حدود تماس جديدة شرق الفرات بعد دحر «داعش» جغرافياً

«الشرق الأوسط» تستطلع وضع الجيب الآخر للتنظيم بعد شهر على «التحرير»

مدخل بلدة الباغوز شرق سوريا (الشرق الأوسط)
مدخل بلدة الباغوز شرق سوريا (الشرق الأوسط)
TT

حدود تماس جديدة شرق الفرات بعد دحر «داعش» جغرافياً

مدخل بلدة الباغوز شرق سوريا (الشرق الأوسط)
مدخل بلدة الباغوز شرق سوريا (الشرق الأوسط)

بعد أكثر من شهر على إعلان تحرير بلدة الباغوز فوقاني شرق سوريا، لا تزال أحياؤها خالية من السكان، وممنوعة عليهم العودة، إذ إن «قوات سوريا الديمقراطية» لم تنتهِ بعد من تمشيطها وإزالة المفخخات والعبوات الناسفة والألغام الأرضية التي زرعها عناصر تنظيم «داعش»، حيث تبدو مظاهر الدمار وحدها شاهدة على حدة المعارك العنيفة التي دارت في أزقة وأحياء هذه البلدة الواقعة أقصى شرق سوريا بمحاذاة الحدود العراقية.
وحصل سالم (45 سنة) على إذن للدخول إلى مسقط رأسه الباغوز بهدف تفقد منزله وممتلكاته، وذهل من مشاهد الحطام والركام التي كانت متناثرة في كل مكان، فالحي الذي كان يسكنه بالكاد تعرف على ملامحه، أما السوق التجارية فقد باتت خالية وطالها الخراب، وأصبحت مدينة أشباح، وعند حديثه بدت علامات الحيرة والاستغراب على وجهه ليقول: «كم نحتاج من الزمن لإصلاح ما دمرته هذه الحرب؟!».
أثناء الحديث كان يقف سالم بالقرب من نهر الفرات الذي يحد الباغوز من جهتها الجنوبية، وقد تحول إلى منطقة تماس وحدود من نار على حد وصفه، وذكر: «انقسمت عائلتنا كحال بقية عائلات المنطقة؛ ناس يسكنون في مناطق النظام بالجهة المقابلة للباغوز، أما نحن فقصدنا مدينة الحسكة وسنعود ريثما يسمح لنا».
وتمكنت «قوات سوريا الديمقراطية» العربية - الكردية بدعم من التحالف الدولي، بقيادة أميركية، في 23 مارس (آذار) الماضي، من تجريد التنظيم من مناطق سيطرته داخل الباغوز، والقضاء التام على سيطرته الجغرافية ودولته المزعومة التي أعلنها بداية 2014 على مناطق شاسعة في سوريا والعراق المجاور، وأفرزت معارك شرق الفرات واقعاً مختلفاً ورسمت حدوداً ومناطق تماس جديدة.
ورغم الإجراءات الأمنية المشددة، وتعزيز انتشار عناصر الأمن والدوريات في مداخل ومخارج المناطق المحررة، اعتبرت فاطمة (35 سنة) المتحدرة من الباغوز، وتسكن في بلدة هجين بريف دير الزور الشمالي، أن الأمان شبه منعدم، وتقول: «الشرطة على نقاط الحواجز غير مؤهلين؛ فهناك ثغرات كبيرة يتسلّل منها الدواعش بسهولة لتنفيذ الهجمات وتخويف السكان، يجب تشديد المنطقة أكثر بالحراسة والعناصر المنضبطة».
وبات حوض نهر الفرات وسهله المُمتد من ريف حلب الشرقي عند مدينة منبج، حتى مدينة البوكمال التابعة لمحافظة دير الزور والواقعة أقصى شرق سوريا بطول 610 كيلومترات، خطّ تماس وحدوداً من النار تفصل المناطق الخاضعة للقوات النظامية السورية من جهة الغرب والجنوب، مع تلك الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» من الجهتين الشمالية والشرقية.
وبينما كان يجلس عبد الكريم (44 سنة) على مقعد جراره الزراعي، الذي حوله إلى وسيلة لنقل مياه الشرب، أشار بيده إلى نهر الفرات الذي أصبح منطقة تماس تفصل الجهات العسكرية المتحاربة، ويقول: «فإذا ولّيت وجهك جنوباً فستجد أعلام النظام وقواته، وإن ولّيته شمالاً فستلحظ تنقلات مقاتلي (قسد)، بصحبة الجنود الأميركيين وآلياتهم العسكرية».
ويعيش عبد الكريم مع زوجته وأسرته بقرية البوبودران المطلة على سهل الفرات بشكل شبه طبيعي، حيث اعتادوا الوضع الجديد الذي أفرزته تقسيمات الحرب السورية، إذ يشاهد يومياً تحركات الجنود على ضفتي النهر، ويضيف: «لم تحدث اشتباكات بين الطرفين، حتى اليوم. هناك استقرار في كل منطقة، وننتظر تسوية الأوضاع، لأن مصير المنطقة لا يزال مجهولاً».
ويرى عبد الكريم عمر رئيس «دائرة العلاقات الخارجية بالإدارة الذاتية» لشمال وشرق سوريا، أن القضاء جغرافياً وعسكرياً على خلافة «داعش» لا يعني انتهاء حقبة التنظيم وزوال خطر الإرهاب، وأوضح أنّ التنظيم يحتفظ بخلاياه النائمة في مدن الرقة ومنبج والطبقة وغيرها من المناطق التي انتشر فيها قبل سنوات، وقال: «لا تزال الآيديولوجيا والذهنية وأفكاره المتشدّدة متداولة بين قاطني تلك المناطق، حيث بقيت تحت قبضة التنظيم لسنوات طويلة قبل طردهم، هذه المناطق بحاجة إلى خدمات وإعادة إعمارها وإصلاح بنيتها التحتية»، ويشير إلى أنّ ريف دير الزور الشمالي، الذي قاتل فيه مسلحو التنظيم حتى النهاية، ناله الخراب والدمار، وأضاف: «على دول التحالف تقديم المساعدات لطي صفحة التطرف والسواد، وفي حال تقاعس المجتمع الدولي في دعم عمليات الاستقرار، سيعود الإرهاب، وستظهر تنظيمات متطرفة، ولو بأسماء جديدة، لكنها ستحمل عقيدة (داعش) ذاتها».
ويشكو سكان المناطق المحرَّرة من قبضة التنظيم من أن مدنهم لم تستعِد الأمان، ويرون أن ذلك لم يحدث، إذ لا تزال عناصر «داعش» يزرعون ويفجرون عبوات ناسفة وينفذون هجمات مباغتة، على حد تعبير محمود، المتحدر من بلدة هجين بريف دير الزور الشمالي، وقال: «نصحو كل يوم على دوي عبوة أو تفجير أو هجوم، حتى أصبحنا نخشى من خروج أطفالنا، خوفاً من أن ينفجر فيهم لغم في أي مكان، لا نزال نشعر بالرعب».
وتحتاج مرحلة ما بعد دحر تنظيم «داعش» في سوريا إلى جهود حثيثة ومكثفة، وتعاون دولي في تقديم المعالجات لما خلّفه انتشار التنظيمات المتطرفة والحرب من دمار بالمدن المحررة، بحسب إلهام أحمد الرئيسة التنفيذية لـ«مجلس سوريا الديمقراطية» ويُعد الجناح السياسي لـ«قوات سوريا الديمقراطية». ونقلت أن سكان المناطق المتضررة ما زالوا يعانون الأمرّين من مشكلات البنى التحتية وانعدام الأمان والخدمات، وشددتّ على أنّ القضاء عسكرياً على الإرهاب لا يعني زوال خطره.
وقالت إلهام أحمد: «نعلم أن خطره ما زال موجوداً وبأشكال مختلفة في المناطق السورية، فمرحلة تحرير الجغرافيا انتهت، وهذا لا يعني القضاء على الإرهاب بشكل نهائي، حيث لا تزال خلاياه النائمة موجودة وبقوة»، وأضافت: «مثلما قامت قواتنا بمساعدة أهالي المناطق المحررة في بناء مؤسساتها الإدارية والأمنية، فستقوم أيضاً بتهيئة استقرار المناطق ليتمكن سكانها من إعادة بناء مجالسها الإدارية والتشريعية من خلال انتخابات ديمقراطية شفافة».



