كانط... فيلسوف التنوير الأكبر في الغرب

مجلة «لوبوان» الفرنسية تصدر ملحقاً كبيراً عنه

صمويل كانط
صمويل كانط
TT

كانط... فيلسوف التنوير الأكبر في الغرب

صمويل كانط
صمويل كانط

لماذا نعود إلى كانط الذي عاش ومات قبل أكثر من مائتي سنة؟ لأنه أكبر فيلسوف في العصور الحديثة، كما يقول لوك فيري العارف ببواطن الأمور: «كنا نعتقد أن ديكارت أو هيغل أو نيتشه أو هيدغر هو أكبر فيلسوف، ولكن يبدو أننا أخطأنا». نقول ذلك رغم أن بعضهم يعتبر هيغل أرسطو العصور الحديثة، وليس كانط. ولكن لا يهم؛ كلاهما مهم. ثم نعود إليه لأنه فيلسوف التنوير الأكبر في الغرب، فهو الذي نور الدين المسيحي وصالحه مع الحداثة والعقل، بعد أن كان أصولياً طائفياً تكفيرياً. ونعود إليه بمناسبة صدور عدد كبير عنه، كملحق ثقافي كبير لمجلة «لوبوان» الفرنسية المعروفة. ومعلوم أن هذه المجلة الأسبوعية تصدر من وقت لآخر أعداداً خاصة ممتازة عن كبار المبدعين الفرنسيين والعالميين. وفي هذا العدد، نجد مقالات موقعة من قبل كبار أساتذة الجامعات الفرنسية. ومنذ البداية، تقول لنا رئيسة التحرير كاترين غوليو، في افتتاحية العدد، ما يلي: «لماذا نهتم بكانط؟ لماذا نكرس له عدداً خاصاً؟ لسبب بسيط، هو أنه يعلمنا كيف نستخدم عقولنا بشكل صحيح، ولأنه يعلمنا أيضاً مكارم الأخلاق، فهو فيلسوف أخلاقي من الطراز الأول. لا ريب في أنه يمكننا أن نعيب عليه أشياء كثيرة، كصرامته الفكرية، والطابع التجريدي العويص لفلسفته. ولكنه نص على قواعد أخلاقية أغلى من الذهب، ومارس هذه الأخلاق الصارمة عملياً، لا نظرياً فقط. فقد كان نظيف اليد نزيهاً صادقاً، وعلمنا أنه ينبغي علينا أن نستخدم عقولنا لكي نتحكم بشهواتنا وغرائزنا، لا أن ندعها تتحكم بنا، وهو شيء صعب لا يقدر عليه إلا القليلون. كما علمنا أنه يمكن أن نتوصل يوماً ما إلى عالم أفضل، عالم مسالم يسوده الإخاء والتعايش. وهذه الأفكار كانت تعتبر ثورية في القرن الثامن عشر. ونحن نكرس هذا العدد كله له لأن كانط يعلمنا معنى أداء الواجب، واحترام الآخر، والحرص على المصلحة العامة، وجعل عقلنا يتحكم بغرائزنا، وليس العكس، كما هو سائد حالياً في الغرب، حيث بلغ الشذوذ والاستسلام للشهوات مبلغه. من هنا أهمية التذكير بكانط لإعادة الغرب إلى جادة الصواب، إذا أمكن».
ومن بين هذه المساهمات الكثيرة نذكر ما قاله البروفسور كريستوف بوريو، أستاذ الفلسفة في جامعة اللورين، شرق فرنسا، حيث يتساءل: ما معنى الفلسفة الكانطية؟ وما جوهرها ومحتواها؟ إنها تدشين فكري وأخلاقي جديد للتاريخ. وهذا التدشين يجعل الإنسان قادراً على تنظيم العالم بطريقة أفضل من السابق؛ إنه يجعله سيد قدره ومصيره، بشرط أن يعرف كيف يستخدم إمكانياته العقلية بشكل صحيح. ولكن فكر كانط، على عظمته وعبقريته وابتكاريته، ليس مفصولاً عن عصره، وإنما هو نتاج مباشر لتلك الثورة العلمية التي حصلت في أوروبا بدءاً من القرن السادس عشر على يد كوبرنيكوس، واستمرت في القرن السابع عشر على يد غاليليو وديكارت، ثم توجت لاحقاً على يد أكبر عبقري: إسحاق نيوتن. ولهذا السبب قال بعضهم: «لولا نيوتن لما كان كانط!»، فذهبت مثلاً. لقد أعطى نيوتن لكانط ثقة هائلة بالعقل البشري وبإمكانياته، عندما اكتشف القوانين التي تمسك الكون وتتحكم به، كقانون الجاذبية وسواه. وعندئذ، قال كانط بينه وبين نفسه: إذا كان نيوتن قد استطاع التوصل إلى حقائق يقينية في مجال العلوم الفيزيائية والفلكية، واكتشاف أسرار الكون وقوانينه، فلماذا لا أكون أنا قادراً على فعل الشيء ذاته في المجالات الفلسفية والميتافيزيقية؟ والله لن أكون كانط، ولن أستحق اسم الفيلسوف إلا إذا جددت الفلسفة عن بكرة أبيها، مثلما فعل نيوتن مع الفيزياء الفلكية. وهكذا، أنقذ كانط الفلسفة الغربية من خطرين ماحقين كانا يهددانها: الأول هو خطر الارتياب والشكوكية العدمية، على طريقة الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم؛ والثاني هو خطر الدوغمائية الانغلاقية التعصبية المتحجرة، على طريقة وولف تلميذ لايبنتز. لقد اتخذ كانط خطاً وسطاً بين هذين الحدين المتطرفين. وهنا يكمن سبب نجاحه وانتصاره على العدمية والدوغمائية في آن معاً. لقد كانت الفلسفة في عصره قد وصلت إلى الباب المسدود، فأنقذها بضربة عصا سحرية أو عبقرية من مأزقها وانسداداتها. وهنا تكمن عظمة المفكرين الكبار في التاريخ؛ المفكر الكبير هو ذلك الشخص الذي يفك الانسداد التاريخي لأمة بأسرها، أو حتى للبشرية. ثم يقول لنا هذا الباحث إن كانط وضع الفلسفة على السكة الصحيحة، مثلما فعل كوبرنيكوس بالنسبة لعلم الفلك. لقد أحدث ثورة كوبرنيكية في مجال الفلسفة، و«نفد الأرنب بجلده» كما يقول المثل. نقول ذلك خصوصاً وأن الاستعصاء الفلسفي كان متفاقماً جداً، ووصل إلى الجدار المسدود، كما ذكرنا. وحده كانط استطاع فك الانسداد التاريخي، وإيجاد الحل المعجز للمشكلة الفلسفية المستعصية للعصر. وعلى أساس هذا المعيار بالذات تقاس عظمة المفكرين الكبار.
