منذ أن تشكّلت الحكومة الإيطالية الحالية مطلع الصيف الماضي وقوامها ائتلاف بين حركة النجوم الخمس الشعبويّة وحزب الرابطة اليميني المتطرّف، يتصرّف زعيم هذه الأخيرة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية ماتّيو سالفيني كالحاكم بأمره وفارض قواعد اللعبة الجديدة على المسرح السياسي، فيما لم يعدّ ثمّة من يشكّك بأن الانتخابات المقبلة ستحمله إلى قيادة القوة السياسية الأولى، ومنها إلى رئاسة الحكومة في إيطاليا.
يقرّر سالفيني إغلاق الموانئ الإيطالية في وجه سفن إنقاذ المهاجرين الناجين من الغرق في المتوسط منتهكاً القواعد والاتفاقات الدولية، ويفرض عقوبات جنائية وغرامات مالية على الذين يؤوون مهاجرين غير شرعيين، ويتوعّد مجموعات الغجر التي تعيش في أكواخ الصفيح حول بعض المدن بهدمها، ويضع كل ثقله لإصدار قانون يجيز استخدام السلاح للدفاع عن النفس «في حال الشعور بالخوف الشديد»، ويدلي بدلوه كل يوم في ملفّات لا علاقة لوزارته بها، ويرفض الاحتفال كما يفعل الإيطاليون منذ 64 عاماً بتحرير البلاد من النازية والفاشيّة، ولا يتورّع عن إبداء امتعاضه لفوز مطرب من أب مصري وأم إيطالية بجائزة الأغنية الوطنية، ويمتنع عن توصيف الاعتداءات التي يتعرّض لها المواطنون أو المهاجرون الأفارقة بالعنصرية.
نيرانه جاهزة دائماً لإطلاقها على المؤسسات الأوروبية التي يتّهمها بسوء معاملة إيطاليا ويحمّلها مسؤولية الضائقة الاقتصادية والاجتماعية، ويفاخر بخروجه عن القواعد التي ارتضتها الحكومات الأوروبية، كما يفتح معركة غير مسبوقة مع رئيس فرنسا كادت تؤدي إلى قطيعة بين البلدين، ويدعو إلى رفع العقوبات الأوروبية عن روسيا التي يصفها بالحليف الطبيعي والتاريخي.
يبدو أنْ لا شيء، ولا أحد، يقف في وجه زعيم الرابطة الذي يعيش في حملة انتخابية دائمة، ويرتفع رصيده في كل انتخابات حتى بات الأوفر حظّاً لقيادة الجبهة اليمينية المتطرفة في أوروبا بعد الانتخابات المقبلة لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي نهاية الأسبوع المقبل.
حلفاؤه في الحكومة، الذين يضاعفون عدد مقاعده في البرلمان، يحارون كيف يتعاملون معه ويضطرون غالباً إلى مجاراته أو المزايدة عليه، خشية انفراط الائتلاف الحاكم والذهاب إلى انتخابات يعرفون أنه سيخرج منها ظافراً بموقع القوة السياسية الأولى.
لكن سالفيني يواجه منذ فترة «خصماً» عنيداً وهادئاً، ومصمماً على نقض خطابه التحريضي والعنصري من خارج الحلبة السياسية التقليدية. إنه البابا فرنسيس الذي جعل من قضيّة المهاجرين عنواناً لحبريّته. لكن بعكس اتجاه سالفيني، منذ اليوم الأول لجلوسه على الكرسي الرسولي، حرص على أن تكون زيارته الأولى إلى جزيرة «لامبيدوسا» التي ينزل المهاجرون على سواحلها في عبورهم الطويل إلى أوروبا، ويقضي المئات منهم قبل الوصول إليها. وفي كل مرّة، يطلق سالفيني حملة جديدة لملاحقة المهاجرين غير الشرعيين، يفتح البابا أبواب الكنائس لإيوائهم والجمعيات الخيرية للعناية بهم ومساعدتهم.
