ادعى كاميل كوديولا الباحث في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، أن الخطوة الأهم في حياة الإنسان تبدأ عندما يخترق الحيوان المنوي (الحيمن) جدار البويضة المكون من السكريات. ولا يستطيع أي كائن آخر من الالتحام بالبويضة سوى الحيمن لامتلاكه الأدوات الكيميائية الصحيحة التي تمكنه من اختراق جدار البويضة، ثم تكوين الجنين.
- «المصافحة الجزيئية»
وقد سمى كوديولا هذه العملية: «المصافحة الجزيئية» Molecular Handshake. وهي ليست الوحيدة التي تحدث عند تكوين الجنين بل إن كل خلية من خلايا جسم الإنسان لها غلاف من السكر فريد في تكوينه. ولأجل أن يلتحم أي شيء بالخلية لا بد له أن يميز السكر في جدارها وهذا ما يحدث فعلا عندما تدخل البكتريا أو الفيروسات داخل الجسم وتسبب المرض، وكذلك عنما تتسلم الخلايا الجذعية الأوامر في تحديد النسيج الذي ستنمو فيه.
ويقول بروس تيربل الباحث في الكيمياء من جامعة ليدز في المملكة المتحدة: لو تصورت أنك خلية بكتريا وتحاول الوصول إلى إحدى خلايا جسم الإنسان فكأنك نازل بالمظلة في غابة من الجزيئات الكيميائية على سطحها. وأول شيء ستواجهه هي الفروع الكثيرة من السكريات المرتبطة بغشاء الخلية بواسطة جذوع البروتينات. أو ما يشبه مظلة من الأغصان وعليك التمسك بها لكي تصل إلى الأرض.
تدعى هذه البروتينات باللكتينات lectins ولها فجوات داخلية تستقر فيها السكريات المحددة بشكل مريح وقد عرف العلماء هذه البروتينات منذ أكثر من مائة سنة والآن بدأوا بإنتاج أنواع صناعية جديدة منها لمواجهة داء السكري.
وفي بداية هذه الألفية بدأ العلماء بتشخيص السكريات التي تزين بعض أنواع الخلايا. وتحديدا وفي عام 2002 جاءت تين فيزي الباحثة في جامعة إمبريال كوليدج في لندن بفكرة تثبيت المئات من جزيئات السكر على طبق ومن ثم غسلها بجزيئات اللكتين والجزيئات الأخرى وملاحظة أي منها سوف يرتبط أو يلتحم.
- «شفرة السكر»
وكان العلماء قد نجحوا في إنجاز أطلس لبعض أنواع الخلايا مثل الخلايا المناعية والخلايا الجلدية على أساس الشفرة الوراثية، وهم الآن يسعون لإنجاز «أطلس السكر». ولسنوات عديدة كنا نعرف أن السكريات ذات أهمية أساسية في عالمنا الحيوي كما هو الحال مع الحمض النووي دي.إن.إيه DNA، والبروتينات. وحديثا جدا بدأ العلماء التركيز على السكر الموجود على سطح الخلايا ودوره في الارتباط مع عوامل النمو أو العوامل المسببة للأمراض مثل البكتريا والفيروسات أو عوامل أخرى ذات أهمية طبية.
وتعتبر شفرة السكر «sugar code» أكثر تطورا حتى من الشفرة الوراثية للحمض النووي «دي.إن.إيه» حيث إن الأخير يتألف من أربع قواعد نتروجينية (أدينينA، ثيمين T، سايتوسين C، غوانين G) فقط مرتبطة فيما بينها، بينما هناك أكثر من مائة نوع مختلف من السكر يمكن أن يرتبط مع بعضها بطرق عديدة وعند ذلك سوف تتكون سلاسل بأشكال مختلفة يستفاد منها كأدلة تشخيصية.
- مكافحة داء السكري
تعد السكريات خطرة لأكثر من 422 مليون إنسان مصاب بداء السكري حول العالم الذي يؤدي إلى زيادة في سكر الغلوكوز في الدم وبالتالي يؤدي إلى مخاطر صحية عديدة على مدى الحياة. وقد دأب العلماء لفترة طويلة على إنتاج مادة بديلة للأنسولين وهو الهرمون الذي ينظم التمثيل الغذائي للسكر.
وكانت أكثر التحديات تتمثل في تصميم جزيئة متسلمة ذات فجوات داخلها تستطيع تمييز الغلوكوز دون غيره من السكريات. وقد فاز العالم أنتوني ديفز من جامعة بريستول في المملكة المتحدة بالتحدي وذلك بتصنيعه لمستقبل لجزيئة الغلوكوز وبعد سنوات عديدة من العمل الشاق وتحديدا في عام 2012 استطاع فريقه من بناء مستقبل يرتبط بجزيئة الغلوكوز بصورة انتقائية وبشكل لافت. وعند اختبارها في الدم ارتبطت بها المئات من أجزاء الحمض النووي دي.إن.إيه، مما جعلها غير صالحة. بعد ذلك قام ديفز بتطوير أبحاثه باستخدام تصاميم الكومبيوتر حتى توصل إلى واحد من المستقبلات يرتبط به الغلوكوز فقط ولا يرتبط به أي سكر آخر. وقد سجل براءة اختراع، ويجري تطويرات على أمل أن يكون الأنسولين المحضر قادرا على الارتباط بالغلوكوز دون غيره من السكريات في الدم.
- «أطلس السكر»
كان مصطلح غلايكوم glycome يستخدم، ولا يزال، للتعرف على السكريات الموجودة على سطح الخلايا في جسم الإنسان ترتبط بها فيروسات نقص المناعة المكتسب HIV وفيروسات أنفلونزا الخنازيرH1N1 أثناء الإصابة بها.
ومن المعروف أن أكثر من نصف البروتينات في جسم الإنسان لها زوائد سكرية لكن لا يعرف شكلها بالتحديد لذلك بدأ مشروع «غلايكوم البشر» human glycome في نهاية عام 2018 بدعم من العالم الكيميائي ريتشارد كامنغس الباحث في كلية الطب في جامعة هارفارد الأميركية وغوردن لوك من جامعة زغرب في كرواتيا، الهدف منه تحديد تسلسل جميع السكريات في جسم الإنسان. يختلف الغلايكوم من عضو إلى آخر ويمكن تشبيهه بأطلس السكريات في الجسم وبناء عليه يمكن تصفح الأطلس لترى فصلا عن الدماغ وآخر عن الطحال وهكذا. وهناك بعض الفصول من الأطلس على وشك الانتهاء فعلى سبيل المثال أصبحت معظم أنواع السكريات في حليب الأم معروفة لأنها حرة وغير مرتبطة لذلك يسهل التعرف عليها، وهي خطوة ساعدت على تركيب حليب الأطفال. وعلى هذا الأساس يؤكد كيمنغ على أن رسم خريطة السكريات أمر غاية في الصعوبة إلا أنه لا بد من العمل على تحديدها.
وكان بيتر سبيرغر وهو الآن مدير معهد ماكس بلانك لأبحاث الغرويات في بوتسدام في ألمانيا بابتكار جهاز سمي غلايكونير Glyconeer يقوم بربط السكريات مع بعضها حسب رغبة المستخدم. وفي النهاية أي شخص يرغب في استخدام هذا الجهاز يمكنه أن يكتب رموز السكريات وهي ذات فائدة كبيرة في إنتاج اللقاحات حيث إن معرفة الغلايكانات التي تغلف الميكروبات المسببة للأمراض هي بداية جيدة لإنتاج اللقاحات حيث إن بعضها أساسي للجهاز المناعي في تحديد تلك الغلايكانات وقتل الميكروبات. وتحتوي بعض لقاحات الأنفلونزا والتهاب السحايا على مركبات سكرية ويمكن الاستفادة من هذه التقنية في تطوير لقاحات لأمراض أخرى مثل الملاريا.
- «خريطة شفرة السكر» تبشر بعلاجات واعدة
> يعكف العلماء في الوقت الحاضر بمساعدة «خريطة شفرة السكر» وتطويراتها، للاستفادة منها طبيا في مجالات أخرى فمثلا يمكن أن تتغير السكريات في الخلايا السرطانية وعندها يصعب تمييزها عن سواها من قبل الأدوية المستخدمة في العلاج. وهذا يفسر عدم استجابة بعض النساء لعلاج سرطان الثدي بواسطة عقار الهرسبتين كما يقول العلماء.
ويدعي وينفريد رومر من جامعة فريغبرغ في ألمانيا أنه لو كان باستطاعته تثبيط تفاعلات اللكتين بالسكر وإيقاف الميكروبات من الوصول إلى خلايا جسم الإنسان، فسوف يكون هناك بديل للمضادات الحيوية حيث قام ومساعدوه بالبحث عن مثبطات اللكتين في بكتريا تسمى Pseudomonas aeruginosa وهي من البكتريا المسببة للإصابات الخطيرة في المستشفيات، وتكون مقاومة للعديد من المضادات الحيوية. وقد حصلوا على نتائج واعدة في تثبيط نحو 90 في المائة من حالات دخول البكتريا إلى خلايا الجسم. وإضافة إلى ذلك فإن أكثر الأمور إثارة في العلاج بالخلايا الجذعية هو ما يتعلق بشفرة السكر، إذ من المعروف أن الخلايا الجذعية يمكن أن تنمو إلى أي نوع من الأنسجة لكن في كثير من الحالات قد تنحرف تلك الخلايا عن مسارها وهنا تكمن الخطورة، لذلك استخدم العلماء بروتينات معينة أطلقوا عليها اسم عوامل النمو تقوم بتوجيه الخلايا نحو المسار الصحيح.
إلا أن السكر الموجود على سطح الخلية في جسم الإنسان يجب أن يتوافق مع عوامل النمو لكي تكون فعالة وهنا تكمن أهمية معرفة شفرة السكر على سطح الخلية. وتتح أبحاث حل شفرة السكريات على سطح خلايا جسم الإنسان آفاقا حديثة في مجالات العلاج، حيث إن كل عضو في الجسم يمتلك تشكيلة من السكريات، والمهمة كبيرة جدا لعمل خريطة لهذه الاختلافات مثل عمل أطلس لسكريات الخلايا.
الحياة حلوة... مليئة بالسكريات
أبحاث عالمية لوضع «خريطة شفرة السكر» في الجسم لمكافحة الأمراض
الحياة حلوة... مليئة بالسكريات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة