الانتخابات الأوروبية... صعود اليمين الراديكالي يدقّ ناقوس الخطر

ماتيو سالفيني الطامح إلى زعامة اليمين الراديكالي الأوروبي (أ. ب)
ماتيو سالفيني الطامح إلى زعامة اليمين الراديكالي الأوروبي (أ. ب)
TT

الانتخابات الأوروبية... صعود اليمين الراديكالي يدقّ ناقوس الخطر

ماتيو سالفيني الطامح إلى زعامة اليمين الراديكالي الأوروبي (أ. ب)
ماتيو سالفيني الطامح إلى زعامة اليمين الراديكالي الأوروبي (أ. ب)

لطالما كانت "القارة القديمة" أوروبا القلب النابض للعالم الحديث بالمعنيين الإيجابي والسلبي. فهي منبع أفكار قادت إلى ثورات أطاحت الحكم الأوتوقراطي وأرست أسس الديمقراطية، ومختبر ابتكارات غيّرت وجه العالم ووفرت للإنسان رفاهية وازدهاراً. لكنها كانت أيضاً حتى أمس قريب مسرح حروب طاحنة كبّدت البشرية الكثير من الخسائر، ومصدراً لأفكار هدّامة ذات اليمين وذات اليسار، سبّبت ما سبّبت من انقسامات وشرذمة وقلاقل واضطرابات.
في 23 مايو (أيار) تنطلق انتخابات البرلمان الأوروبي التي تستمر أربعة أيام، ويختار فيها الناخبون من 27 دولة منتمية إلى الاتحاد الأوروبي – وربما 28 اعتماداً على بقاء بريطانيا أو خروجها – 705 نوّاب يمثلون 450 مليون نسمة لمدة خمس سنوات.
وترتدي الانتخابات المقبلة أهمية خاصة في ظل صعود موجة شعبوية يمينية متطرفة، تغذّيها مشاعر عدائية نحو المهاجرين لم تعرف مثلها أوروبا منذ وقت طويل. وهي بالتالي ستشكل مؤشراً بالغ الدلالة لما ستكون عليه الخريطة السياسة للقارة، ولما يمكن أن تفضي إليه الانتخابات على مختلف مستوياتها في كل دولة على حدة، ولو أن نسبة الإقبال على التصويت لا تصل عادة إلى 50 في المائة من الناخبين.
في هذا السياق، تبيّن استطلاعات الرأي صعوداً لافتاً - وإن ليس صاروخياً - لليمين المتطرّف، فالتجمع الوطني في فرنسا الذي تتزعمه مارين لوبن يؤيده 21 في المائة من الناخبين، فيما رابطة الشمال في إيطاليا بزعامة أمينها العام وزير الداخلية ماتيو سالفيني تملك 30 في المائة، مما يفترض أن يعطي الحزبين في البرلمان الأوروبي 51 مقعداً تحت اسم مجموعة "اوروبا الأمم والحريات" المرشّحة للتوسّع لتضم أحزاباً أخرى. ويتوقع أن تحصل مجموعة "أوروبا الحرية والديموقراطية" على 50 مقعداً، وهي تضم أحزاباً مثل حزب الاستقلال البريطاني وحركة خمس نجوم الإيطالية.
وقد حاول سالفيني أخيراً الإمساك بزمام المبادرة عندما أعلن من ميلانو، حيث ولد، تشكيل تحالف أوروبي جديد من الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة قبل انتخابات البرلمان الأوروبي، يضمّ حتى الآن حلفاء من فنلندا والدنمارك وألمانيا. ولئن غابت لوبن عن إعلان هذا التحالف، فإنها سارعت إلى الإعراب عن تأييدها له، قبل أن تعلن الانضمام إليه في 19 أبريل (نيسان).
وفي 25 أبريل قالت السيدة الفرنسية الشقراء من العاصمة التشيكية براغ: "ما نراه هنا أمام أعيننا هو بروز انسجام أوروبي جديد يجعل الأحزاب القومية تتجمع لتقدم الى 450 مليون أوروبي إطارا جديدا للتعاون، ومشروعاً جديداً وزخماً جديداً". وكرّرت التحذير من موجات الهجرة واتّهمت الاتحاد الأوروبي بـ "تمويل هجرة جماعية منظّمة ومطلوبة".
ولا بد من الإشارة "بين قوسين" هنا إلى أن صعود القومية والشعبوية لا يقتصر على أوروبا، بل يمتدّ إلى أنحاء عدة من الكرة الأرضية، ليس أقلها دلالةً البرازيل حيث فاز الزعيم القومي اليميني جايير بولسونارو بالرئاسة. ويفسّر الخبراء والمحلّلون الظاهرة بأن مجتمعات ومجموعات كثيرة تشعر بأن دورها وحضورها ورفاهيتها تراجعت بسبب العولمة وطغيان التكنولوجيا وتراجع الصناعة بمفهومها القديم وتقدّم أدوار المؤسسات الأممية العابرة للقوميات والأوطان... لذا يحصل الابتعاد عن القوى السياسية النخبوية التقليدية، مقابل الاتجاه إلى سياسيين شعبويين أصحاب براعة خطابية ووعود برّاقة باستعادة "العظَمة".

