لماذا نكتب؟ سؤال لا معنى له

لماذا نكتب؟ سؤال لا معنى له
TT

لماذا نكتب؟ سؤال لا معنى له

لماذا نكتب؟ سؤال لا معنى له

كان أرنست همنغواي ينصحنا بأن لا نكتب إذا كنا نستطيع أن لا نكتب. هذه الاستطاعة تعني أن الكتابة عندنا ليست سبب وجودنا وجوهره. قد تكون ملحقا جميلا بهذا الوجود، شيئا إضافيا أردناه عن وعي أو نصف وعي، أو ديكورا خارجياً يزين ذواتنا. لكنه ليس هناك في النخاع، ليس هو ما يشكل دمنا وأعصابنا، وخلايا أدمغتنا. إنها ليست نحن.
أول من طبق ذلك هو همنغواي نفسه. حاول أن لا يكتب نسخة أخرى من «وداعا للسلاح» أو «الشمس لا تزال تشرق» أو «العجوز والبحر»... حاول ذلك صادقاً. أصبحت الكتابة عصية عليه. ولكن همنغواي ليس شيئا آخر سوى الكتابة. ظل ذلك العجز يحفر في أعماقه عميقاً. لم تسعفه جائزة نوبل، ولا شهرته الأسطورية، ولا حياته الصاخبة، ولا نساؤه. لا شيء يعوض عن الكتابة. كان يعرف أنه ليس همنغواي من دون الكلمات. والكلمات لا تعني عند همنغواي وزملائه من «بناة العالم» الكبار، من هوميروس إلى آخر مبدع، سوى شيء واحد: عملية خلق كبرى. أن تخلق أو تموت. وبعد صراع ممض مع الكتابة، جاءت تلك الطلقة التي أفرغها في رأسه الفخم لتنهي ذلك العذاب الأليم: العجز عن الخلق.
وهل فعل ذلك العابر الهائل الخطوات، آرثر رامبو، شيئا آخر؟ امتلأ بالكلمات وهو في التاسعة عشرة، حتى غص بها، وانتحر على طريقته الخاصة: هرب من الكلمات، إلى اليمن ليتاجر بالمواشي أو السلاح.
ومن أبقى الألماني العظيم هولدرلن نزيل مستشفى الأمراض العصبية ثلاثين سنة كاملة غير عذاب الكلمات؟ وحل الفرنسي العظيم الآخر، جيرار دو نيرفال، ضيفا على المستشفى نفسه في باريس. حتى هناك، كانت الكلمات لا تفارق شفتيه وهو يرقد على سرير «الجنون»، فكتب أجمل قصائده «نزهات وذكريات» و«أوريليا» و«الحلم والحياة». وبعد لياليه البيضاء، السوداء، كما كتب مرة، توجه إلى شجرة وسط العاصمة الفرنسية ليتوحد معها إلى الأبد. وهو بعد في الرابعة والأربعين.
هنا يصبح السؤال «لماذا نكتب» سؤالاً زائداً، لا معنى له. سؤال منطقي عن أكثر العمليات الإنسانية غموضاً... ظاهرة لا منطق لها. لا أحد يعرف كيف أتت، ولا أين تمضي. ولماذا تصيب هذا وليس ذاك. لا سبب هناك ليكون هناك جواب.
يذكر الروائي ريتشارد روسو، الحائز على جائزة بولتزر، في كتابه «سارق القدر»، الصادر حديثاً عن «ألان وآنوين» أنه عرض ما يكتبه على روبرت داون، أستاذه آنذاك في الكتابة الإبداعية في الجامعة فقال له الأخير: «معظم الكتاب يكتبون ألف صفحة من النثر الرديء ثم يمزقونها. في حالتك أنت تحتاج إلى ألفي صفحة»!
ويقول لنا روسو إن الكتابة صعبة كالحياة نفسها. لكن روسو مع اليأس، وما يسميه أحد النقاد «انتقاص الذات»، بدأ درسه الروائي الجدي مع نفسه بالمثابرة اليومية، وحيداً في عزلته ووحشته، باحثاً عن «الحقيقة التي يمكن أن تبني حياة». لكنه يذكر أيضاً أولئك الكتاب الذين كانوا يتمتعون بموهبة أكبر منه، كما يعترف. لكنهم انطفأوا.
التاريخ مليء بالكتاب المنطفئين، حتى قبل أن يتوهجوا. ربما غصوا أيضاً بالكلمات. وزحفت اللاجدوى لتعطل العقل والحس، وتملأهما بالظلام، كما هتف سارتر مرة في أوج يأسه: ماذا يستطيع الأدب فعله؟ وأنقذته الفلسفة.



موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.