«جمعة رجب»... مناسبة حوثية لفرض الإتاوات وابتزاز التجار

مسلحون حوثيون ضمن حشدهم الأسبوعي في صنعاء بأمر من زعيم الجماعة (رويترز)
مسلحون حوثيون ضمن حشدهم الأسبوعي في صنعاء بأمر من زعيم الجماعة (رويترز)
TT

«جمعة رجب»... مناسبة حوثية لفرض الإتاوات وابتزاز التجار

مسلحون حوثيون ضمن حشدهم الأسبوعي في صنعاء بأمر من زعيم الجماعة (رويترز)
مسلحون حوثيون ضمن حشدهم الأسبوعي في صنعاء بأمر من زعيم الجماعة (رويترز)

استهلت الجماعة الحوثية السنة الميلادية الجديدة بإطلاق حملات جباية استهدفت التجار وأصحاب ورؤوس الأموال في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء، بغية إجبارهم على دفع الأموال لتمويل احتفالات الجماعة بما تسميه «جمعة رجب».

وتزعم الجماعة الحوثية أن دخول اليمنيين في الإسلام يصادف أول جمعة من شهر رجب الهجري، ويستغلون المناسبة لربطها بضرورة الولاء لزعيمهم عبد الملك الحوثي تحت ادعاء أن نسبه يمتد إلى علي بن أبي طالب الذي أدخل اليمنيين في الإسلام قبل أكثر من 14 قرناً هجرياً. وفق زعمهم.

