«ديسْفيرال»... حياة ناقصة تستعير ذاكرة الآخرين

يُطوِّع نوزت شمدين في روايته الجديدة «ديسْفيرال»، الصادرة عن دار «سطور» ببغداد، الثيمة العلمية، ويروِّض عناصرها المعقّدة والعصيّة على القارئ العادي بدءاً من العنوان (Desferal)، مروراً بمرض «الثلاسيميا»، وانتهاءً بزراعة نخاع العظم، وما بينهما من مصطلحات طبية كثيرة تستدعي قارئها إلى البحث في «الإنترنت» لمعرفة معانيها، وفكّ طلاسمها العلمية بُغية الإحاطة بهذا المرض، والوقوف عند العلاجات الطبية المتاحة.
يُوحي العنوان للوهلة الأولى بالغموض، وربما يُشوِّق القارئ لمعرفة معنى هذه العتبة النصية الغريبة التي تتأخر حتى الخُمس الأول من الرواية، لنعرف أن «الديسْفيرال» هو الاسم التجاري لدواء «الديفيروكسامين» الذي يستعمل لتمخلب الحديد الزائد في الجسم والتخلّص منه للمرضى المصابين بـ«الثلاسيميا» التي تعني فقر الدم المزمن.
لم يسرد شمدين هذه المعلومات دفعة واحدة، وإنما قدّمها على شكل جُرعات متفرقة سهّلت عملية هضمها واستساغتها من قِبل أفراد الأسرة المفجوعة التي فسّرت هذا المرض على طريقتها الخاصة، وقَبِلت به كقَدَر هابط من السماء، وليس كحقيقة علمية دامغة لا علاقة لها بالتأويلات الخرافية التي تجترحها الذاكرة الشعبية من الخزعبلات والأوهام والأساطير.
يعتمد النسق السردي للرواية على ثلاثة أجيال، وهم الآباء عزّام ومجيد، والأبناء سليم وزاهدة، والأحفاد جابر وإيثار. يقتصر جيل الآباء على الشقيقين عزّام سعيد ومجيد سعيد اللذين تنازعا للظفر بـ«شمس»، فحظي بها الأخ الأكبر عزّام، ثم تنافسا على لقب الشيخ فأفضى بهما هذا التنافس إلى القطيعة النهائية بين الأسرتين، لكن قصة الحُب التي ستجمع بين سليم مجيد وابنة عمه زاهدة عزّام هي التي سترمم جانباً من العلاقة المقطوعة بين الطرفين، وستسمح بحدوث هذه الزيجة على مضض بعد موت الشيخ عزّام برصاصة طائشة في أثناء الاحتفال بنهاية حرب الخليج الثانية عام 1991، حيث قُيدت الحادثة ضد مجهول.
حملت زاهدة بجنينها الأول، لكنها سرعان ما أجهضته بسبب الأشغال الكثيرة التي تنوء بها في المنزل الكبير الذي يضم والدي سليم وشقيقاته الأربع، ثم أجهضت جنينها الثاني، وظهر أنها مُصابة بفيروس «المقوسات الغوندية» (Toxoplasmosis) الناجم عن تلوّث الفواكه والخُضار، أو تناول لحوم الخراف والأبقار غير المطهيّة جيداً وما إلى ذلك من أسباب صحيّة، غير أنّ القابلة «عفاف» بشرّت العائلة بأن الجنين الثالث سوف يصمد لتسعة أشهر كاملة من دون أن يتعرّض لخطر السقوط، وأنّ المولود سوف يكون ذكراً، حسب خبرتها المتراكمة، فجاء جابر وفرحت به الأسرة برمتها، لكنه ما إن بلغ شهره السادس حتى انتبهت الأم إلى أن لون عينيه يميل إلى الاصفرار، فطمأنتها حماتها بأن هذا المرض يُدعى «أبو صفار»، وهو يصيب الأطفال في كل زمان ومكان. لم يقف الأمر عند تشخيص الحماة وإنما تعدّاه إلى أناس آخرين، فالقابلة شطّبت منطقة خلف الأذنين بموس حلاقة فسالت منه دماء كثيرة، ثم أدلى العشّاب والبقّال والحلاق وإمام الجامع بآرائهم المتناقضة التي تنأى عن الحقائق العلمية، وتقترب من الأوهام والتصورات الخاطئة فهو مُصاب بـ«الثلاسيميا»، ويحتاج إلى التزوّد بدماء جديدة مرة واحدة في الشهر طوال حياته. ثم يفهم الأبوان أنهما حاملان لسمة المرض، وأنهما السبب المباشر لإصابته بفقر الدم المزمن، وليس أمامه سوى فرصة واحدة للنجاة، وهي إجراء عملية زرع نخاع العظم في الخارج. تطول معاناة جابر ونتعرّف كقرّاء على كل تفاصيل هذا المرض الخطير الذي كان مختبئاً في جسدي الأب والأم. وعلى الرغم من الآلام التي ترافق عملية نقل الدم، إلاّ أن السبب لا يكمن في عدم فلترة الدم، أو فصل أجزائه، كما يقول الأطباء، وإنما بسبب حلول شيء من روح المتبرع في جسده، الأمر الذي يجعله بعد زوال الألم يرى جانباً من حياة المتبرع، ويطلّع على أسراره، ويعرف خبراته وتجاربه، ويلّم بأفراحه وأحزانه، فلا غرابة أن تكون ذاكرته الفردية مَنجماً من الأفكار والقصص والمعلومات المنوّعة التي انتقلت إليه تلقائياً مع الدماء الجديدة من متبرعين مسلمين ومسيحيين، أغنياء وفقراء، متدينين ومُلحدين، متعلمين وأميين، موظفين وعاطلين عن العمل لا تجمعهم سوى الطيبة، وهي القاسم المشترك بين كل المتبرعين المجهولين باستثناء دماء والده التي سرتْ في شرايينه وأوصاله فعرف عنه كل صغيرة وكبيرة.
تتعالق المحنة الفردية لجابر وأسرته مع الإمام «الداعشي» شجاع الذي طلبَ من والد سليم أن يحوّل ابنه جابر إلى كائن مفخخ يفجّر نفسه بين «الكفّار» المحتلين، ويضمن الجنة لنفسه والشفاعة لأهله. وحينما يرفض الأب هذه الفكرة متذرعاً بمرض ابنه، وصغر سنه، يُدهمهم شجاع مع ثلاثة ملثمين، ويجردهم من كل الأموال التي جمعوها لإجراء عملية زرع نخاع العظام في الخارج، لكن هذا الإمام الدّعي سوف يُقتل هو وأفراد عصابته وتُعلّق جثثهم على أعمدة النور.
ثمة أحداث وتفاصيل كثيرة تصوّر معاناة جابر من زرق الإبر، وإعطائه حامض الفوليك والكالسيوم كل يوم، ونقل الدماء الجديدة إليه كل شهر تقريباً، هذا إضافة إلى سخرية الأطفال الذين يشبّهون أنفه بأنف القرد، وجلده بجلد الضفدعة، وبراطمه ببراطم الجمل. تزدان هذه الرواية بعنصر الأمل فبعد أنّ ملّ المريض من إبر «الديسْفيرال» حلّ «دواء الأكسجيد» مثل نعمة إلهية، لكن ما إن ناوله حتى أصيب بنزيف في المعدة، والتهاب في المثانة، الأمر الذي دفع الطبيب للعودة إلى «الديسفيرال» مجدداً. ولم يبق أمامه سوى عملية زرع نخاع العظام التي دفعت الأبوين لإنجاب طفل آخر سمياه إيثار، على أمل أن يحصلوا على تطابق نسيجي كامل بين الأخوين. وبعد إجراء الفحص المختبري في الموصل توصلوا إلى هذه النتيجة الإيجابية التي قلبت حياتهم رأساً على عقب، لكنهم ما إن وصلوا إلى مدينة كالياري الإيطالية حتى نزل عليهم الخبر نزول الصاعقة، لأن فحوصاتهم المختبرية أثبتت عدم وجود تطابق نسيجي كامل بين الشقيقين، الأمر الذي يعني تعذّر إجراء عملية الزرع، وأن كل الجهود الكبيرة التي بذلوها ذهبت أدراج الرياح. عندها فقط يصرخ سليم قائلاً: «أنا المجرم الذي يستحق العقاب». ثم يسرد حكاية قتل عمه عزّام الذي لم يُصب برصاصة طائشة يوم الاحتفال، وإنما هو نفسه من قتله متعمداً كي يتزوج بزاهدة التي أحبّها إلى درجة الهوس والجنون، لكنها ستنفصل عنه إلى الأبد بمجرد وصولها إلى المنزل، وعودة جابر إلى أدويته القديمة التي تأخذه إلى عالمها السري الذي يتيح له أن يتألم ويحتج ويبكي كما يشاء.