أمم تستعير ثياب غيرها لتستر عوراتها

أمم تستعير ثياب غيرها لتستر عوراتها
TT

أمم تستعير ثياب غيرها لتستر عوراتها

أمم تستعير ثياب غيرها لتستر عوراتها

يسخر فيودور دوستويفسكي في معظم رواياته من أولئك الذين يرطنون، أو يطعمون كلامهم باللغة الفرنسية، من الطبقة الأرستقراطية الروسية وأشباه المتعلمين في آنٍ واحد. الصنف الأول يفعل ذلك ليوحي من خلال استخدام لغة أجنبية على علو منزلته الطبقية والاجتماعية والثقافية. والصنف الثاني يمارس الوسيلة نفسها ليقول للأول أنا لست أقل شأناً منك، رغم انحداري الطبقي والاجتماعي. وبالطبع، الفرنسية التي يستخدمها هؤلاء ليست لغة موليير وفلوبير وهيغو، بل لغة المقاهي والشوارع الباريسية، بلكنة روسية. ولكن يكفي بالنسبة لهم أن تؤدي بعض الغرض، وتمارس دورها في منح صاحبها إحساساً زائفاً بالأهمية، وإثارة الإعجاب والانبهار عند الآخر.
هذان الصنفان هما في الحقيقة صنف واحد، ولا فرق جوهرياً بينهما، فكلاهما يعاني في أعماقه من دونية وشعور بالنقص كبيرين. يختلف الديكور الطبقي والاجتماعي فقط، أو ما هو ظاهر منه. والشخصيات التي تنتمي لهذين الصنفين هي، كما صورها دوستويفسكي، وكما في كل أدب باق، شخصيات نموذجية، بالمعنى الذي كان يقصده المفكر المجري جورج لوكاتش، أي أنها تعكس ظواهر قد لا تكون قد تجسدت بعد واقعاً، ولا يراها الناس، فقط عيون المبدعين الثاقبة تبصرها وهي تمور تحت السطح بانتظار اللحظة التاريخية والاجتماعية لتتحول إلى ظواهر سائدة. وبهذا المعنى تجسد هذه الشخصيات أمة بكاملها في فترة تحول، سواء أكان هذا التحول إيجابياً أم سلبياً.
انتشرت ظاهرة الرطانة بلغة أخرى على حساب اللغة الروسية في تلك الفترة المضطربة من تاريخ البلد بعد منتصف القرن التاسع عشر، حين كانت روسيا تمثل أضعف حلقات التطور بالنسبة للبلدان الأوروبية الأخرى الناهضة آنذاك. أمة لم تعرف طريقها بعد لا اقتصادياً ولا اجتماعياً. أمة فقدت الثقة بنفسها.
وحين تفقد أمة ما الثقة بنفسها، ويأكلها الشعور بالعجز والدونية سياسياً وفكرياً، لا يبقى أمامها سوى التبعية، طواعية أو اجتياحاً. وفي الحالتين، لا تملك سوى أن ترفع الرايات البيضاء. وينعكس ذلك، أول ما ينعكس على اللغة.
فحين تنزاح اللغة القومية لمصلحة لغة أخرى، لهذه الدرجة أو تلك، حتى لو كان الأمر متعلقاً فقط باستخدام جملة مفردات لغوية، فهذا يعني أن هناك انزياحاً فكرياً خطيراً، فاللغة ليست سوى التعبير الفعلي للفكر، كما يعرفها الفلاسفة والمفكرون. اللغة هي نحن. وحين نرطن بمفردات وتراكيب تنتمي للغة أخرى، فإننا نؤكد، ونحن غافلون، أن هناك خللاً كبيراً في منظومة تفكيرنا، وانفصاماً بين وجداننا، وبين ألسنتنا التي ترطن بمفردات لا تعرف ظلالها ودلالاتها، ولا تاريخها ومحمولاتها.
الأمم الواثقة من نفسها لا ترطن بمفردات لغة أخرى، بل تستعير مفردات ومصطلحات علمية وأدبية فرضها العلم والتطور والعصر، قد لا تكون هناك مرادفات دقيقة لها في اللغة القومية، فتصبح جزءاً من قواميسها، وهي بذلك تغني لغاتها. ولكن أن نستخدم مفردات وجملاً أجنبية بدل مفرداتنا اليومية في إعلامنا المنطوق، وفي تعاملنا اليومي، فهذا يدل على خلل خطير في منظومتنا الفكرية والاجتماعية والنفسية. إنها ظاهرة ليست محصورة ضمن نطاق ضيق، أو داخل فئة محددة، كما قد نتوهم، أو على أشخاص يعانون من عقد الدونية والشعور بالنقص أمام «الخواجة». الأمر أخطر من ذلك، خاصة حين ينعكس عبر إعلام مرئي جمهوره بالآلاف من الأطفال واليافعين، كما نرى في قنوات وفضائيات بلدين مهمين إعلامياً وثقافياً كلبنان ومصر مثلاً. وقد تنتشر مثل الظاهرة وتمتد اجتماعياً أكثر فأكثر، ما دمنا غير محصنين فكرياً وثقافياً. وهي للأسف ظاهرة محصورة بنا فقط دون أمم الأرض، إذا استثنينا تلك التي أصبحت فيها اللغات الأجنبية لغات وطنية، أو دخلت مفرداتها بشكل كبير في نسيجها اللغوي نتيجة سنوات الاستعمار الطويلة، الاستعمار الفرنسي الثقافي خاصة، كما في بعض البلدان الأفريقية والآسيوية.
إن استعارة لغة أخرى ليس سوى انعكاس لغوي لأمة تستعير ثياب غيرها لتستر عورتها.



تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
TT

تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)

قررت بيكا زيغلر البالغة 24 عاماً، تجميد جثتها في برّاد بعد وفاتها عن طريق مختبر في برلين، على أمل محدود بإعادة إحيائها مستقبلاً.

وقّعت هذه المرأة الأميركية التي تعيش وتعمل في العاصمة الألمانية، عقداً مع شركة «توموروو بايوستيتس» الناشئة المتخصصة في حفظ الموتى في درجات حرارة منخفضة جداً لإعادة إحيائهم في حال توصّل التقدم العلمي إلى ذلك يوماً ما.

وعندما تتوفى زيغلر، سيضع فريق من الأطباء جثتها في حوض من النيتروجين السائل عند حرارة 196 درجة مئوية تحت الصفر، ثم ينقلون الكبسولة إلى مركز في سويسرا.

وتقول زيغلر، وهي مديرة لقسم المنتجات في إحدى شركات التكنولوجيا في كاليفورنيا، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «بشكل عام، أحب الحياة ولدي فضول لمعرفة كيف سيبدو عالمنا في المستقبل».

ولم يعد علم حفظ الجسم بالتبريد الذي ظهر في ستينات القرن العشرين، مقتصراً على أصحاب الملايين أو الخيال العلمي كما ظهر في فيلم «ذي إمباير سترايكس باك» الذي تم فيه تجميد هان سولو، وفيلم «هايبرنيتس» حين يعود رجل تحرر من الجليد القطبي، إلى الحياة.

توفّر شركات في الولايات المتحدة هذه الخدمة أصلاً، ويُقدّر عدد الأشخاص الذي وُضعت جثثهم في التبريد الأبدي بـ500 فرد.

50 يورو شهرياً

تأسست «توموروو بايوستيتس» عام 2020 في برلين، وهي الشركة الأولى من نوعها في أوروبا.

وفي حديث إلى «وكالة الصحافة الفرنسية»، يقول إميل كيندزورا، أحد مؤسسي الشركة، إن أحد أهدافها «هو خفض التكاليف حتى يصبح تبريد الجثة في متناول الجميع».

إميل كيندزورا أحد مؤسسي «توموروو بايوستيتس» يقف داخل إحدى سيارات الإسعاف التابعة للشركة خارج مقرها في برلين (أ.ف.ب)

ولقاء مبلغ شهري قدره 50 يورو (نحو 52.70 دولار) تتقاضاه من زبائنها طيلة حياتهم، تتعهد الشركة الناشئة بتجميد جثثهم بعد وفاتهم.

يضاف إلى الـ50 يورو مبلغ مقطوع قدره 200 ألف يورو (نحو 211 ألف دولار) يُدفع بعد الوفاة - 75 ألف يورو (نحو 79 ألف دولار) لقاء تجميد الدماغ وحده - ويمكن أن يغطيه نظام تأمين على الحياة.

ويقول كيندزورا (38 سنة) المتحدر من مدينة دارمشتات في غرب ألمانيا، إنه درس الطب وتخصص في الأبحاث المتعلقة بالسرطان، قبل أن يتخلى عن هذا الاختصاص بسبب التقدم البطيء في المجال.

وتشير «توموروو بايوستيتس» إلى أنّ نحو 700 زبون متعاقد معها. وتقول إنها نفذت عمليات تبريد لأربعة أشخاص بحلول نهاية عام 2023.

ويلفت كيندزورا إلى أنّ غالبية زبائنه يتراوح عمرهم بين 30 و40 سنة، ويعملون في قطاع التكنولوجيا، والذكور أكثر من الإناث.

عندما يموت أحد الزبائن، تتعهد «توموروو بايوستيتس» بإرسال سيارة إسعاف مجهزة خصيصاً لتبريد المتوفى باستخدام الثلج والماء. يتم بعد ذلك حقن الجسم بمادة «حفظ بالتبريد» ونقله إلى المنشأة المخصصة في سويسرا.

دماغ أرنب

في عام 2016، نجح فريق من العلماء في حفظ دماغ أرنب بحال مثالية بفضل عملية تبريد. وفي مايو (أيار) من هذا العام، استخدم باحثون صينيون من جامعة فودان تقنية جديدة لتجميد أنسجة المخ البشري، تبين أنها تعمل بكامل طاقتها بعد 18 شهراً من التخزين المبرد.

لكنّ هولغر رينش، الباحث في معهد «آي إل كاي» في دريسدن (شرق ألمانيا)، يرى أنّ الآمال في إعادة شخص متجمد إلى الحياة في المستقبل القريب ضئيلة جداً.

ويقول لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «نشكّ في ذلك. أنصح شخصياً بعدم اللجوء إلى مثل هذا الإجراء».

ويتابع: «في الممارسة الطبية، إنّ الحدّ الأقصى لبنية الأنسجة التي يمكن حفظها بالتبريد هو بحجم وسمك ظفر الإبهام، والوضع لم يتغير منذ سبعينات القرن العشرين».

ويقرّ كيندزورا بعدم وجود ضمانات، ويقول: «لا نعرف ما إذا كان ذلك ممكناً أم لا. أعتقد أن هناك فرصة جيدة، لكن هل أنا متأكد؟ قطعاً لا».

بغض النظر عما يمكن أن يحدث في المستقبل، تقول زيغلر إنها متأكدة من أنها لن تندم على قرارها. وتضيف: «قد يبدو الأمر غريباً، لكن من ناحية أخرى، البديل هو أن يضعوك داخل تابوت وتأكلك الديدان».