محمد اشتيه... أكاديمي يعوِّل عليه «الفتحاويون»

صحافي دخل عالم السياسة الفلسطينية من أوسع الأبواب

محمد اشتيه... أكاديمي يعوِّل عليه «الفتحاويون»
TT

محمد اشتيه... أكاديمي يعوِّل عليه «الفتحاويون»

محمد اشتيه... أكاديمي يعوِّل عليه «الفتحاويون»

لم يختر رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد محمد اشتيه الذهاب إلى مكتبه في أول يوم عمل رسمي سيراً على الأقدام حباً في ممارسة هذا النوع من الرياضة، بل أراد بذكائه المعهود إرسال رسالة رئيسية من خلال صورة واحدة فقط «هذا عهد جديد». ولم يخفِ اشتيه أنه يشكل هذه المرة حكومة غير تقليدية أقرب للناس. وليس سراً أن سلفه رامي الحمد الله كان مبالغاً في الإجراءات الأمنية... حراس كثيرون ومواكب تسابق الريح... واحتياطات لم يتخذها أسلافه، ضمن سياسة أشمل جعلته أبعد عن الناس الذين يودّ اشتيه أن يقربهم مرة أخرى. لقد اختار اشتيه أن يرسم صورة مختلفة، وهي صورة سرعان ما ضجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي لمتفاعلين «هللوا» لرئيس الوزراء «الزاهد»، في حين لم يرَ آخرون فيما فعله شيئاً استثنائياً يُشكر عليه لأنه أمر طبيعي. أما البقية الباقية فراحت تشكك أو تتدارس الصورة «يا ترى كم مشى؟ وأين كانت الحراسات؟ ومن أين وإلى أين وماذا يريد؟».
لقد نجح الدكتور محمد اشتيه، رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد، في إثارة نقاش مهم في أول دقيقة بدأ فيه يومه الأول في مقر الماصيون الراقي في رام الله، وعلى الأغلب، هذا ما أراده بالضبط. لكن الرجل نفسه هو أفضل من يتحدث عن نفسه.

حدس الصحافي
يعرف اشتيه أن أمامه مهمات كثيرة معقدة: إعادة غزة، الوحدة الوطنية، الوضع المالي الصعب، بناء المؤسسات، مواجهة السياسات الإسرائيلية، وأشياء أخرى كثيرة معقدة، لكنه كان ذكياً حين قال إنه لا يملك عصا سحرية. إلا أن مسألة واحدة ركز عليها اشتيه بقوله: «الحكومة جاءت لخدمة الناس، والذهاب إليهم أينما كانوا». وأضاف: «هذه حكومة الكل الفلسطيني، وستكون مفتوحة للجميع، وسيتم تشكيل البرنامج بعد الاستماع لأولويات المواطنين». وتابع: «سنحمل المسؤولية لكل من هو في موقع المسؤولية». ثم تابع بشكل يكشف عن طريقة تفكيره: «كل شيء ليس له لزوم وكل ما يؤذي مشاعر الناس لن يكون موجوداً، ولا نريد المبالغة في شيء... نريد أن ندير البلاد بأقل تكلفة وبأفضل نجاعة»، مشيراً إلى أنه منتبه لمساعي إسرائيل «لتوسيع الفجوة بين القيادة وشعبنا».
وبشكل يترجم ما يفكر به اشتيه، فإنه كتب على «فيسبوك» بعد اختيار الوزراء وأدائهم اليمين الدستورية: «أجدد تمنياتي عليكم، أخواتي وإخواني، تجنب نشر التهاني المدفوعة بالصحف والمواقع الإلكترونية وغيرها، للوزراء الجدد أو لي بمناسبة أداء اليمين القانونية، والاستعاضة عنها بالتبرع للمؤسسات التي تخدم المحتاجين». وأردف: «دعونا نعزّز ثقافة يوقن فيها المسؤول أن واجبه يحتّم عليه خدمة المواطن، وتلمّس احتياجاته، والبقاء قريباً من نبض الشارع». ثم استطرد: «أحد أهداف الحكومة، هو إعادة الثقة بين الحكومة والمواطنين»، داعياً إلى تعزيز صمود الفلسطينيين في ظل الأزمات السياسية، والاقتصادية، والصحية، والتعليمية التي ستواجهها حكومته. إذن، جاء الرجل كي يكون قريباً من الناس، وهي مهمة يعرف أنها ستكون الأسهل من بين كل مهمات الحكومة الأخرى، في بلد منقسم ويعيش تحت الاحتلال. ربما كان هذا حدس الصحافي الذي سبق السياسي، فقد عمل اشتيه في مهنة المتاعب قبل أن يلج إلى مهنة فن الممكن.

بطاقة هوية
وُلد محمد إبراهيم اشتيه في قرية تل القريبة من مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية، عام 1958. وأنهى دراسته في القرية الصغيرة، ثم انتقل إلى جامعة بيرزيت ليحصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد وإدارة الأعمال عام 1976. فوراً انتقل بعدها إلى بريطانيا، حيث حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في دراسات التنمية الاقتصادية من جامعة ساسكس، قبل أن يعود إلى الأراضي الفلسطينية في أواخر عام 1980. عمل اشتيه بعد عودته من بريطانيا محرراً في جريدة «الشعب» التي كانت تصدر في القدس وتموّلها منظمة التحرير الفلسطينية، ثم صار أستاذاً وعميداً في جامعة بيرزيت.
في بداية التسعينات شارك اشتيه في عضوية وفد منظمة التحرير إلى مفاوضات مدريد ومباحثات واشنطن والمفاوضات الاقتصادية مع إسرائيل. بعد أعوام طويلة تقلّد مناصب وزارية عدة، وترأس «المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار» (بكدار)، كما شغل رئاسة مجلس أمناء الجامعة العربية الأميركية، وعضوية مجالس أمناء جامعات القدس والنجاح والاستقلال.
كان محمد اشتيه أحد مؤسسي «المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار» (بكدار) عام 1994، الذي يعدّ المؤسسة الأولى على طريق تشكيل السياسات التنموية في فلسطين ووضع البناء الأساسي الذي تستطيع السلطة الفلسطينية من خلاله القيام بمسؤولياتها نحو دولة فلسطين المستقبلية. ثم تولى مهمة الإدارة العامة لهذه المؤسسة في بداية عام 1996 حين عيّنه الرئيس الراحل ياسر عرفات ليكون المدير العام، ولاحقاً أصبح رئيساً لـ«بكدار».
وفي مارس (آذار) 2002 شهد اشتيه إنشاء «نادي موناكو» الذي يرأسه الأمير رينيه، وأصبح عضواً فيه. وهذا النادي ذو الطابع غير الرسمي يضم أفراداً وشخصيات لها وزن سياسي في العالم. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2002 نال عضوية مؤسسة الإبداع العالمي World Innovation Foundation التي تركز على التعاون العالمي من خلال التعاون الاقتصادي العلمي، ومعظم أعضاء هذه المؤسسة من الحائزين جوائز نوبل.

مواقع سياسية
انتُخب محمد اشتيه عضواً في اللجنة المركزية لحركة «فتح» في عام 2009، وشارك في إطلاق مفاوضات الحل النهائي في واشنطن عام 2010، وقبل ذلك عام 2005 شغل منصب وزير للأشغال العامة والإسكان وبقي حتى 2009. وكان السكرتير العام للجنة الانتخابات الفلسطينية 1996 - 2004. وفي 2016 أُعيد انتخابه مرة ثانية في اللجنة المركزية للحركة. كذلك أسّس «المعهد الوطني لتكنولوجيا المعلومات» و«المعهد الوطني للإدارة» لتدريب كوادر السلطة وتحسين الأداء والمساهمة في عملية الإصلاح. كما شغل منصب محافظ البنك الإسلامي للتنمية عن فلسطين 2006.
ويصعُب حصر المواقع التي شغلها اشتيه، لكن من بينها: رئيس الوفد الفلسطيني للمفاوضات المتعددة حول التعاون الاقتصادي الإقليمي (التجارة، المالية، البنية التحتية، والسياحة)، ورئيس لجنة السياحة الإقليمية التي انبثق عنها وكالة شرق المتوسط للسياحة والسفر، رئيس المركز الفلسطيني للدراسات الإقليمية في البيرة - رام الله، وعضو لجنة توجيهية للجان الفنية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس 1993 – 2004، وعميد شؤون الطلبة في جامعة بيرزيت 1992 – 1994، ومؤسس وعضو في مجلس الإسكان الفلسطيني، وعضو في مجالس استشارية ووزارية ولجان ومجالس أمناء وصناديق ومناصب أخرى كثيرة.
وعلى غرار المواقع التي شغلها اشتيه حضر الكثير من المؤتمرات، وله مؤلفات عدّة، لكنها متخصّصة في القرى والجغرافيا والاقتصاد الفلسطيني. كما أنه حاصل على وسام الاستحقاق الوطني برتبة «فارس» مقدّم من الرئيس الفرنسي جاك شيراك في 31 مايو (أيار) 1997.

آراء حوله
وحول شخصية اشتيه، قال منير الجاغوب، رئيس المكتب الإعلامي لحركة «فتح»، باختصار، «إنه منا وفينا». وتابع: «أهم ما يميزه أنه لا يتغير. جاء من أسرة فقيرة وبقي يحمل همّ الفلسطينيين كلهم... رجل مقبول حتى لدى خصوم (فتح) السياسيين». وحقاً، لم يعرف عن اشتيه أنه دخل سابقاً في مناكفات مع فصائل فلسطينية. وحتى عندما رفضت فصائل فلسطينية المشاركة في حكومته، قال إنه سيسمع منهم لماذا، معتبراً أن هذا حقهم.
هذا التواضع هو الذي جعل الروائي بهاء رحّال يعلق على تسلم اشتيه منصبه بالقول: «جميل أن نكون مع رئيس وزراء جريء ومختلف، ولا تغريه طول المواكب وعرضها والبساط الأحمر والمرافقات، وغيرها». أما عضو المجلس الثوري لحركة «فتح» محمد اللحام فشبّه اشتيه بـ«فدائي»، موضحاً أنه «رغم معرفتي، والكثير من أبناء الطريق، بإمكاناتك وقدراتك ومهاراتك التي تؤهلك للقيادة وسط جموع المطبّات والصعاب والعراقيل، فإن قبولك بالتكليف هو فدائية كبيرة كما وصفها أخونا أبو جهاد العالول». في المقابل، علق إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» التي هاجمت الحكومة بشدة، بأنه كان يتمنى ألا يضع اشتيه نفسه في هذا الموقع.

تناقض مع غرينبلات
لكن جايسون غرينبلات، مبعوث الرئيس الأميركي لعملية السلام، دخل فوراً في مناكفة فورية مع اشتيه. إذ كتب غرينبلات عبر حسابه على موقع «تويتر» متسائلاً: «لماذا يأمل رئيس الوزراء الجديد للسلطة الفلسطينية أن تولد خطتنا ميتة، ولماذا يريد للسلام أن يفشل؟». وأردف: «من خلال العمل معنا، ربما يحدث شيء رائع للفلسطينيين... لقد قلنا مراراً وتكراراً أن هذا الخطة لن تكون سوى خطة اقتصادية». وتابع غرينبلات: «رئيس الوزراء اشتيه بدأ عمله الجديد بإدانة خطة لم يرها واعتبرها غير عادلة للفلسطينيين»، على حد تعبيره. ثم وجّه كلامه إلى اشتيه قائلاً: «عليك الاطلاع عليها أولاً قبل أن ترفضها. تستطيع السلطة الفلسطينية أن تواصل دفعنا بعيداً، لكن ذلك لن يحسّن شيئاً في حياة الفلسطينيين». وتجدر الإشارة إلى أن اشتيه كان قد وصف خطة السلام الأميركية المرتقبة بأنها «ولدت ميتة لأن إسرائيل تشن بالتعاون مع الولايات المتحدة حرباً اقتصادية على الفلسطينيين... وأن الفلسطينيين لن يكتفوا بأقل من دولة ذات سيادة». واستطرد: «في أعقاب كل التحركات الأميركية لصالح إسرائيل، خصوصاً نقل السفارة إلى القدس، لم يعد هناك شيء للتفاوض عليه». وتابع: «كل اقتراح يتجاهل المطالب الأساسية للفلسطينيين سيقابل بالرفض من قبل المجتمع الدولي... أين ستكون لنا دولة فلسطينية؟ نحن غير معنيين بكيان، نحن نريد دولة ذات سيادة».
وفي تطرّقه إلى التقارير بشأن خطة السلام الأميركية بأنها ترتكز على مبادرات اقتصادية للفلسطينيين، قال اشتيه: «الفلسطينيون لا يرغبون في سلام اقتصادي. نحن نريد إنهاء الاحتلال. لا يمكن العيش تحت الاحتلال». وأضاف أنه بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترمب «لا يوجد شركاء..». وأردف رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد: إن «إسرائيل تشارك في حرب اقتصادية أعلنتها الولايات المتحدة علينا، النظام برمته يهدف إلى دفعنا للانصياع والموافقة على اتفاق سلام لا يتقبله العقل. الحديث يدور عن ابتزاز اقتصادي نحن نرفضه».
مواقف اشتيه هذه هي مواقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يعتبر اشتيه واحداً من المقربين له حتى قبل تسلمه منصبه الجديد. ولقد وقع الاختيار على اشتيه، خصيصاً؛ لأنه «فتحاوي» أكاديمي اقتصادي سياسي، وهادئ جداً، ومنظم كذلك، وخبير مؤسسات، وأهم من ذلك أنه مقرّب للغاية من عباس، وعليه يعوّل «الفتحاويون» باستعادة الدور في قيادة مؤسسات الدولة.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.