«سواد»... محاولة لتدوين الأحلام والكوابيس

سعد هادي انتقل من عالم الرسم والنحت والسينما إلى القصة القصيرة

«سواد»... محاولة لتدوين الأحلام والكوابيس
TT

«سواد»... محاولة لتدوين الأحلام والكوابيس

«سواد»... محاولة لتدوين الأحلام والكوابيس

تشكّل «سواد»، المجموعة القصصية الجديدة الصادرة عن دار «نينوى» بدمشق، انعطافة في تجربة القاص والروائي العراقي سعد هادي الذي وَفَد إلى الفضاء السردي من عالم الرسم والنحت والسينما وتاريخ الفن، فلا غرابة أن تشتبك جملته السردية باللقطة السينمائية، أو تتلاقح مع أحد العناصر التشكيلية التي تُثري النص القصصي، وتُضفي عليه أبعاداً جمالية قد لا نألفها في القصص القارّة المُكتفية بفضائها السردي.
تتضمن المجموعة ثماني قصص غريبة شكلاً ومضموناً، ولو تأمّلها القارئ جيداً لوجدها محصورة بين أنا الراوي وقرينه أو مثيله، فكلنا لدينا أنداد ونظراء متعددون يظهرون لنا من حيث لا نحتسب، ويأخذوننا إلى المنطقة الرمادية أو الحدّ الفاصل بين الحقيقة والوهم، ذلك الحيّز الغامض الذي يضطّرنا لأن نقبل بنظرية «الواقع الخيالي» أو «الخيال الواقعي» الذي ينطوي على مستويات متعددة تُقنع القارئ، ولا تقف حائلاً أمام تجلياته وشطحاته الذهنية الخلاّقة. فكل الرواة في هذه القصص يواجهون أندادهم من دون أن يعرفوا ذلك، وهذا هو سرّ اللعبة الفنية التي أتقنها سعد هادي، وكرّرها علينا ثماني مرّات من دون أن تفقد بريقها، أو تتخلى عن قدرتها على الإبهار. أما الثيمات فهي عجائبية في مجملها يتداخل فيها الواقع بالخيال، ويمتزج فيها المرئي باللامرئي، ولا تخضع لقوانين العقل واشتراطاته المعروفة. ولو شئنا التعميم لقلنا إنّ الرواة في هذه القصص الثماني يحاولون تدوين أحلامهم وكوابيسهم.
تحتاج قصة «مبكى الغرباء» لإعادة ترتيب الأحداث بغية إزالة الغموض الذي يكتنفها، فالراوي هنا «ساردٌ غير عليم»، ويعاني من فقدان الذاكرة (amnesia)، ولا يستطيع أن يتذكّر تلك النزوة التي راودته ذات يوم في أن يكون ممثلاً، وكانت السبب الرئيس في تدمير حياة الأسرة برمتها. ثمة أحداث ووقائع مختلفة تشير بالدليل القاطع إلى المناخ الجهنمي الذي يسيطر على شخصيات القصة، فالراوي لا يتذكر الأحداث المفجعة التي أصابت أفراد أسرته وهزّته من الأعماق، كما لا يتذكر زوجته أو منزله أو صورته في فيلم «مبكى الغرباء» الذي اشترك فيه. غير أن الطامة الكبرى تحدث عندما يرى المشاهدون أنفسهم في صورته، والكل يصرخ: «هذا أنا!»، وحينما تظهر زوجته يصيح أكثر من مُشاهِد «هذه زوجتي!»، ويدعي أنها كانت تعيش معه، وقد هربتْ منه، وتركتهُ وحيداً. إنّ هذا التماهي مع شخصية البطل الضائع، والوحيد، والفاقد للذاكرة يشي بأننا «معشر النظّارة كُنّا وسنظلُ متشابهين في التعاسة ولا جدوى الوجود».
توحي قصة «أنا ذئبك يا صاحبي» بنَفَسها البوليسي أول الأمر، لكنها سرعان ما تنتظم في ثنائية «الأنا ومثيله»، ولو أعدنا تجميع العناصر المتفرقة لهذه القصة «السوداوية»، لبرز لنا الراوي الفاقد للذاكرة بفعل صدمات حرب الثماني سنوات التي خلقت من مقاتليها ذئاباً بشرية. أقسى ما يتذكّره الراوي هي تلك الدورية القتالية التي قُتل فيها صديقه، وقد دوّن في إفادته الرسمية أنّ ذئباً انقضّ عليه، وسقط معه إلى الهاوية، وظل أحدهما يأكل لحم الآخر حتى تحوّلا إلى كائن مُلتبس في زمن أهوج صنعته الحروب والعقول المريضة الفاسدة التي أفضت بنا إلى اليأس، والخراب العميم.
تأخذنا قصة «ماتريوشكا» إلى الفضاء العجائبي الذي تصنع فيه الراوية الرجل الذي تريده من مسحوق تقتنيه من آلة في البار، ثم تسكب عليه كأساً من الماء، وتحرّك مزيجه حتى يتخثر، ثم تضعه في الثلاجة لمدة 10 ساعات، بعدها يصبح رجلاً صغيراً تضعه إلى جوارها لتحظى منه بلمسة أو قبلة، أو ما هو أكثر من ذلك، شرط «أن تعرف المرأة كيف تحرّك غرائز مخلوقها».
تنطوي قصة «باص بوجه قط سمين» على مضمون كابوسي يتداخل فيه الواقع بالخيال، وبطل القصة هو موظف حكومي أُعطيت له صورة الرئيس حين شارك في مسيرة لتأييد أحد قراراته حتى تحولت الصورة إلى لعنة أبدية لا يستطيع إنزالها، أو التخلّص منها، إلى أن جاء رجل عجوز وأخبره بأنّ كل شيء قد تغيّر. في موقف الباص يلتقي برجل عجوز آخر يشبه الأول، ولا يملّ من الإصغاء وسماع التفاصيل، فيروي له حكايته الغريبة المبهمة، ويخبره العجوز أن الباص رقم صفر سيأتي بعد قليل، وقد دُمغَ بالرقم صفر «لأنه لا يذهب إلى أي مكان، يشبه آلة تنظيف تخرج في الليل لمسح أخطاء الماضي». أما النهاية المدروسة فتتجسد في الأسطر الأخيرة من هذه القصة الكابوسية التي أبدع سعد هادي في صياغة حدثها الختامي الذي يتمثل في انطفاء أضواء الباص، وإحساس الراوي بالهواء الثقيل المشبّع برائحة المطهِّر الطبي حين يقول: «رأيت نفسي بعد لحظات أدور وسط أسطوانة مسنّنة تتلاحق فيها وجوه أناس آخرين، ربما كانوا صوراً أو خيالات مجرّدة، أو لعلهم كانوا من التائهين بين الأزمنة والأمكنة مثلي».
تتكرر تقنية الشبيه في قصة «حديقة شيرازي البعيدة»، فالحوار الذي يدور بين الجندي الذي انتقلت وحدته من «رأس البيشة» والجندي الذي قدِمَ من تلال «الشيب»، يكشف عن وجود هذا الشبه الكبير، حيث يمضي الأخير باستذكاراته قائلاً: «كان معنا جندي غريب الأطوار... قُتل للأسف في ليلة الهجوم تلك... يواصل القراءة في ضوء شمعة ويردّد أشعاراً... كان يشبهك تماماً كأنه أنت».
في قصة «إيرينا» نقف أمام شخصيتين تحملان الاسم ذاته؛ إحداهما قادمة من الفردوس وأخرى منبثقة من أعماق الجحيم. وحينما توارت الأولى أصبح كحولياً، وبدأ يهدد بالانتحار إلى أن جاءت امرأة وجلست بجواره، فتبيّن أن اسمها إيرينا وهي روسية أيضاً. وبعد مدة قصيرة ترجلت من السيارة امرأة ضخمة فأخبرها الساقي: «لقد أَعادَ زوجك يا لاريسا قصة الملائكة من جديد، ولكنه جعل اسم المرأة التي يعشقها هذه المرة إيرينا، أتعرفينها؟»، حين تعود هذه المرأة الضخمة تشرب الكأس المتروكة على المائدة، وتتجشأ، ثم «تبدأ بسرد حكاية ما عن شياطين ورجال بلا أسماء وذكريات ملتبسة من ماضٍ بعيد».
تتحول الكتب في قصة «حياة مُستعمَلة» إلى قنافذ، وفراشات هلامية، وسكاكين، وأكواب، وملاعق لكن هذا المشهد العجائبي سرعان ما ينتهي حين ترفعه إحدى الأيادي، وتُلقي به من الباب المفتوح، بينما يستمر السائق في مواصلة الرحلة إلى غايتها المنشودة.
تصل الفانتازيا إلى ذروتها في قصة «سواد»، حيث يسرد الراوي حكاية درويش الذي يكتب قصائد رثاء للأشخاص الذين كانوا يقيمون في هذه العمارة، ورحلوا، أو فارقوا الحياة. كان درويش يتواطأ مع الراوي، ويتلذّذ بمشاركته إياه في أسراره، ويتيح له النظر من الكوّة إلى داخل الغرفة التي تجري فيها أحداث مروِّعة من القتل والحرق والإعدام، لكننا سنكتشف تباعاً عدم وجود هذه الكوّة، ولم يكن الراوي يشاهد سوى خيالات درويش وأحلامه وكوابيسه، وأنّ الإنسان بالنتيجة ليس سوى آلة لصنع الأحلام.
سبق لسعد هادي أن أنجز مجموعتين قصصيتين، وهما «طبيعة صامتة» 1990، و«الأسلاف في مكان ما» 2004. كما أصدر أربع روايات بين عامي 2005 و2014 وهي «ليلى والقرد» و«تجريد شخصي» و«عصافير المومس العرجاء» و«سلاطين الرماد».



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.