ولكن كان هناك مفكر آخر أثر على كانط، هو: جان جاك روسو. ولذلك لم يكن يحلف بعد الله إلا باسم شخصين، هما: نيوتن، وروسو. فالأول كشف له أسرار العالم المادي، والثاني كشف له أسرار العالم الروحي والأخلاقي. ولذلك فهو مدين لهما أبد الدهر، بل ولم يكن يضع على مكتبه للاستئناس في أثناء الكتابة والعمل إلا صورة جان جاك روسو. ويقال إنه لم يقطع مشواره اليومي الشهير، المحدد بالساعة والدقيقة، إلا عندما سمع عام 1762 بصدور كتاب جديد لروسو عن «إميل أو في التربية». عندئذ، ذهب إلى المكتبة مباشرة لكي يستفسر عنه، ويحجزوا له نسخة للاطلاع عليه فوراً. ولهذا السبب كرس له البروفسور رافائيل ايهرسام، الأستاذ في جامعة السوربون، مقالة خاصة بعنوان: «زلزال روسو»! بمعنى أن اكتشاف فكر روسو كان بمثابة الزلزال الذي عصف بكانط؛ يقول بالحرف الواحد: «إن روسو هو الذي أعادني إلى رشدي، ووضعني على الطريق الصحيح. ففي السابق، ما كنت أحترم إلا العلماء والفلاسفة والمثقفين والمتعلمين، ولكني الآن أصبحت أحترم كل إنسان في كرامته الإنسانية والأخلاقية». نفهم من كلام كانط أن كناس الشوارع قد يكون شخصاً طيباً وأخلاقياً أكثر من أستاذ جامعة حقير يحمل شهادة الدكتوراه. وبالتالي، فلا ينبغي أن نحتقر الناس البسطاء، من عمال وفلاحين وخدم، لأنهم غير متعلمين أو غير مثقفين؛ هذا خطأ فادح فاحش. ينبغي أن نحترمهم في كرامتهم الإنسانية، ولا ينبغي أن نحتقر الخادمة في البيت لأنها خادمة، وإنما ينبغي أن نعاملها كإنسان له كرامة. من هنا الطابع الأخلاقي لفلسفة كانط. فربما كان أكبر فيلسوف أخلاقي في التاريخ، بعد أرسطو وأفلاطون. ولذلك قال عبارته الشهيرة: «هناك شيئان يملآن القلب بالإعجاب والإجلال المتجددين المتزايدين باستمرار: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي المنقوش المرسخ في داخلي. وهذا يكفيني». هذه العبارة الشاعرية لفيلسوف أبعد ما يكون عن الشعر منقوشة على قبره حتى الآن.
وننتقل الآن إلى الباحث بيير فرنسوا مورو، الأستاذ في جامعة ليون، فماذا يقول عن كانط يا ترى؟ إنه يقول لنا ما يلي: لكي نفهم كانط ينبغي أن ندرك أن الأنوار الألمانية مختلفة جداً عن الأنوار الفرنسية. ففلاسفة الأنوار الفرنسية كانوا في الغالب معادين للدين الرسمي السائد. أما فلاسفة الأنوار الألمانية، فكانوا يحاولون جاهدين البرهنة على أن العقل إذا ما فُهم جيداً لا يتعارض مع الدين، بل إنه يمكن أن يتحالف مع الإيمان بغية التوصل إلى حقائق سماوية عليا. وعلى هذا النحو، تشكل في القرن الثامن عشر نوع من التوازن الآيديولوجي بين العقل والدين، وهو توازن يتحاشى في آن معاً اليمين المتطرف الديني الأصولي الذي يكره العقل والعقلانية، واليسار المتطرف الفلسفي الذي يكره كل شيء له علاقة بالدين والإيمان. ثم اندلعت مشكلة كبيرة نحو عام 1780 حول فكر سبينوزا والإلحاد. وانقسم المثقفون الألمان إلى قسمين: قسم مع سبينوزا، وقسم ضده. وطلبوا من كانط التدخل وحسم الموقف، ولكنه رفض أن ينضم إلى هذا الفريق أو ذاك. وإنما راح يطرح حلاً ثالثاً يتجاوز فيه هذه الإشكالية المستعصية: هل أنت مع العقل أم مع الدين؟ راح يقول ما معناه: للعقل مجاله، وللدين مجاله، ولا ينبغي الخلط بينهما. فالعقل يحق له أن يصول ويجول في كل ما يتعلق بالمعرفة الدنيوية التجريبية المحسوسة، ولكن لا يحق له أن يتجاوزها إلى ما وراءها، فما وراءها من اختصاص الدين. فلا يستطيع العقل مثلاً البرهنة على وجود عالم آخر بعد الموت؛ وحده الدين يستطيع ذلك. ولهذا السبب قال كانط عبارته الشهيرة: «لقد أوقفت العقل عند حده لكي أفسح المجال للإيمان».
والآن، سوف أنتقل إلى صاحبنا نيتشه وأفسد عليكم هذه المتعة والهناءة مع كانط. فأنا لا أستطيع أن أعيش من دون مشكلات. وصاحب المشكلات كلها هو أستاذنا نيتشه، الذي «لا يعجبه العجب، ولا الصيام في رجب». حتى الآن، كنا منسجمين مع البروفسور كانط، معجبين بعبقريته، ولا تشوب علاقتنا به شائبة. ولكن للأسف الشديد فإن هذا ليس موقف ذلك المشاغب الأكبر: فريدريك نيتشه. فعلى العكس، سوف يحاول تفكيك كانط، بل وتحطيم أسطورته. ومن يستطيع التملص أو التخلص من مخالب نيتشه؟ أولاً، ينبغي العلم بأن نيتشه ولد بعد موت كانط بأربعين سنة. وبالتالي فهو من أحفاده فلسفياً في ألمانيا. فلماذا يثور عليه يا ترى؟ لماذا يهاجمه على الجبهات كافة؟ لماذا يريد تحطيمه؟ لأن هيجانات نيتشه اللاعقلانية لا يمكن أن تتحمل رجاحة عقل كانط وتوازنه الشديد. ولكن هذا الجواب وحده لا يكفي. فالواقع أن نيتشه كان مفكراً عملاقاً أيضاً، يعرف كيف يمسك كانط من نقطة الضعف؛ كان بارعاً في المصارعة الفلسفية الحرة! وقد دفع بعضهم الثمن غالياً لأنه تورط مع نيتشه في مجادلة فكرية، أو بالأحرى لأن نيتشه هو الذي «تورط فيه» واعتدى عليه، إذا جاز التعبير. فمثلاً، المفكر المحترم ديفيد شتراوس مات بعد ثلاثة أشهر فقط من ظهور مقالة نيتشه الهجومية العنيفة ضده؛ لم يستطع تحملها فمات من شدة الهم والغم. ولذلك قال نيتشه عبارته المرعبة: «نعم، إني مجرم! وعلى يدي قطرات من الدماء... يكفي أن أكتب مقالة واحدة ضد أي شخص لكي يموت فوراً». أو بهذا المعنى... وهذا يعني مدى خطورة نيتشه الإرهابية، خصوصاً أن أسلوبه في الكتابة كان بركانياً متفجراً. إنه ينزل عليك كالصاعقة. عيب أصلاً أن تكتب بعد نيتشه! كل أدباء ألمانيا تعقدوا وارتعبوا وما عادوا يعرفون كيف يكتبون بعده. لقد استنفد كل الطاقات البيانية للغة الألمانية دفعة واحدة. وبالتالي، فإذا ما نزل فيك نزلة حقيقية، فإنه يهشمك تهشيماً، ويقضي عليك بالضربة القاضية: لا أكثر ولا أقل. والآن نطرح هذا السؤال: ما الذي يعيبه نيتشه على كانط؟ لماذا لا يعجبه بعد كل تلك الإنجازات الضخمة التي حققها، ليس فقط للفلسفة الألمانية وإنما للفكر البشري ككل؟ أليس كتاب «نقد العقل الخالص» أهم كتاب ظهر في تاريخ الفلسفة منذ عدة قرون، أو حتى منذ أفلاطون وأرسطو؟ عن هذه التساؤلات يجيب البروفسور غيوم تونينغ، أستاذ الفلسفة والثقافة العامة في أحد المعاهد الباريسية، بما يلي: إن نيتشه يعيب على كانط عدم راديكاليته في النقد الفلسفي للدين، فقد كان ينبغي عليه استئصال المسيحية كلياً من جذورها، لا مصالحتها مع العقل والتنوير. وبالتالي فهو ليس إلا شخص لاهوتي يختبئ خلف قناع الفلسفة، إنه «منافق جبان رعديد، خان القضية الفلسفية»، واستسلم في نهاية المطاف للدين والكهنة الذين هددوه وأرعبوه، في ظل الملك الأصولي المتزمت فريدريك غيوم الثاني.



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.