صلاح الدين الأيوبي... الحقيقة والأسطورة

المؤرخ البريطاني فيليبس يراه سياسياً ودبلوماسياً محنكاً من الدرجة الأولى

الممثل السوري غسان مسعود بدور صلاح الدين في فيلم «مملكة السماء»
الممثل السوري غسان مسعود بدور صلاح الدين في فيلم «مملكة السماء»
TT

صلاح الدين الأيوبي... الحقيقة والأسطورة

الممثل السوري غسان مسعود بدور صلاح الدين في فيلم «مملكة السماء»
الممثل السوري غسان مسعود بدور صلاح الدين في فيلم «مملكة السماء»

تغذت أجيال كثيرة من الغربيين على أساطير كثيرة كتبها مؤرخوهم عبر الأيام بشأن شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي، قائد جيوش مسلمي المشرق العربي في معركة حطين الفاصلة التي كسرت ظهر الوجود الصليبي بفلسطين، وفتحت الباب لتحرير مدينة القدس عام 1187، وكانت فاتحة تحول نوعي في طبيعة المواجهة، قبل أن يُتم سلاطين مصر المماليك مهمة إزالة ما تبقى من الدويلات التي أقامها الغزاة، فمنهم من جعله شيطاناً شريراً متعطشاً للدماء ألصقت به صفات يعف اللسان عن ذكرها، بينما انصرف آخرون لتصويره متحضراً كريماً ودوداً «يتمتع بأخلاقيات وكأنها فرنسية»، وفق نص من أواخر القرن السابع عشر، أو حتى بصورة بطل شرقي رومانسي في قصة شغف عابر للثقافات مع سيدة غربية شقراء (إليانور الأنطاكية)، وإلى ما ذلك من الحكايات.
وبحسب جوناثان فيليبس، المؤرخ البريطاني المعاصر، في كتابه الجديد «سيرة حياة وأسطورة السلطان صلاح الدين»، فإن «تلك الهزيمة النكراء التي لحقت بطلائع الغرب في بلادنا قد دفعت أجيالاً من المؤرخين الغربيين، لا سيما من عاش مرحلة الحروب الصليبية، إلى تضخيم شخصية القائد الذي هزمهم، لمحاولة تبرير فداحة ما حل بهم من كارثة عسكرية ورمزية جراء سقوط مملكة القدس النصرانية، وعودة المدينة المقدسة مجدداً لأيدي الكفرة».
تتعدد عنه الروايات الغربية، وتتناقض أحياناً، لكن ما يجمعها أنها محشوة بالأساطير والروايات المتخيلة المختلطة بكثير من لغو آيديولوجي ودعايات دينية. ولا تساعد طبعاً السرديات العربية النقيضة على جلاء أمر هذا الرجل الذي كان بحق أكبر من الحياة، إذ لا تشكو تلك السرديات بدورها الهنات ذاتها والميل السياسي، وإن اختلفت في التوجهات بطبيعة الحال. ومنطلقاً من إدراك معاصر لهذه الأرضية الملتبسة على صعيد الرواية التاريخية، فإن فيليبس، أحد أهم الخبراء المعاصرين فيما يتعلق بتاريخ الحروب الصليبية، يأخذ على عاتقه في هذا الكتاب مهمة إزالة ركام مئات السنين من كثير المقاربات المنحازة، سعياً للكشف، بقدر ما تسمح به الشقة الزمنية، عن الشخصية الحقيقية وراء السلطان العظيم.
ويؤسس فيليبس لمهمته الجليلة عبر تقديم إطار تاريخي ثري لتاريخ منطقة الشرق العربي خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وهي فترة كانت تموج بالصراعات السياسية، وتبدل مصائر الدويلات المتنافسة، ونوع من السيولة العابرة للمجموعات الدينية والإثنية والثقافية التي كان على صلاح الدين التعامل معها، قبل أن يصوغ استجابة مشرقية فاعلة تجاه رأس الجسر الغربي الذي تلاقت إرادات قوى أوروبا الفاعلة حينها (أمراء وأكليروس) على إقامته في المنطقة، تحت ستارٍ كثيفٍ من الدعاية المؤدلجة والخداع واستثمار عواطف العامة.
وبعكس الصورة السائدة عن صلاح الدين، كقائد عسكري استثنائي، فإن فيليبس يذهب في اتجاه أن أعظم مواهب السلطان على الإطلاق كانت عبقريته كسياسي محنك ودبلوماسي من الدرجة الأولى، بمقاييس اليوم. فهو رغم وجوده أحياناً في الصفوف الأمامية بين جنوده، وكفاءته الاستراتيجية وشجاعته، وكذلك اختياراته الذكية، بانتقاء أوقات لاستخدام مشاهد العنف البالغ لقمع الثورات، أو معاقبة الخائنين، أو حتى إرهاب الأعداء، فإن انتصاراته كانت كثيراً ما تتحقق دون قتال أو قبل نشوب المعارك، من خلال العمل السري وراء الكواليس لبناء التحالفات، وشراء الولاءات، وصرف الناس عن تأييد أعدائه. ويسجل فيليبس إدراكاً عالياً من السلطان لأهمية الدعاية السياسية، وكسب العقول والقلوب، إذ أنفق بسخاء على جيش من الشعراء والعلماء والكتاب، فأغرقهم بأعطياته حتى لم يكن لديهم بد من التغني بفضائله وتقواه وورعه، وإن لم يطلب هو ذلك منهم مباشرة. هذا بالطبع إلى جوار بنائه نواة صلبة حوله من الأقرباء والمقربين والموالين المخلصين الذين أثبتوا شجاعتهم وولاءهم معاً، فعني بربط مصالحهم مع مصالحه، فضربوا بسيفه ظالماً أو مظلوماً. لكن أفضل استثماراته في هذا المجال، وفق فيليبس دائماً، كانت في دعمه الواسع، مادياً وسياسياً، للمؤسسة الدينية التي كان لها دور محوري لاحقاً في نجاح التعبئة العامة، والتجهيز للزحف نحو القدس. وفيليبس، بتقديمه لهذه الصورة (الميكيافيلية الطابع) عن السلطان، لم يكن ينوي إدانة شخصية صلاح الدين، أو أن ينحاز إلى موقف أعدائه الصليبيين منه، بقدر ما أراد إظهار ذلك العمق الاستراتيجي الذي حكم ممارسته القيادية ببث الروح في أمة مفككة الأوصال، واستنهاضها وتوحيدها، رغم التباينات المحلية الكثيرة، لإيقاف الغزو الغربي، بل واستعادة روح المبادرة العسكرية، بعد عقود من الانكسارات المتكررة التي تعرضت لها شعوب المشرق وحواضرهم الكبرى، لا سيما بعدما استبيحت القدس (المدينة الرمز)، وذبح سكانها عن بكرة أبيهم دون رحمة، وأقيمت على أنقاضها مملكة للفرنجة.
استلزم بناء هذه الصورة عن شخصية صلاح الدين الرجوع لمئات المصادر الغربية والشرقية، وعقد المقارنات عنها، كما الإطاحة بكثير من الصور التقليدية المتداولة عنه، ومنها أسطورة اللقاء مع ريتشارد قلب الأسد، وهو أمر لم يحدث قط، رغم أن جيوش الرجلين تواجهت بالفعل، كذلك صورة الرجل الرحيم بالمسيحيين الذين ظفر بهم عند تحرير القدس، فلم يعمل في رقابهم السيف، وجلهم من المقاتلين الوالغين في دماء المسلمين، وسمح لهم بشراء حريتهم ومغادرة المدينة، ذلك لأنه ينحدر من أسرة أرستقراطية أصولها في شمال فرنسا. والحقيقة أن ذلك النسب مفتعل بالكلية، وواقع الأمر (كما يقول فيليبس) أن السلطان كان بحاجة ماسة لمزيد من الأموال كي يضمن استمرارية حملته لتحرير بقية المنطقة، فكان أن حصل على ثروة هائلة تداعت لجمعها له ممالك الصليبيين من أجل إنقاذ أرواح رفاقهم الأسرى في القدس.
ومهما يكن من أمر السلطان صلاح الدين الأيوبي، فإن الحقائق التاريخية المثبتة عنه، كما مجموع السرديات المتناقضة والأساطير المتراكمة، تلتقي بشكل أو بآخر معاً في صياغة هالة مستحقة لمساهمة شاهقة قدمها قائد عربي صعد من قلب هذا الشرق المعذب، وقاد بنجاح مبهر، على جبهات السياسة والاستراتيجية والدبلوماسية والثقافة، ناهيك عن مواقع القتال والمواجهة العسكرية، هجوماً مضاداً لغزو دموي همجي، فحطم عنفوانه، ولم يتعافَ منه الصليبيون قط، بل وحفر في وجدان بعض من أحفادهم، ممن توارثوا الكراهية والحقد رغم مرور قرون كثيرة، فكان أول ما فعله قائد الفرنسيين بعدما سقطت دمشق، بداية القرن العشرين، أن زار قبر الرجل العظيم، وتجرأ على وضع قدمه عليه، ليخاطبه: «ها قد عدنا يا صلاح الدين، وأخذنا بثأر حطين»، بينما يستعيده آخرون في المشرق لكسب التعاطف الشعبي، بداية من أيام الرئيس العراقي صدام حسين الذي تماهى مع القائد المنحدر من مدينته تكريت، مروراً بمصر الناصرية، إذ تمثل به الرئيس المصري جمال عبد الناصر، كموحد تاريخي لجناحي المشرق العربي، وكذلك سوريا الحديثة التي وضعت صوره على عملتها الوطنية، وانتهاء بالمتطرفين الإسلامويين اليوم الذين استحضروا بطولاته في كتبهم ومنتجاتهم الدعائية.
ولا ينتهي كتاب «سيرة حياة وأسطورة السلطان صلاح الدين» بوفاة صاحب السيرة عام 1193، بل هو يطرح أفكاراً لمساعدة القارئ على الربط بين وقائع تلك المواجهة الكبرى التي حدثت بين الغرب والشرق قبل 800 عام، وما قد بقي من آثارها السيكولوجية والثقافية العميقة محفوراً في الوجدان الغربي حتى اليوم. ورغم أن فيليبس يكتفى بإشارات وتعميمات في هذا الجزء الأخير من الكتاب، فإن فهماً أفضل لتاريخ الحروب الصليبية، كما في مقاربة فيليبس، لا شك يفقد المتطرفين، شرقاً وغرباً على حد سواء، جزءاً كبيراً من عدة سوء الفهم التي يتاجرون بها.



تهميش تاريخ القبيلة العربية

علي الوردي
علي الوردي
TT

تهميش تاريخ القبيلة العربية

علي الوردي
علي الوردي

لعلنا لا نشتطّ في الدعاوى إذا قلنا إن القبيلة العربية هي التي جعلت الشرق شرقاً عربياً كما نعرفه متصلاً بعضه ببعضه الآخر من نجد إلى ليبيا، بعيداً عن الحديث عن دورها من جهة التطور أو محاربته. عندما تنظر في كتابات عالم كبير مثل علي الوردي ستجد أنه جعل القبيلة ثالثة الأثافيّ التي أضرت بالعراق، بالإضافة إلى الفرس والترك، لكننا لن نتحدث في هذا الموضوع الآن.

والقبيلة العربية تعني أيضاً الشعب العربي الذي عايش تصحر جزيرة العرب التي كانت خضراء وذات أنهار وبساتين في الأحقاب القديمة. وقد كافح ذلك الشعب ما حدث من تحول بيئي قاسٍ فتكيف معه ودمج حياته فيه على الصورة التي نعرفها. والقبيلة العربية تعني بصورة أخص المملكة العربية السعودية، أي ذلك التمدد في المراعي الخصيبة وبث العنفوان وروح الحرية التي لم تعرف الاستبداد قط، كما أنها لم تعرف أي نوع من أنواع الإقطاع. في هذه المساحة التي همشها المؤرخون لفترة طويلة تأسست حضارات مستقرة ومتعاقبة.

ولم تحصر القبيلة العربية نفسها في الجزيرة، بل انسابت وصعدت شمالاً بحيث أصبحت هي النسيج الذي تكونت منه النزوحات التاريخية الكبرى خارج جزيرة العرب منذ الأزمنة البعيدة، حين تكونت الحضارات والدول التاريخية في بلاد الرافدين والهلال الخصيب، بل وأبعد من ذلك، إلى المغرب العربي والأندلس.

وإذا عدنا لاستعراض تاريخ قبيلة الجزيرة السياسي فسنقول إن القبائل لم تخضع قط إلا لدولتين؛ دولة الخلافة الراشدة والدولة السعودية، ولعل خروج الخليفة الرابع علي بن أبي طالب من المدينة إلى الكوفة هو بداية التهميش الذي حدث فيما بعد. لم تعد الجزيرة مركزاً للدولة، حتى حين. خروج المركز أدى إلى بقية أنواع التهميش، ولم يعد بالإمكان الحديث عن حضارة. بقيت مكة والمدينة بسبب مكانتهما الدينية بحيث تحرص الدول المتعاقبة على ضمهما إلى الدولة بالقوة، ومع ذلك لم تكونا مركزاً سياسياً، بل بقي من يحكمهما تابعاً لدولة خارج الجزيرة؛ الأمويون ثم العباسيون ثم الأيوبيون ثم المماليك ثم العثمانيون.

وفي نظري أن عرب الجزيرة يخضعون فقط للزعيم الذي يكون منهم ويقيم معهم، ولذلك لم تخضع القبيلة العربية في نجد لأحد من الممالك القديمة والدول المتعاقبة، ولذلك كان السلاطين يتصالحون مع القبيلة بأن يتركوا لها المراعي الخصيبة، في مقابل أن تحصُل من القبائل على نوع من الحلف في وقت الحاجة، وهو حلف لم يكن يدوم على كل الأحوال، وكانت القبيلة تستفيد أيضاً من هذا الحلف، أعني حصولها على غنائم من الغزو، ولم تكن تتضرر كثيراً من هزيمة جيش الدولة الحليفة.

وربما تمردت القبيلة العربية على دولة الخلافة في البداية ورفعوا شعار:

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا

فيا لعباد الله مالِ أبي بكرِ

أيورثها بكراً إذا مات بعده

وتلك لعمر الله قاصمة الظهرِ

إلا أنها عادت وخضعت للراشدين لأنها رأت أنها في ظل دولة عربية قبائلية تعرف طبيعة القبيلة. القبائل العربية أو الأعراب أو البدو هم «أصل العرب ومادة الإسلام»، حسب تعبير عمر بن الخطاب (جامع البخاري، حديث رقم 3700) وهو من هو في معرفته وخبرته بالقبيلة العربية وحميّتها، ولذلك كان حريصاً على كل العهود التي قُطعت لهم، وألا تُمس أموالهم، وإن كان للدولة حق في حواشي أموالهم، فقد كانت تُردّ على فقرائهم هم، وألا تُنقل القبيلة إلى مكان آخر، لأن هذا قد يؤدي إلى شعورها بأن ثروتها من الإبل تُغتصب. هكذا كانت القبيلة العربية التي شكَّلت روح الفروسية العربية والرومانسية العربية. وقد كانت الجسد الرئيسي الفاعل في معارك الدفاع والهجوم التي قادها العرب بعد الإسلام فهزمت معظم الممالك التي كانت سائدة في ذلك الزمان.

ومع الدولة السعودية التي نشأت أصلاً في حضن القبيلة وبنت ذاتها من نسيج ذلك الحضن، لم يكن ثمة إشكال فيما يتعلق بولاء القبيلة السياسي، وإن كانت القبيلة قد تمردت، على سبيل المثال في معركة السبلة التي كان النصر فيها للملك عبد العزيز، إلا أن معظم القبائل والإمارات القبلية كانت مع الملك وضد المتمردين.

كان جُل إنتاج عرب الجزيرة الثقافي -سواء التاريخي أو الأدبي– شفهياً لا يعتمد على الكتابة إلا نادراً

يغلب على ظني أن أهل الجزيرة العربية شاركوا في محاربة المغول والصليبيين مع إخوانهم أهل الشام والعراق ومصر، لكنَّ هذا التاريخ لا يبدو جلياً، فكما أسلفت، عانى عرب الجزيرة من التهميش عبر القرون المتعاقبة. بالنسبة إلى القرون القريبة الأمر واضح، ثمة تهميش مريع ومكتمل الجوانب. ولا شك أن عرب الجزيرة يُلامون بدورهم لأنهم لم يصنعوا مؤرخيهم الخاصين بهم ولم يكتبوا تاريخهم، وإن وجدت كتب تاريخ فهي كتب تؤرِّخ لسير رجال الدين والفقهاء ولا تتحدث عما هو حضاري ومن نتاج الإنسان العادي. وكان جُلُّ إنتاجهم الثقافي -سواء التاريخي أو الأدبي– شفهياً لا يعتمد على الكتابة إلا نادراً. تاريخ ما قبل الإسلام دونه الشعراء الفحول ورواة الشعر من أمثال المفضَّل الضَّبِّي والأصمعي وغيرهما ممن بذلوا جهوداً لتثبيت السرديات التي تصف مناسبات القصائد والوقائع والمعارك التي صاحبتها. كما أن الإشارة إلى تلك القصائد في كتب من الأمهات ككتاب «الأغاني» أدى إلى مزيد من السرد والتاريخ. ومع ذلك فقد جرى، بالإضافة إلى التهميش، شيء من التشويه.

لقد حظيت بغداد ودمشق والقاهرة وبلاد المغرب العربي والأندلس بمن حفظوا تاريخ مدن العرب الكبرى هذه، لكن الجزيرة لم تحظَ في الزمن القديم بشيء من هذا، وهذا أمر قد يكون إصلاحه على درجة كبيرة من الصعوبة لو قررنا أن نعيد كتابة تاريخ هذا الجزء من العالم الآن بعد قرون طويلة من موت كل الشهود وغياب المراجع الموثوقة.

* كاتب سعودي