وذكرت مصادر مطلعة في صنعاء لـ«الشرق الأوسط»، أن مشرفين حوثيين برفقة عربات ومسلحين يتبعون عدة مكاتب تنفيذية تابعة للجماعة، نفذوا حملات واسعة ضد متاجر ومؤسسات تجارية في عدة مديريات في المدينة، وأجبروا ملاكها على دفع جبايات، بينما أغلقوا عدداً من المتاجر التي رفض ملاكها التبرع.

وأكدت المصادر أن الانقلابيين شرعوا في توسيع أنشطتهم الاستهدافية في تحصيل الإتاوات أكثر مما كان عليه قبل أشهر ماضية، حيث لم تستثنِ الجماعة حتى صغار التجار والباعة المتجولين والسكان الأشد فقراً.

الانقلابيون سيطروا بالقوة على مبنى الغرفة التجارية في صنعاء (إعلام محلي)

وفي ظل تجاهل الجماعة المستمر لفقر السكان في مناطق سيطرتها، أقرت ما تسمى اللجنة العليا للاحتفالات والمناسبات في اجتماع لها بصنعاء، إطلاق برنامج الفعاليات المصاحب لما يُسمى ذكرى «جمعة رجب»، بالتوازي مع بدء شنّ حملات جباية على التجار والسكان الذين يعانون من ظروف معيشية حرجة.

وهاجم بعض السكان في صنعاء كبار قادة الجماعة لجهة انشغالهم بابتكار مزيد من الفعاليات ذات المنحى الطائفي وتخصيص ميزانية ضخمة لأعمال الدعاية والإعلان، ومكافآت ونفقات لإقامة الندوات وتحركات مشرفيها أثناء حشد الجماهير إليها.

وكانت تقارير محلية اتهمت في وقت سابق قيادات حوثية بارزة في الجماعة يتصدرهم حمود عباد وخالد المداني بجباية مليارات الريالات اليمنية من موارد المؤسسات الحكومية الخاضعة لسلطات الجماعة في صنعاء، لافتة إلى أن معظم المبالغ لم يتم توريدها إلى حسابات بنكية.

تعميم صوري

في حين زعمت وسائل إعلام حوثية أن تعميماً أصدره القيادي في الجماعة حمود عباد المعين أميناً للعاصمة المختطفة، يقضي بمنع إغلاق أي محل أو منشأة تجارية إلا بعد اتخاذ ما سماها «الإجراءات القانونية»، نفى تجار وأصحاب مؤسسات تجارية بصنعاء توقّف عناصر الجماعة عن مداهمة متاجرهم وإغلاقها بعد رفضهم دفع جبايات.

تجمع للمارة في صنعاء أثناء محاولة اعتقال مالك أحد المطاعم (الشرق الأوسط)

وفي مسعى لتلميع صورتها عقب حملات التعسف كانت الجماعة أصدرت تعميماً يُلزِم قادتها في عموم المديريات والمكاتب التنفيذية في صنعاء بعدم إغلاق أي منشأة تجارية إلا بعد اتخاذ «الإجراءات اللازمة».

وحض التعميم الانقلابي كل الجهات على «عمل برامج شهرية» لتنفيذ حملات نزول ميداني لاستهداف المتاجر، مرة واحدة كل شهر عوضاً عن تنفيذ حملات نزول يومية أو أسبوعية.

واعترفت الجماعة الحوثية بوجود شكاوى لتجار وملاك منشآت تجارية من قيام مكاتب تنفيذية في صنعاء بتحصيل مبالغ مالية غير قانونية منهم بالقوة، وبإغلاق مصادر عيشهم دون أي مسوغ قانوني.

توسيع الاستهداف

اشتكى تُجار في صنعاء لـ«الشرق الأوسط»، من تصاعد كبير في حملات الاستهداف وفرض الإتاوات ضدهم عقب صدور تلك التعليمات التي يصفونها بـ«غير الإلزامية».

ويتهم عدد من التجار القياديَين حمود عباد وخالد المداني، والأخير هو مشرف الجماعة على المدينة، بتكثيف الأنشطة القمعية بحقهم وصغار الباعة وإرغامهم في كل حملة استهداف على دفع جبايات مالية مقابل السماح لهم بمزاولة أنشطتهم التجارية.

الحوثيون يستهدفون المتاجر والشركات لإجبارها على دفع الأموال (إعلام حوثي)

ويتحدث (أحمد.و)، مالك محل تجاري بصنعاء، عن استهداف متجره بسوق شعبي في حي السنينة بمديرية معين بصنعاء من قِبَل حملة حوثية فرضت عليه دفع مبلغ مالي بالقوة بحجة تمويل مناسبة «جمعة رجب».

وذكر أن عناصر الجماعة توعدته بالإغلاق والاعتقال في حال عدم تفاعله مع مطالبها غير القانونية.

وتحدث أحمد لـ«الشرق الأوسط»، عن إغلاق عدد من المتاجر في الحي الذي يعمل فيه من قِبَل مسلحي الجماعة الذين قال إنهم اعتقلوا بعض ملاك المحلات قبل أن يتم الإفراج عنهم بعد أن رضخوا لدفع الجبايات.