشأ أن تجد نفسها كما لو أنها تشارك النظام غاياته السياسية.
من هذه الناحية وحدها، وبعيداً عن التسييس، فقد الجمهور العالمي القدرة على المقارنة وتشكيل موقفه إثر معاينة شاملة.