منذ أشهر وسالفيني يحاول الالتفاف على الجبهة التي فتحها ضدّه سيّد الفاتيكان، والتي يتبيّن من الاستطلاعات الأخيرة أنها بدأت تستنزف شعبيته. وقد سعى مرات عدة لمقابلة البابا فرنسيس، لكن مصادر الفاتيكان تؤكد أن هذا الأخير قد أبلغه عبر قنوات غير رسمية، بأنه لن يستقبله ما دامت سياسته ومواقفه تجاه المهاجرين لم تتغيّر.
آخر فصول هذه المواجهة كانت بعد أن أمر سالفيني بإخلاء مخيّم للمهاجرين الرومانيين في ضواحي روما، فقرر البابا استقبال المئات منهم في الفاتيكان، حيث خاطبهم قائلاً: «أصلّي لأجلكم كل يوم، وأعاني كلّما أقرأ في الصحف عن أخباركم وما تتعرضّون له. هذه ليست مدنيّة... المحبّة هي المدنيّة، وإن كان ثمّة مواطنون من الدرجة الثانية، فهؤلاء هم الذين يرفضون الآخر ويحقّرونه».
لم ينتظر سالفيني طويلاً للردّ على كلمات البابا التي يعرف أنّها كانت موجّهة ضدّه، فغرّد على حسابه: «قرأت أن البابا استقبل الغجر الرومانيين. له أن يفعل ما يشاء ويستقبل من يريد، أما أنا فهدفي كان وما زال إغلاق كل مخيّمات الغجر التي تعشّش فيها الجريمة».
الدلائل الأخيرة في هذه «المواجهة» تشير إلى أن سالفيني قرّر العمل بنصيحة صديقه ستيف بانون الذي تؤكد معلومات أنه اقترح عليه في العام الماضي انتقاد البابا مباشرةً حول موضوع الهجرة، باعتباره «الخصم الرئيسي» في هذا الملفّ. ويقال إن سالفيني كان متحمساً للتجاوب مع الاقتراح، لكن مساعديه نصحوه بالتريّث نظراً للشعبية الواسعة التي يتمتّع بها البابا في إيطاليا وخارجها.
أما أوساط الفاتيكان فقلقة جداً من خطاب سالفيني السياسي الذي يؤجج الصراعات العرقية ويلعب على وتر التحريض الديني، وتتساءل: كيف يمكن أن تمنعه من أن يصبح الرجل القوي في المشهد السياسي الإيطالي؟ ويقوم عدد من الأساقفة القريبين من البابا فرنسيس بحملات في عدد من المدن الإيطالية منذ فترة لمساعدة المهاجرين، تحت شعار «فلنفتح الموانئ» ردّاً على سياسة سالفيني إغلاق الموانئ البحرية في وجه سفن الإنقاذ، والتي بدأ حلفاؤه في حركة النجوم الخمس يتنصلّون منها.
وكان البابا قد انتقل بدوره مؤخراً إلى تصعيد خطابه في مواجهة زعيم الرابطة، عندما قال: «لماذا يمنعون المراكب من الدخول إلى الموانئ؟ لماذا يتركون المهاجرين يغرقون في البحر؟ المجرم الحقيقي هو الذي يمنع المساعدة والرحمة عن المحتاجين إليها». وجاء الرد من سالفيني بعد ساعات قائلاً إن «إيطاليا لا تتسع للجميع، والأولوية هنا للإيطاليين، وهذه ليست إجراءات أنانية أو فاشية أو عنصرية. الموانئ أفتحها لمن يحمل الإذن بالدخول إلى إيطاليا».
البابا فرنسيس... «خصم» غير تقليدي لسياسات سالفيني تجاه المهاجرين
البابا فرنسيس... «خصم» غير تقليدي لسياسات سالفيني تجاه المهاجرين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة