«تايم لايف» لحميد بن عمرة نحت في حاضر الزمن وماضيه

مخرج يبحث عن الحرية وممثلة تتوق للحياة

محمد ملص كما يبدو في «تايم لايف»
محمد ملص كما يبدو في «تايم لايف»
TT

«تايم لايف» لحميد بن عمرة نحت في حاضر الزمن وماضيه

محمد ملص كما يبدو في «تايم لايف»
محمد ملص كما يبدو في «تايم لايف»

ينجز المخرج حميد بن عمرة، وهو سينمائي جزائري المولد، فرنسي الهوية، فيلماً جديداً من تلك التي لا تعرف التبويب وسهولة التصنيف.
«تايم لايف» فيلم طويل يجمع بين لغة الفيلم التجريبي ولغة الفيلم التسجيلي ولديه هوس خفي بالحكاية مسرودة عبر سير حياة. لكنه ليس فيلماً تجريبياً ولا عملاً تسجيلياً وبالتأكيد، كذلك، أبعد عن أن يكون فيلماً روائياً.
«تايم لايف» عن شخصيات تتحدث عن واقعها في جانبيه المنفرد بها والجماعي. زوجة بن عمرة، الممثلة الفرنسية ستيفاني بن عمرة (التي قامت بإنتاج الفيلم أيضاً) تتحدث عن نفسها كفنانة وكزوجة وكباحثة في فن زوجها والأرضية التي تجمعهما لجانب الحياة الزوجية. صوّرها المخرج بطلاقة وهي حبلى وجمع ما صوّره في ذلك الحين بما صوّره لها من قبل ومن بعد وعكس في كل ذلك نظرتها إلى الحياة والفن والعائلة.
في حديثها حول الذات تعكس ستيفاني أحلام الأمس وطموحات الغد. تتناول نفسها بكلمات تفصح عن كل تلك الرغبات التي تكنها امرأة عليها أن تنجز ما وهبت نفسها له. تقول في مشهد: «أنا معجزة. لا أنا ممثلة». ثم تأتي الصور لتتحدث عنها كممثلة وكزوجة وأم ثلاثة أولاد ومستمعة ومعلقة. وببراعة لا تكشف عن نفسها بسهولة، يربط المخرج بين ستيفاني الممثلة والزوجة والأم. ثم بين الأمومة وحب الحياة.
الفيلم عنها لكنه ليس عنها فقط. هناك الأفريقية ميك درّة التي تستعيد ثقافتها وثقافة الحياة الفنية كإنسانة وكفنانة ومستمعة «بلوز» متيّـمة. وهناك الراقص الأفريقي (برايس بارا - باكوتو) الذي يوجز، عبر رقصه الإيقاعي المنفرد، فن الفولكلور الأفريقي وكيانه وإغرائه.
وهناك الناقد والمثقف الأردني عدنان مدانات الذي درس في موسكو وعاش في بيروت ثم عاد إلى عمّان ويدير حالياً نشاطات مؤسسة «شومان» الثقافية. نراه يواجه الحاضر بتراث الماضي. يصوّره المخرج (وقد زاره في الأردن) وهو بين الآثار، ثم وهو يستعيد بعض ثقافته نثراً.
لكن في الصلب هناك المخرج السوري محمد ملص صاحب «الليل» و«أحلام مدينة» و«سلم إلى دمشق» الذي زار المخرج الجزائري في منزله الفرنسي وأمضى أياماً. ما هو رائع ونموذجي في هذا الشأن هو أن الفيلم لا يبدأ بمحمد ملص وهو يصل إلى المنزل حاملاً حقيبة كبيرة واحدة وأخرى صغيرة. هذا سيكون تقليداً متبعاً وبن عمرة لن يسمح به. على العكس، سيقدم لنا محمد ملص في أحاديث عدة ومشاهد كثيرة (مستمعاً هنا ومتكلماً هناك) ثم يصوّره، بعد نحو ساعة أول وصوله إلى البيت.
هذا يعكس الكثير من منهج عمل بن عمرة. فالفيلم ليس مكتوباً كسيناريو. بن عمرة لديه منهج في البال ويعتمد على المونتاج بعد التصوير لكنه لا ينطلق بسيناريو عليه أن ينفذه كما هو أو حتى مع بعض التعديل.

