التنمية الثقافية تتصدر نهضة الصين خلال 65 عاماً

كتاب جديد يؤكد مساهمتها في النمو الاقتصادي وإنشاء نظام للابتكار

التنمية الثقافية تتصدر نهضة الصين خلال 65 عاماً
TT

التنمية الثقافية تتصدر نهضة الصين خلال 65 عاماً

التنمية الثقافية تتصدر نهضة الصين خلال 65 عاماً

تصدرت صناعة الثقافة وسبل تنميتها منظومة التغيرات الكبرى في الصين التي جذبت اهتمامات كثير من الباحثين والخبراء في كل أنحاء العالم، بعد ما شهدته من قفزات هائلة منذ تأسيسها في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1949 وحتى الآن، وقد صاحب هذه النهضة عمل بحثي لتفسير المعجزة الصينية من قبل مفكرين غربيين وأميركيين، لكن علماء الصين وباحثيها، لم يتركوا الساحة خالية لتفسير تجربتهم، فقد ظهرت مساهمات لأصحاب التجربة نفسها، سعت لتفسير ما جرى، وتوضيح أسراره، ومن هؤلاء الكاتبان وو لي، ووانغ لاي، اللذان أصدرا كتابا عام 2015 بمناسبة مرور 65 عاما عن انطلاقة الجمهورية الصينية، ومسيرتها نحو التقدم.
الكتاب الذي صدر حديثا في القاهرة، بطبعة مشتركة عن دار الحكمة الصينية وكنوز المصرية، وترجمه الباحث المصري محمد ماهر بسيوني، يحاول أن يستقصي رحلة دولة حولها أبناؤها من مجتمع فقير ضعيف ممزق، نصف مُستعمَر ونصف إقطاعي إلى قوة عظمى مزدهرة ذات سياسات واضحة، ومجتمع مستقر، وكيان اقتصادي يصنف الثاني عالمياً، فضلاً عن ارتفاع الدخل الفردي لأكثر من 6500 دولار أميركي، منذ عام 2013.
وتحقق هذه الإنجازات جاء رغم عجز الموارد الفردية والاستئثار برأس المال، وقد سعى المؤلفان إلى الكشف عن الوقائع البارزة والإخفاقات والإنجازات التي مرت في تاريخ بلديهما، وكانت سببا في تشكل صورتها التي يعرفها العالم الآن.
أهم الأسرار التي كشف عنها الكتاب كانت في الجانب الثقافي الذي تم اعتماده لوصول الصين إلى ما وصلت إليه، ففي أكتوبر عام 1996 بدأ السعي لتقوية التقدم في هذا المجال وتسليح الناس بالنظريات العلمية، وإلهامهم بالأعمال المتميزة والانضباط الذاتي، ما ساعد على توفير مناخ ملائم لمواصلة تعميق الإصلاح والتعجيل بالتنمية.
وذكر المؤلفان أنه في عام 2000 تم اقتراح مفهوم جديد لـ«صناعة الثقافة» تم على أساسه تقسيمها إلى مشاريع ثقافية وصناعة ثقافية، لضمان ازدهار ثقافة الصينيين، وتلبية احتياجاتهم في ظل ظروف اقتصاد السوق. مع التشديد على الدور الأساسي له في التخصيص الرشيد للموارد الثقافية.
وفي عام 2006، صدرت الخطوط العريضة لخطة تنمية الثقافة الوطنية، وزاد الإنفاق الحكومي على المشاريع الثقافية والصناعة زيادة كبيرة. وبلغت النفقات الثقافية والرياضية والإعلامية المصروفة من التمويل العام الوطني 68.5 مليار يوان في عام 2006، وارتفعت بنسبة 23 في المائة في المتوسط كل عام خلال الخطة الخمسية.
وبعد ثلاثة أعوام تم إقرار أول تخطيط متخصص لإعادة تنشيط الصناعة الثقافية لتصبح واحدة من الصناعات الاستراتيجية للبلاد. كما تم طرح مفهوم الصناعة الثقافية كركيزة في الاقتصاد الوطني، وفي عام 2012 تجاوز إنتاجها الإجمالي 4 تريليونات يوان، الدولار الأميركي يساوي 7 يوان تقريبا.
وحققت الكيانات الاعتبارية للصناعة الثقافية قيمة مضافة بلغت 1.807.1 مليار يوان تمثل 3.48 في المائة من إجمالي الناتج المحلى بزيادة 16.5 في المائة عن العام السابق. كما أسهمت الصناعة الثقافية بنسبة 5.5 في المائة من النمو الاقتصادي الإجمالي في ذلك العام. وتم طرح فكرة إنشاء نظام وطني للابتكار، يوفر ضمانا مؤسسيا فعالا لتسويق وتصنيع إنجازات التكنولوجيا الفائقة والتكنولوجيا الجديدة وتغيير وضع البلد المنخفض في سلسلة القيمة الصناعية العالمية. وصدر في عام 2006، برنامج متوسط وطويل الأجل هدفه تطوير العلوم والتكنولوجيا وتعزيز القدرة على الابتكار، مع زيادة استثمارات البحث والتطوير بأكثر من 20 في المائة سنويا، ففي الفترة من 2006 إلى 2011، ارتفعت من 300 مليار يوان إلى 861 مليار يوان، وارتفعت نسبتها في الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.83 في المائة من 1.42 في المائة، لتحتل المرتبة الثالثة في العالم وفي عام 2013 بلغت نفقات البحث والتطوير 1190.6 مليار يوان، وارتفعت نسبة الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.09 في المائة.
وزاد عدد الموهوبين في العلوم والتكنولوجيا ليبلغ 57 مليون عالم ومبتكر لتحتل الصين المرتبة الأولى في العالم، وتواكب العالم في توحيد تكنولوجيا النانو، ومجال الاستشعار عن بعد في الفضاء، وأمن المعلومات، والمعدات البحرية، ومواد ألياف الكربون، كما قامت بتطوير كومبيوتر عملاق قادر على إكمال 2.57 مليون مليار عملية حسابية في الثانية الواحدة، محتلا المرتبة الأولى في العالم.
وعلى جانب آخر يحكي مؤلفا الكتاب قصة الصين بداية من فترة ما قبل عام 1949 عندما كانت نصف المُستعمَرة ونصف الإقطاعية موصومة بالفقر المدقع، والفساد السياسي، والعوز الاقتصادي، والمجتمع الفوضوي. وظهور أباطرة الحرب المتناحرين بعد «ثورة شينهاي» عام 1911، وتوحيد الصين اسمياً من قبل الكومينتانغ، وسيطرة رأس المال الأجنبي والرأسمالية الحكومية والوطنية على الصناعات الرئيسية والتجارة والموارد المالية.
ولفت الكتاب إلى أن حكومة الكومينتانغ في نانجينغ كانت تعمل لمصلحة طبقة ملاك الأراضي والطبقة البرجوازية، لكن تأسيس الجمهورية أنهى قرناً من الحروب، وقوض أركان المجتمع الاستعماري الإقطاعي الذي استمر منذ عام 1840 (العام الذي اندلعت فيه حرب الأفيون الأولى)، ووضع الأمة على مسار قوي، وغير المخطط السياسي والاقتصادي العالمي.
وتحدث الكتاب في الشأن الاقتصادي عن أسس الملكية، ونظام إقامة وتطوير القطاعات الاقتصادية المتعددة، وإرساء قاعدة «التخصص والتعاون وكل شيء في موضعه»، والمزج بين إدارة التخطيط الحكومية وضوابط السوق؛ ومراعاة المصالح العامة والخاصة على السواء، والتعاون المشترك بين مناطق الحضر والريف، وتنفيذ شعار «الأرض لمن يزرعها».
ولفت وو لي ووانغ لاي إلى أن الشركات التي أنشأتها الصين بعد مصادرة ممتلكات الرأسمالية الحكومية، أسهمت في شق شريان الحياة الاقتصادي في البلاد، وركزت أساساً على مجالات مثل الصناعة الحديثة والنقل والتمويل والتجارة الخارجية. أما فيما يتعلق بالشركات المملوكة للقطاع الخاص والتي كانت منتشرة على نطاق واسع في مناطق الحضر والريف، فقد اعتمدت الحكومة سياسات حماية الصناعة والتجارة الوطنية، وتشجيع المشاريع والعمليات التي يمكن أن تفيد الاقتصاد.
وقال وو لي ووانغ لاي إن الصين فيما يتعلق بالعقد الاجتماعي، محت الصفوة الفاسدة التي كانت بمثابة طفيليات اجتماعية ترعى في ظل الاقتصاد الإقطاعي، ودشنت قوانين الإصلاح الزراعي؛ وقضت على العصابات المتفشية التي تشكلت على مدى فترة طويلة، من خلال الإصلاح الديمقراطي الحضري، وطهرت المجتمع من العادات الخبيثة والرذائل، مثل تعاطي المخدرات، والبغاء، والميسر، واتخاذ المحظيات. وبهذه الطريقة، اتخذ العقد الاجتماعي والقيم والنسق الروحي للشعب منحى مغايراً تماماً لما كان يحدث قبل ما يقرب من سبعين عاما.
وتحدث الكتاب عن السياسة الخارجية الصينية، ونص البرنامج العام الذي يشير صراحة إلى مبادئ السياسة الخارجية السلمية، وحماية الاستقلال الوطني والحرية ووحدة الإقليم، والدعوة للسلام الدائم والصداقة والتعاون الدوليين، ومجابهة سياسات العدوان والحرب الاستعمارية. وإلغاء امتيازات الدول الاستعمارية هناك. والاستعداد لإقامة علاقات دبلوماسية والتعاون مع أي دولة أخرى تلتزم بمبادئ المساواة والمنفعة المشتركة والاحترام المتبادل للسيادة الإقليمية.
وخصص الكتاب جزءا منه للحديث عن، تطوير التعليم بسرعة، وتحسن مستوى التعليم الأساسي بشكل ملحوظ. فقد اتصفت الصين القديمة بالتخلف التعليمي وانتشار الأمية. وبعد تأسيس الجمهورية، ازدهرت قضية التعليم... وقد راكم التطور السريع للتعليم الأساسي خلال هذه الفترة ثروة من رأس المال البشري من أجل التنمية الاقتصادية السريعة، بعد أن بدأ الإصلاح والانفتاح في عام 1978.



«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»
TT

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون. يحمل الكتابان العنوانين «حكايات من العراق القديم»، و«ملوك الوركاء الثلاثة»، وترجمهما الإعلامي والكاتب ماجد الخطيب، المُقيم في ألمانيا. وسبق أن نُشر الكتابان في لندن سنة 2006، وجذبا انتباه القراء بصياغتهما المعاصرة التي «تُقدم النصوص الرافدينية القديمة بشكل جذاب إلى جمهور واسع خارج دائرة المؤرخين والباحثين المتخصصين»، حسب رأي الشاعر الراحل سعدي يوسف في حوار معه بمجلة «بانيبال».

صدر الكتابان في طبعة أنيقة، بالورق المصقول، وغلافين ملونين، حافظا على تصاميم ورسومات وصور الكتابين الأصليين؛ تحقيقاً لرغبة الكاتبة فران هزلتون.

تُقدم لنا الباحثة في الكتابين حكايات وأساطير من العراق القديم؛ يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 4000 سنة. هي قصص نقلها الخبراء الإنجليز عن الألواح الطينية المكتوبة بالحروف المسمارية مباشرة من الأرشيف البريطاني الخاص ببلاد ما بين النهرين.

تكفي نظرة إلى عدد الأساتذة الذين أسهموا في ترجمة هذه النصوص من المسمارية إلى الإنجليزية، عن الألواح الطينية القديمة، لمعرفة الجهدين، الأدبي والفني، الكبيرين اللذين بذلتهما فران هزلتون في كتابة هذه النصوص، وتنقيحها وردم الثغرات في بعضها.

واعترافاً بهذا الجهد، قدَّمت المؤلفة شكرها في مقدمة الكتاب إلى قائمة من الأساتذة هم: البروفسور ثوركيلد جاكوبسون، والدكتور جيرمي بلاك، والدكتور غراهام كننغهام، والدكتورة إليانور روبسون، والدكتور غابور زويومي، والدكتور هرمان فانستفاوت، والبروفسور أندرو جورج، والدكتورة ستيفاني دالي والبروفسور بنجامين ر.فوستر.

يحتوي الكتاب الأول «حكايات من العراق القديم» على 13 حكاية وأسطورة سومرية وأكدية، تكشف للقارئ كثيراً من جوانب الحياة في بلاد الرافدين في تلك الأزمنة الغابرة، وتوضح لنا كيف كان الناس يعيشون، وعلاقتهم بالآلهة، وجوانب تفصيلية من الحياة الروحية والثقافية في أور ونيبور وأرتاتا وأريدو وكيش وشوروباك... إلخ.

كتبت الباحثة في تاريخ العراق القديم، ستيفاني دالي، في مقدمة الكتاب قائلة: «تخبرنا هذه الحكايات بالكثير عن المجتمع في ميزوبوتاميا في بواكيره الأولى. يحكم الملك الجالس على عرشه في القصر بصولجان يرمز إلى سلطته، ويبعث رسله للحوار حول صفقات تجارية، تعززهم تهديدات باستخدام القوة. كان الملوك والآلهة ما انفكوا يقيمون على الأرض، لأنهم لم ينسحبوا بعد إلى السماء، وكانت شهيتهم -وغضبهم ومتعتهم بالطعام والشراب، ورغباتهم وغرورهم- مماثلة لمثيلاتها بين الفانين، رغم أن معبوداً فقط قادر على تقرير مصائر المدن، والتصرف بصفته راعياً للملك في هذه المدينة أو تلك».

يتناول الكتاب الثاني قصص ملوك الوركاء الثلاثة إينْمركار ولوغالبندا وجلجامش؛ أي الجد والأب والحفيد. تحكي قصة إينمركار كيف أن هذا الملك أخذ حفنة من الطين النقي في يده وعجنه على شكل لوح، ثم سطر عليه رسالته إلى أينسوغريانا ملك مدينة أرتاتا الواقعة في الجبال القريبة (ربما إيران). هي أول إشارة في الأدب المكتوب إلى «كتابة رسالة»، ويعتقد العلماء، لهذا السبب، أن الكتابة اكتشفت في زمن هذا الملك.

ومن اللافت أيضاً في الكتابين التماثل الغريب بين بعض هذه الحكايات وحكايات «ألف ليلة وليلة»، رغم الفارق الزمني الكبير بين الاثنين. موضوعات السحر والآلهة، والسرد على لسان الطير، والطيران على ظهر نسر ومؤامرات النساء والخدم... إلخ. وتسرد إحدى القصص يوم نزول إنانا (عشتار) إلى الأرض، وقضاء ليلتها مع الملك، ومن ثم تصف الموكب الذي يجتاز شارع الموكب وبوابة عشتار، على هذا النحو:

«يظهر في البداية الفتيان الوسام، الذين يزينون شعورهم المصففة بالأطواق، ثم تأتي العجائز الحكيمات، فترافق الملك أكثرهن حكمة في موكب إنانا، ثم يأتي الطبالون يقرعون الطبول بعصي مقدسة، ويستعرضون في الموكب لإنانا. ثم يأتي الجنود بسيوفهم وحرابهم المشرعة يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذين عباءاتهم بوجهين أحدهما أنثوي والآخر ذكري، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي أولئك الذي يتنافسون في الدوران والالتفاف والمناورة بمباخر من كل الألوان، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم يأتي الأسرى مقيدين بأطواق العنق الخشب ينشدون نشيدهم، يستعرضون في الموكب لإنانا، ثم تأتي بنات المعابد بشعورهن المتوجة، يستعرضن في الموكب لإنانا، ثم يأتي الكهنة يرشون الدم يميناً ويساراً من خناجر مغموسة بالدم، يستعرضون في الموكب لإنانا».

بأسلوب سلس؛ يجمع بين الفكاهة والمفارقة، يُقدم الكتابان حكايات وأساطير من تاريخ العراق القديم، شكّلت جذباً لجمهور واسع من القراء خارج دائرة المؤرخين والمختصين.

يشار إلى أنه بالتعاون مع جمعية «ZIPAG» سردت فيونا كولينز وتارا جاف وبديعة عبيد هذه القصص في كثير من الأمسيات التي أقامتها جمعية «إنهدوانا» في بريطانيا. وترى الناقدة ستيفاني ديلي، من معهد الاستشراق البريطاني، أن هذه الحكايات السومرية تمتعت بالقدرة على إسعاد قراء العصر الحديث بفكاهاتها ومفارقاتها ورؤيتها البراغماتية لأفعال الخالدين والفانين، التي يشتبك فيها الخير والشر. وتتساءل: كانت استجابة الجمهور الحديث مدهشة، رغم فارق العصور والثقافات الهائل، كيف يمكننا تفسير هذا التعاطف الذي يتجاوز كل الحدود؟ تكمن بعض الأجوبة في الثيمة الأساسية، التي تتعلق بالحياة والموت المُعبر عنها في الاستعارة الأسطورية؛ حيث تجسد الآلهة قوى الطبيعة، مثل الخصوبة والعقم والدهاء والغباء.

كتبت فران هزلتون في مقدمة الكتاب أن النسخة الأولى من «حكايات من العراق القديم صدرت سنة 2006، وكانت إشادة بأسلافنا الثقافيين المشتركين: قصصيي العراق القديم. ستسهم هذه الطبعة، كما أتمنى، في الإشادة ليس بحكواتيي العراق القديم فحسب، وإنما أن تصبح أيضاً أداة بيد الذين ارتضوا تحدي أن يصبحوا ساردي حكايات رافدينية حديثين».