*جذور ومحطات
بالعودة إلى أوروبا، يجدر القول إن التيارات اليمينية المتطرفة ليست حديثة الولادة، بل عرفتها القارة منذ وقت طويل. لكنّ مصطلحَي "اليمين المتطرف" و"اليمين الشعبوي" استُخدما للدلالة على مجموعة الأحزاب الأوروبية اليمينية المتطرفة التي حشدت مزيداً من الدعم منذ أواخر سبعينات القرن الماضي. وهي كلها تملك أفكاراً عريضة مشتركة تتلخّص اليوم في معارضة العولمة، ورفض استقبال المهاجرين، والخوف من التعددية الثقافية، ومعارضة الاتحاد الأوروبي. ويمكن التحدّث هنا عن شعبوية يمينية وقومية عنصرية بيضاء وفاشية جديدة.
ولعل المنتمين إلى هذه التيارات يتشاطرون النظر بإعجاب إلى الفوهرر النازي أدولف هتلر والدوتشي الفاشي بنيتو موسوليني والكاوديّو الإسباني الجنرال فرانكو، وزعيمَي الفاشية في بريطانيا الأرستقراطي أوزوالد موزلي وساعده الأيمن نيل فرانسيس هاوكنز، والسياسي الفرنسي بيار بوداج وسواهم...
ومعلوم أن الموجة اليمينية المتطرفة تراجعت إلى حافة الاضمحلال بعد الحرب العالمية الثانية، حين راحت أوروبا تبحث عن سياسة تلملم الحطام وتدمل الجروح وترمّم ما يمكن ترميمه. ومن هنا نشأت فكرة التقارب والتعاون ولاحقاً التوحيد، وفي هذه التربة زُرعت بذور الاتحاد الأوروبي، تلك البوتقة الكبيرة التي يفترض بها أن تنشئ قارة موحّدة، مزدهرة، مستقرّة.
لكننا اليوم، وعلى عتبة انقضاء العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، صرنا نرى أوروبا تعصف بها الاضطرابات التي بدأت جدياً مع حروب البلقان أواسط تسعينات القرن العشرين، وتضرب استقرارها أزمات اقتصادية متلاحقة، وتهددها حروب صغيرة وكبيرة تشتعل إلى شرقها وجنوبها، من غير أن ننسى موجات الهجرة عبر أمواج البحار التي ينخرط فيها بائسون هاربون من النار والجوع نحو حياة أفضل. وجاءت أحدث الضربات من الجناح الغربي للقارة عندما قرر البريطانيون فسخ الزواج مع الاتحاد الأوروبي بالطلاق الذي لا يُعرف بعد هل سيكون ودياً أم فظّاً...

*توقعات وحسابات
لا يختلف اثنان على أن أوروبا المضطربة هي أرض خصبة للأفكار المتطرفة. وقد وجد اليمين الراديكالي الفرصة سانحة ليوجّه خطابه إلى الناس القلقين، ويقول لهم إن لديه كل الحلول لمشاكلهم فيما الأحزاب التقليدية ضعيفة ومتخاذلة.
هكذا رأينا فيكتور أوربان زعيم حزب "فيدس" اليميني الشعبوي على رأس الحكومة في المجر منذ العام 2010، ومارين لوبن زعيمة التجمع الوطني – الجبهة الوطنية سابقاً – تخوض الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017 بوجه إيمانويل ماكرون وتنال 33.9 في المائة من أصوات الناخبين. وفي النمسا، دخل حزب الحرية الشعبوي الائتلاف الحكومي اليميني مع حزب الشعب بزعامة المستشار سيباستيان كورتس، ونال ست حقائب من بينها الدفاع والداخلية والخارجية.
ولعل إيطاليا هي كبرى الساحات الأوروبية التي "يحلّق" فيها الشعبويون، فعلى يمين رئيس الوزراء المستقلّ جوزيبي كونتي نائبه لويجي دي مايو زعيم حركة الخمس نجوم المناهضة لمؤسسات الدولة، وعلى يمين يمينه نائبه الآخر والرجل القوي في البلاد ماتيو سالفيني زعيم رابطة الشمال الذي يطمح إلى قيادة اليمين الأوروبي الراديكالي. ويكفي القول إن حركة الخمس نجوم تحتل 220 مقعدا من أصل 630 في مجلس النواب، فيما تحتل الرابطة 123 مقعداً.
وفي ألمانيا التي عانت ما عانته من النازية، تقدّم حزب البديل من أجل ألمانيا المناهض للهجرة بزعامة يورغ مويتن وألكسندر غاولاند من قوة هامشية إلى موقع بارز في المسرح السياسي، وحصل في انتخابات سبتمبر (أيلول) 2017 على 92 مقعداً في البرلمان من أصل 598، فصار قوة رئيسية في المعارضة.
وحقق حزب "منتدى من أجل الديمقراطية" الشعبوي بقيادة تييري بوديه مفاجأة كبيرة في هولندا باحتلاله المركز الثاني في مجلس الشيوخ بعد انتخابات مارس (آذار)، مستفيداً خصوصاً من خطابه ضد الهجرة بعد مقتل ثلاثة أشخاص في مدينة أوتريخت برصاص مهاجر تركي.
وفي اسبانيا، تمكن الحزب الشعبوي "فوكس" (ويُلفظ بوكس)، الذي أسسه عام 2013 منشقّون عن حزب الشعب اليميني الليبرالي، من دخول مجلس النواب بعدما حصل على عشرة في المائة من الأصوات و24 مقعدا من أصل 350، علماً أنه كان شبه غائب عن الساحة السياسية حتى ستة أشهر خلت وفجأة أصبح خامس قوة في البلاد.
المهم قبل الاستحقاق الانتخابي الأوروبي، أن الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تنتظم راهناً ضمن ثلاث مجموعات منفصلة، قد تصبح قوة وازنة إذا استجابت لدعوات ماتيو سالفيني إلى الاتحاد وتشكيل مجموعة متراصّة. غير أن الزعيم الإيطالي لم ينجح حتى الآن إلا في جذب حزب الحرية النمساوي وحزب البديل ن أجل ألمانيا وحزب الشعب الدنماركي وحزب الفنلنديين وحزب الشعب المحافظ في استونيا، بالإضافة إلى التجمع الوطني الفرنسي.
ويبدو مستبعداً أن يوافق رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان على تسليم زمام القيادة للإيطالي، وكذلك الإيطالي الآخر لويجي دي مايو "الحليف اللدود" لسالفيني في روما. وينظر المراقبون باهتمام كبير إلى لقاء جامع دعا إليه سالفيني يوم 18 مايو في ميلانو، باعتباره مقياساً لمدى قدرته على حشد القوى اليمينية الراديكالية الأوروبية خلفه.
ولا بدّ من الإشارة إلى الدور الذي يضطلع به ستيف بانون، المهندس السابق للاستراتيجيات السياسية في فريق الرئيس الأميركي دونالد ترمب. فالرجل انتقل إلى أوروبا وأنشأ منظمة باسم "الحركة" مقرّها بروكسل، تعمل على توفير الدعم للأحزاب الشعبوية التي تؤيد سياسة مناهضة الهجرة، وسيادة وطنية أكبر في وجه الاتحاد الأوروبي ومؤسساته. وقد اعتبر نفسه عرّاب اليمين الراديكالي في العالم، مروّجاً لسياسات قومية مناهضة للعولمة بكل أشكالها.
إلا أن دور بانون قد يضرّ بالأحزاب اليمينية الشعبوية الأوروبية، فكيف سيقبل جمهور يرفض في قرارة النفس أن يسلّم بقيادة الاتحاد الأوروبي من بروكسل لشؤونه، ويقبل بأن يكون "زعيم" هذه الحركة أميركياً آتياً من الضفة البعيدة للمحيط الأطلسي...
مائة نائب أو أكثر بقليل أو أقل بقليل من أصل 705 نواب... ماذا سيعني هذا الرقم؟
لا يمكن القول إن اليمين الراديكالي أصبح أكبر قوة في أوروبا، ولا يمكن في الوقت نفسه تجاهل حضوره وتوسُّع انتشاره. وفي المقابل يمكن الجزم بأن اليمين التقليدي واليسار التقليدي ترهّلا، وبأن على أحزاب الجانبين البحث عن خطاب جديد ودور جديد. وختاماً يمكن بكل تأكيد اعتبار المسار السياسي والاقتصادي لأوروبا وصعود الراديكالية والشعبوية ناقوس خطر يعلو صوت دقّاته في قارة ظنّها كثيرون خطأً في أمان لا يهتزّ.



لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
TT

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)

يمثل الصعود العسكري للصين، وبخاصة برنامج تحديث ترسانتها النووية، هاجساً قوياً لدى دوائر صناعة القرار والتحليل السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل التقارب المزداد بين بكين، وموسكو التي تلوح بمواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب على خلفية الحرب التي تخوضها حالياً في أوكرانيا.

وفي تحليل نشرته مجلة «ناشونال إنتريست» الأميركية، يتناول ستيفن سيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة براندواين العامة بولاية بنسلفانيا الأميركية، ولورانس كورب ضابط البحرية السابق والباحث في شؤون الأمن القومي في كثير من مراكز الأبحاث والجامعات الأميركية، مخاطر التحالف المحتمل للصين وروسيا على الولايات المتحدة وحلفائها.

ويرى الخبراء أن تنفيذ الصين لبرنامجها الطموح لتحديث الأسلحة النووية من شأنه أن يؤدي إلى ظهور عالم يضم 3 قوى نووية عظمى بحلول منتصف ثلاثينات القرن الحالي؛ وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين. في الوقت نفسه، تعزز القوة النووية الصينية المحتملة حجج المعسكر الداعي إلى تحديث الترسانة النووية الأميركية بأكملها.

وأشار أحدث تقرير للجنة الكونغرس المعنية بتقييم الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة والصادر في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إلى ضرورة تغيير استراتيجية الردع الأميركية للتعامل مع بيئة التهديدات النووية خلال الفترة من 2027 إلى 2035. وبحسب اللجنة، فإن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والقيم التي يستند إليها يواجه خطر نظام الحكم المستبد في الصين وروسيا. كما أن خطر نشوب صراع عسكري بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا يزداد، وينطوي على احتمال نشوب حرب نووية.

ولمواجهة هذه التحديات الأمنية، أوصت اللجنة الأميركية ببرنامج طموح لتحديث الترسانة النووية والتقليدية الأميركية، مع قدرات فضائية أكثر مرونة للقيام بعمليات عسكرية دفاعية وهجومية، وتوسيع قاعدة الصناعات العسكرية الأميركية وتحسين البنية التحتية النووية. علاوة على ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تأمين تفوقها التكنولوجي، وبخاصة في التقنيات العسكرية والأمنية الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتحليل البيانات الكبيرة، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.

ولم يقترح تقرير اللجنة أرقاماً دقيقة للأسلحة التي تحتاجها الولايات المتحدة ولا أنواعها، لمواجهة صعود الصين قوة نووية منافسة وتحديث الترسانة النووية الروسية. ورغم ذلك، فإن التكلفة المرتبطة بتحديث القوة النووية الأميركية وبنيتها التحتية، بما في ذلك القيادة النووية وأنظمة الاتصالات والسيطرة والدعم السيبراني والفضائي وأنظمة إطلاق الأسلحة النووية وتحسين الدفاع الجوي والصاروخي للولايات المتحدة، يمكن أن تسبب مشكلات كبيرة في الميزانية العامة للولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، فالأمر الأكثر أهمية هو قضية الاستراتيجية الأميركية والفهم الأميركي للاستراتيجية العسكرية الصينية والروسية والعكس أيضاً، بما في ذلك الردع النووي أو احتمالات استخدامه الذي يظهر في الخلفية بصورة مثيرة للقلق.

في الوقت نفسه، يرى كل من سيمبالا صاحب كثير من الكتب والمقالات حول قضايا الأمن الدولي، وكورب الذي عمل مساعداً لوزير الدفاع في عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، أنه من المهم تحديد مدى تنسيق التخطيط العسكري الاستراتيجي الروسي والصيني فيما يتعلق بالردع النووي والبدء باستخدام الأسلحة النووية أو القيام بالضربة الأولى. وقد أظهر الرئيسان الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين، تقارباً واضحاً خلال السنوات الأخيرة، في حين تجري الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة بصورة منتظمة. ومع ذلك فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك شفافية كاملة بين موسكو وبكين بشأن قواتهما النووية أو خططهما الحربية. فالقيادة الروسية والصينية تتفقان على رفض ما تعدّانه هيمنة أميركية، لكن تأثير هذا الرفض المشترك على مستقبل التخطيط العسكري لهما ما زال غامضاً.

ويمكن أن يوفر الحد من التسلح منتدى لزيادة التشاور بين الصين وروسيا، بالإضافة إلى توقعاتهما بشأن الولايات المتحدة. على سبيل المثال، حتى لو زادت الصين ترسانتها النووية الاستراتيجية إلى 1500 رأس حربي موجودة على 700 أو أقل من منصات الإطلاق العابرة للقارات، سيظل الجيش الصيني ضمن حدود معاهدة «ستارت» الدولية للتسلح النووي التي تلتزم بها الولايات المتحدة وروسيا حالياً. في الوقت نفسه، يتشكك البعض في مدى استعداد الصين للمشاركة في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، حيث كانت هذه المحادثات تجري في الماضي بين الولايات المتحدة وروسيا فقط. ولكي تنضم الصين إلى هذه المحادثات عليها القبول بدرجة معينة من الشفافية التي لم تسمح بها من قبل بشأن ترسانتها النووية.

وحاول الخبيران الاستراتيجيان سيمبالا وكورب في تحليلهما وضع معايير تشكيل نظام عالمي ذي 3 قوى عظمى نووية، من خلال وضع تصور مستقبلي لنشر القوات النووية الاستراتيجية الأميركية والروسية والصينية، مع نشر كل منها أسلحتها النووية عبر مجموعة متنوعة من منصات الإطلاق البرية والبحرية والجوية. ويظهر التباين الحتمي بين الدول الثلاث بسبب الاختلاف الشديد بين الإعدادات الجيوستراتيجية والأجندات السياسة للقوى الثلاث. كما أن خطط تحديث القوة النووية للدول الثلاث ما زالت رهن الإعداد. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا ستواصلان خططهما لتحديث صواريخهما الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة بأجيال أحدث من منصات الإطلاق في كل فئة، في حين يظل الغموض يحيط بخطط الصين للتحديث.

ورغم أن الولايات المتحدة تمتلك ترسانة نووية تتفوق بشدة على ترسانتي روسيا والصين، فإن هذا التفوق يتآكل بشدة عند جمع الترسانتين الروسية والصينية معاً. فالولايات المتحدة تمتلك حالياً 3708 رؤوس نووية استراتيجية، في حين تمتلك روسيا 2822 رأساً، والصين 440 رأساً. علاوة على ذلك، فالدول الثلاث تقوم بتحديث ترساناتها النووية، في حين يمكن أن يصل حجم ترسانة الأسلحة النووية الاستراتيجية الصينية إلى 1000 سلاح بحلول 2030.

ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: إلى أي مدى ستفقد الولايات المتحدة تفوقها إذا واجهت هجوماً مشتركاً محتملاً من جانب روسيا والصين مقارنة بتفوقها في حال التعامل مع كل دولة منهما على حدة؟ ولا توجد إجابة فورية واضحة عن هذا السؤال، ولكنه يثير قضايا سياسية واستراتيجية مهمة.

على سبيل المثال، ما الذي يدفع الصين للانضمام إلى الضربة النووية الروسية الأولى ضد الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؟ ولا بد أن نتخيل سيناريو متطرفاً، حيث تتحول الأزمات المتزامنة في أوروبا وآسيا إلى أزمات حادة، فتتحول الحرب الروسية - الأوكرانية إلى مواجهة بين روسيا وحلف «الناتو»، في الوقت الذي تتحرك فيه الصين للاستيلاء على تايوان، مع تصدي الولايات المتحدة لمثل هذه المحاولة.

وحتى في هذه الحالة المتطرفة، لا شك أن الصين تفضل تسوية الأمور مع تايوان بشروطها الخاصة وباستخدام القوات التقليدية. كما أنها لن تستفيد من الاشتراك في حرب بوتين النووية مع «الناتو». بل على العكس من ذلك، أشارت الصين حتى الآن بوضوح تام إلى روسيا بأن القيادة الصينية تعارض أي استخدام نووي أولاً في أوكرانيا أو ضد حلف شمال الأطلسي. والواقع أن العلاقات الاقتصادية الصينية مع الولايات المتحدة وأوروبا واسعة النطاق.

وليس لدى الصين أي خطة لتحويل الاقتصادات الغربية إلى أنقاض. فضلاً عن ذلك، فإن الرد النووي للولايات المتحدة و«الناتو» على الضربة الروسية الأولى يمكن أن يشكل مخاطر فورية على سلامة وأمن الصين.

وإذا كان مخططو الاستراتيجية الأميركية يستبعدون اشتراك روسيا والصين في توجيه ضربة نووية أولى إلى الولايات المتحدة، فإن حجم القوة المشتركة للدولتين قد يوفر قدراً من القوة التفاوضية في مواجهة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة.

وربما تدعم الصين وروسيا صورة كل منهما للأخرى بوصفها دولة نووية آمنة في مواجهة الضغوط الأميركية أو حلفائها لصالح تايوان أو أوكرانيا. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن توفر «الفجوة» بين أعداد الأسلحة النووية غير الاستراتيجية أو التكتيكية التي تحتفظ بها روسيا والصين والموجودة في المسرح المباشر للعمليات العسكرية، مقارنة بتلك المتاحة للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، عنصر ردع ضد أي تصعيد تقليدي من جانب الولايات المتحدة ضد أي من الدولتين.

أخيراً، يضيف ظهور الصين قوة نووية عظمى تعقيداً إلى التحدي المتمثل في إدارة الاستقرار الاستراتيجي النووي. ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع تطوير سياسات واستراتيجيات إبداعية لتحقيق استقرار الردع، والحد من الأسلحة النووية، ودعم نظام منع الانتشار، وتجنب الحرب النووية. ولا يمكن فهم الردع النووي للصين بمعزل عن تحديث قوتها التقليدية ورغبتها في التصدي للنظام الدولي القائم على القواعد التي تفضلها الولايات المتحدة وحلفاؤها في آسيا. في الوقت نفسه، فإن التحالف العسكري والأمني بين الصين وروسيا مؤقت، وليس وجودياً. فالتوافق بين الأهداف العالمية لكل من الصين وروسيا ليس كاملاً، لكن هذا التحالف يظل تهديداً خطيراً للهيمنة الأميركية والغربية على النظام العالمي.