صرخة مُخرج
يعرض «تايم لايف» لمحمد ملص وهو يصوّر بكاميرا ديجيتال حيناً ويقرأ في كتاب حيناً ويستمع هنا ويتحدث هناك. هذا المخرج الذي وُلد في القنيطرة وانتقل مع والده الراحل إلى دمشق صغيراً ثم ترعرع فيها، يلفته - مبكراً في الفيلم - إنه حين وصل ضيفاً إلى حيث يعيش بن عمرة (منطقة دوفيل) استمع لصوت الطيور. كان يسمعها في دمشق ثم انقطعت. توقفت عن الطير والتحليق واختفى تغريدها.
من بين ما يعرض الفيلم من مشاهد للمخرج السوري تلك التي نراه فيها يحمل سلماً خشبياً في بعض الهضاب. يثبته على الأرض ويصعد عليه ثم يقف فوق إحدى عتباته العالية ويصيح «بدّي حرية»... ثم يصيح مرّة ثانية «بدّي فيلم» ثم يمزج بن عمرة بين العبارتين فإذا بالعبارتين تُسمعان معاً (شريط صوت فوق شريط صوت آخر) «بدي حرية- فيلم» مجسداً أن الفيلم والحرية لا ينفصلان.
لهذا السلم حكاية مهمة: في فيلم ملص «سلم إلى دمشق» (2015) نشاهد أحد أبطاله يحمل السلم إلى سطح المنزل الدمشقي ويصعده ويصيح «بدّي حرية» إعلاناً منه ومن المخرج عن موقف معارض للحرب وحدها ولمآلاتها المتعددة.
في ذلك الفيلم استغل ملص تلك النافذة الضيقة المتاحة له ليبث صرخته مطالباً بالحرية لوطنه. هنا يستعيد الفيلم بمشهد ويستعيد النداء في الوقت ذاته.
فيلم بن عمرة الجديد يأتي بعد إثر فيلمين مهمّين قبل هذا العمل وهما «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» و«حزام». كلاهما انتهجا طريقة جديدة في عرض الموضوع المتناول وكافة المواضيع الأخرى الصادرة عنه.
في «هواجس الممثل المنفرد بنفسه» (2016) عاين بن عمرة حياة الممثل المسرحي الجزائري محمد أدار ومن خلاله عاين تاريخه وطموحات وذلك الزمن الذي عايشه ولا يزال. لجانبه، عزز الفيلم طروحاته بتقديم مواد أرشيفية لبعض ما دار في المشهد الثقافي العربي من أسماء ونشاطات. ليس على أي نحو شوهد من قبل، فالصور التي يلتقطها المخرج مؤلّفة دوماً من طبقات ومعان وأحياناً من رموز ولو أنها في محصلتها عاكسة لرغبته رصد حياة الممثل ومن خلالها أحلامه وإحباطاتها ومن خلالها إحباطات الثقافة والفن بشكل عام.

ابتكارات
«حزام» كان مختلفاً إذ هو عن علاقة الحزام الذي يلفه لاعب الكاراتيه (الذي نال عنه المخرج ميداليات وأحزمة متقدمة) بالحزام الذي تلفه الراقصة الشرقية. العلاقة لافتة لا من حيث إن الحزام يلف الوسط في كل وضع، بل يشمل الربط البحث في الفنين معاً، فن الكاراتيه وفن الرقص الشرقي.
في «حزام» اختار بن عمرة شخصية معلمة الرقص الشرقي آسيا قمرة. وإذا ما كان السفر والترحال والقطارات والمساحات المفتوحة أمام الكاميرا مزايا الفيلم السابق، لجانب مشاهد من التمرينات المسرحية الداخلية، فإن معظم الفيلم الجديد يدور داخل قاعة المدرسة التي تديرها السيدة آسيا. لكنه قليل ملحوظ يخلق، بسبب جمالياته، توازناً فعالاً.
هذا لجانب مشاهد بوح يقوم خلالها المخرج المعروف محمد ملص بالإفصاح عن مجمل أسئلته في الزمن الصعب الذي يعيشه السينمائي وجدانياً.
الفيلمان جيدان بلا نزاع. فيهما ابتكارات فنية من تلك التي تشغل بال المخرج فيقدم عليها مقتنعاً بقيمتها وأسلوبه التعبيري المنفرد به. لكن «تايم لايف» خطوة عملاقة تتجاوزهما. ما زال فيلماً ذاتياً ينطلق من قناعات المخرج وإبداعاته، لكن ما يسبر غوره يخلق فاصلاً كبيراً في الشكل وفي الموضوع بينه وبين فيلميه السابقين.
إذ يستعصي «تايم لايف» على أي تصنيف جاهز، يبقى عملاً مبدعاً وبعيداً عن الادعاء. فيلم نابع من قلب وعين وشغف بلغة سينمائية تتجاوز المطروح. لا يرضى المخرج بالثوابت ولا المتغيرات عنده مجرد محاولات. بل يؤم مساحة خاصة به يشغلها بكل ثقة مجسداً هواجس مخرج منفرد بنفسه أيضاً.



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).