هل الشعر حقيقة مؤلمة، وماذا عن الحياة... أليست كذلك؟!... رافقني هذا التساؤل وأنا أقرأ ديوان «بعين واحدة... وبصيرتين» للشاعر فارس خضر، الصادر حديثاً عن «دار الأدهم» بالقاهرة. ثمة مشاعرُ من الإحباط والحزن والخوف، تسيطر على أجواء الديوان، فيما تعلو نبرة الإحساس بالألم مشكلة دالاً محورياً ومفتاحاً للرؤية في معظم النصوص، التي تشي عناوينها أيضاً بالإحساس نفسه. يعزز ذلك أننا أمام ذات ممرورة، ضجرة من واقعها والعالم، من الماضي والحاضر والغد، أصبحت ترى في الألم تعبيراً عن كينونتها، ولا بديل أمامها لمواجهة ذلك سوى رهانها الخاسر على تعلم القسوة، لكنها قسوة حانية، تعلي من شأن المحبة، في أقسى لحظات الشعور بالأسى والخذلان من العالم والبشر والأشياء.
«لا أجد ما يدل عليّ... سوى ألمي»... بهذه الجملة التي تراوغ ما بين النفي واليقين يستهل الشاعر ديوانه؛ في قصيدة بعنوان «دليلٌ كسيحٌ... لا يعرف من صحرائه سوى الهاوية»... أي هاوية إذن وأي صحراء التي يوحي بها هذا العنوان، هل هي هاوية الذات والكتابة صحراؤها، أم هي هاوية الألم، والذات مجرد دليل كسيح، تحت جناحيه تتعلم كيف ترثي نفسها، ربما بألم أكثر، لا يعدو كونه محصلة لخطواتها في هذا العالم البائس الشائك... في الوقت نفسه يشكل الجوع بكل دواله رمزياً ونفسياً محور إيقاع النص هنا، ويبدو بمثابة الصوت الآخر المتخفي، الذي تخاطبه الذات من وراء قناع الدليل، حتى أننا نجد إشارة في أحد المقاطع تذكرنا بإحدى الحكايات التي تروى عن الخليفة عمر بن الخطاب، في عام الرمادة، عن الأم التي وضعت قدراً به ماء على النار، وتركته يغلي لتوهم أطفالها بالطعام حتى يناموا، وهو المعنى نفسه الذي يشير إليه النص في الختام أيضاً قائلاً:
«بدمي المحروق
ورائحة أطرافي على الجمر
آكل جسدي
وأموت جائعاً»
يتناص الجوع والألم في الديوان بحثاً عن أشياء حميمة وأزمنة مفتقدة، لم يبق منها سوى نثار من الذكريات والأحلام الموجعة. فالألم محض جوع للشفاء، لكن كيف يشكل قناعاً للشعر والشاعر معاً؟
تعي الذات الشاعرة أبعاد هذا السؤال الشائك، فلا تتعامل مع الألم كمجرد انفعال باطني ووجود افتراضي، يلعب على سطحه الشاعر، إنما تستند عليه كشكل من أشكال المعرفة، توسع به خبرتها بالوجود وتكتسب من خلال تداعياته حيواتٍ جديدة، طارحة تحت قناعه أسئلتها الخاصة عن واقعها الشخصي الذاتي، وهواجسها عن الإنسان والكون والحياة، وأيضاً عن مأزق واقعها السياسي والاجتماعي، وهو ما يطالعنا على هذه النحو:
«الأشجار التي كبرت في غيبة الساسة
كانت عصيَّا كهربائية...
العطور النسائية التي تتمشى في الشوارع
محلولة الشعر وعارية الأكتاف
كانت قنابلَ مسيِّلة للدموع.
الورودُ خوذاتُ عساكرَ
وكؤوسُ الشربات دَمٌ
هذه الجنة كانت مجنزراتٍ ودباباتٍ
وجباهاً مقطبة..
لوطن قديم»
هكذا، تتبادل قصائد الديوان الثماني الأدوار على مسرح الألم محاولة إدراك حقيقته، أو رسم صورة له بالسلب أو الإيجاب، ينتشلها الشعر من ضبابية الوجود، صانعاً منها ما يمكن أن أسميه «غبطة الألم» كاشفاً بحقيقته المؤلمة، ما ينطفئ ويفور، ما يذبل ويضعف، ما يقوى وينهض، ويمتد في جسد الذاكرة والحلم، ويوسع بطاقة المخيلة فضاء الذات، لتفرض الأنا وجودها على العناصر والأشياء، وعلى الألم نفسه بتلقائية صارمة أحياناً.
تنجح الكثير من القصائد في اصطياد هذه الصورة تحت قناع الألم، ونسجها بلغة جزلة رصينة، وتراسلات رمزية ودلالية مكثفة، كما تنجح في الإيهام بالانقسام على نفسها، وتنويع دفة الدوال شعرياً في النص؛ من المفرد المتكلم، إلى المخاطب الجمع، بصيغة المستتر أحياناً، والصريح أحياناً أخرى، فيصبح الألم بكل نوازعه ومفارقاته السلبية والإيجابية وكأنه طريقٌ للبحث عن حقيقة الوجود والحياة، وحقيقة الشعر أيضاً.
يطالعنا ذلك على نحو لافت في قصيدتي «مصارع الثيران» و«قبر يتحرك بين محطات المترو»؛ في القصيدة الأولى، يتحول الألم ومراودته في حلبة المصارعة المتخيلة إلى فعل مقاومة، تتسلح به الذات، وتدافع عن كينونتها، في لحظة فارقة واستثنائية، فالأمر لا يتعلق بلعبة من ألاعيب الحياة الخطرة، وإنما يتعلق بهزيمة الخوف الكامن في الداخل، كغريزة إنسانية، يفرغ الإفراطُ فيها الوجودَ من المعنى والقيمة، وتصبح الذات معرضة للقلق والتوتر والتوجس، وكلها من مظاهر الألم.
في لقطات متتالية واخزة بصرياً، ينهي الشاعر قصيدته، لنكتشف أننا إزاء مشهد مركب مجازياً، فثمة ثور في الحلبة، وثمة شبح له يطارد الشاعر في منامه... يقول (ص 82):
«قرنان منغرسان في رئتيّ
منذ ما لا أذكرُ
والثورُ يخضخضني
لأعلى ولأسفلِ
بلا هوادة.
اغمضْ عينيكَ
لتسدّ البابَ
في وجه الشفقة».
إطلالة أخرى على هذه المشهدية الشجية تطالعنا في القصيدة الثانية، التي يذيلها الشاعر بعنوان داخلي جامعاً في قبضته بين حركتي الزمان والمكان قائلاً:
«بالأمس متُ بين محطتين». لا نعرف تحديداً كنه هاتين المحطتين، سوى أن وجوداً ما انحسر بينهما، وجوداً يشارف الموت، أو هو موت مجازي، أو اختبار له يتم بشكل عفوي، يتجدد يومياً تحت قناع الألم... فعبثاً تحاول الذات أن تصرخ، أن تشبَّ وسط الزحام، أن تتنفس هواءً نقياً... ولا شيء سوى الضجر، تختلط فيه الملهاة بالمأساة، يمكن أن يعبر عن صدمة الإنسان بالواقع والحياة... يجسد النص هذه الصدمة قائلاً (ص 97):
«الملتصقون بأكتافي
لم يدركوا أن المشهدَ توقف فجأة
كأن نسمة هواءٍ باردة وقفت على وجوههم
أو منديلاً مرّ على جباههم
ومسح ذكرياتهم القاسية
كنتُ صامتاً
كأنني الهدوءُ
يتوضأ بمفرده
في مسجد قديم»
على ضوء هذا، تتعدد مظاهر الألم وتتنوع دلالاته وظلاله مشرّبة أحياناً بوقع فلسفي ونزوع وجودي في الديوان، حيث الألم قرينُ الحزن والبكاء والحرمان والفقد، متجسداً في صورة الأب، رمز الأمان والحكمة المفتقدة التي تتناثر في أرجاء النصوص، وهو أيضاً قرين المحبة، ويبدو لي أنه مثلما نتحدث دائماً في الحب عن نداء القلب للقلب، أو الروح للروح، ثمة نداء داخلي للألم دفين في الإنسان، يتسم بنشدان عميق للآخر، حتى أن الذات الشاعرة تتألم أحياناً من أجله وباسم محبته، وهو ما يطالعنا في اللطشة الأخيرة من الديوان:
«أحببتهم
وكنت طيباً
لدرجة أن أحداً منهم
لن يذكرني مطلقاً».
لكن هذا النداء للآخر حين يوجه خطابه للأنثى في الديوان، أياً كانت ماهيتها؛ حبيبة، عشيقة، شريكة حياة، كثيراً ما يقع أسيراً لسلبية الألم، فتتوه الأنا بين نوازع السلب والإيجاب، وتصبح أنا مخادعة وشريرة، تحيك الوهم للذات، بينما يتحول النداء من فعل إنساني رحب إلى فعل مشوش ورومانسي يقيس امتلاءه بذاته، بمدى ما يحدثه في الآخر من ألم، وهو ما يطالعنا في قصيدة «شجرة جوافة... تنام في سريرة/ من سيرة العطش» (27). فالعطش الذي يشير إليه العنوان يظل نقطة غامضة، بينما تضع الذات الشاعرة نفسها في دور الضحية للأنثى، ويهيمن خطابها الذكوري بشكل أحادي على النص، ولا نجد أي صدى لصوت الطرف الآخر - الأنثى، ما يجعل الألم يتحول إلى قناع للانتقام عاطفياً، مشكلاً مصدر كآبة موحش للذات والأنا معاً؛ لا تملك تحت ظلاله سوى التوجس من الماضي والحاضر، من الذكريات والأحلام، وقبل كل شيء، التوجس من نفسها... يقول الشاعر في هذا النص:
«أنام والأكف المقطوعة
على رقبتي
رقبتي الطويلة الناحلة
تخنقها في الليل
ألفُ نظرة ناشفة.
...
لم يبق من ماضيكِ
سوى هذا العنق اليابس
ولا من حاضركِ
سوى العطش».
وبعد... هل فعلاً الشعر حقيقة مؤلمة، لا بأس بذلك، لكن علينا أن نتذكر أن ألم هذه الحقيقة، يشد الإنسان دائماً إلى روحانيته، إلى نوره الخاص، ليعيش الحياة كما يحب ويشتهي، رغم قسوة الواقع وظلمه وانحطاطه... هذه هي الخلاصة التي خرجت بها من قراءة هذه الديوان المتميز بألمه.
الشعر تحت قناع الألم
فارس خضر في ديوانه «بعين واحدة... وبصيرتين»
الشعر تحت قناع الألم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة