ثقافة الفاشية

لم تستند إلى قاعدة فلسفية مثل باقي الآيديولوجيات

موسوليني
موسوليني
TT

ثقافة الفاشية

موسوليني
موسوليني

لقد شاءت الأقدار أن أزور حجرة المكتب التي احتجز فيها الزعيم الإيطالي الفاشي «بينيتو موسوليني» في قصر «سافوي»، بعد احتلال الحلفاء لإيطاليا في الحرب العالمية الثانية. والواقع أن الرجل كان يجسد إحدى الآيديولوجيات السياسية المهمة في بعض الأقطار الأوروبية خلال مرحلة ما بين الحربين العالميتين، التي كانت مركزها إيطاليا بعد اعتلاء «موسوليني» سدة الحكم فيها، دون أن تكون له القوة السياسية الحقيقية، اللهم إلا من خلال عصاباته المعروفة بـ«القمصان السوداء» التي استطاعت ضمان الحكم له بسبب تخاذل الملك «فيكتور عمانويل» عن التصدي لهم بقوة الجيش، كما كان يجب، فكانت النهاية التجسيد السياسي الأول للفاشية في أوروبا في 1922.
والواقع أن كثيرين خلطوا بين «الفاشية» و«الاشتراكية القومية»، المعروفة «بالنازية»، في ألمانيا، بقيادة «هتلر»، سواء عن عمد أو دون قصد، لانحطاط الآيديولوجيتين، وحجم الدمار الذي ألحقتاه بأوروبا. فعلى الرغم من اتفاق هاتين العقيدتين السياسيتين في بعض مظاهر سوء ممارسة السلطة، ومفهومهما للدولة، فإن جذورهما الفكرية اختلفتا بشكل بيَّن، ولعل أفضل تشبيه للفاشية، مقارنة بالآيديولوجيات التي سادت العالم الفكري الأوروبي في هذه المرحلة، كان أن «الفاشية، على عكس الشيوعية، نمت كالفطريات»، أي أنها كانت عشوائية الظهور، مشردة الفكر، فلم تستند إلى قاعدة فلسفية مثل باقي الآيديولوجيات، بما في ذلك «النازية»، فالليبرالية جذورها الحديثة في فكر «جون لوك»، والشمولية مركز تطبيقاتها «لروسو»، والاشتراكية مبعثها في فكر «ماركس» بتطبيقات «هيجلية»، ولكن الفكر الفاشي يفتقر لمثل هذه الجذور الفكرية، فقد اعتمد على عدد من المفاهيم السياسية الرنانة لتعبئة الشعب، في ظل ظروف اقتصادية وسياسية صعبة للغاية، فكانت قوة الدفع الأساسية مرتكزة على المفهوم العاطفي «للدولة»، مجسداً في نوع من القومية، فالدولة في الفكر الفاشي تمثل القيمة الأخلاقية والأدبية والقومية الجماعية العليا للمجتمع في حد ذاتها، فهي تعلو على المصالح الفردية، ويجب أن تكون أساس كل شيء. وكما قال «جنتيلي» أهم مُنظريها: «كل شيء لصالح الدولة، ولا شيء ضد الدولة، ولا شيء خارج نطاق الدولة».
لقد وضع هذا الفكر القاعدة التاريخية التي بُنيت عليها الفاشية الإيطالية، وبالتالي لم يكن من المستغرب على الإطلاق أن تكون الجذور القومية هي الدولة الرومانية، هذا الحنين والحلم الذي ربط كثيرين من العامة والساسة في إيطاليا منذ سقوطها في القرن الخامس، بمن فيهم «ميكيافيلي» الذي ألف كتابه الشهير «الأمير»، بهدف استعادة رونق الدولة الرومانية في إيطاليا، وإعادة تجسيدها، وهو ما يتطلب بطبيعة الحال التفاف الشعب حول الواقع المادي التاريخي المؤدي للفكر القومي، بما استبعدوا معه أي آيديولوجيات أخرى، وعلى رأسها مفهوم القومية المسيحية، وهو ما يبرر الموقف المتشدد الذي تبنته الفاشية تجاه دور المسيحية في السياسة الإيطالية، أو أي أديان أخرى.
والثابت فكرياً أن مفهوم الدولة تم تناوله في القرون التي سبقت تجسيد التجربة الفاشية الإيطالية، ولكنه يتضح من القراءة المتعمقة، سواء للمسيرة الفكرية أو التطبيقية للفاشية، أن هناك خلطاً فكرياً وتطبيقياً في مفهوم «الدولة» الذي تحول تدريجياً نحو مفهوم الحكومة أو السلطة المطلقة، وليس الكيان السياسي فحسب، وهو ما لم يختلف كثيراً عن مقولة لويس الرابع عشر «أنا الدولة، والدولة أنا»، ولكن فكرهم هنا صار أكثر شمولية وتنظيماً من الحكم الأوطوقراطي، خصوصاً بعدما رفضت الفاشية كل التفسيرات المختلفة للتطور التاريخي، سواء المرتبطة بصراع الطبقات أو الليبرالية المستندة إلى الملكية الخاصة والحرية، فقد رفضت تماماً الإذعان للفكر المادي لتبرير التطور البشري، وكما قال «جنتيلي» فإن «المادية تنزل بالفرد لمرتبة الحيوان، فيكون هدفه مادياً مثله»، وفي تطرفهم السياسي لتبرير السلطوية المطلقة أكدوا على أن «الأمة لا تخلق الدولة، ولكن الدولة هي التي تخلق الأمة، كما تخلق الوحدة القيمية بين أفرادها»، وقد تم صياغة ذلك في ميثاق العمل الفاشي، الذي نص على أن «غايات الأمة الإيطالية تعلو على الغايات الفردية المكونة لها»، وبالتالي صارت الدولة مطلقة في وجودها، غير مقيدة في ممارساتها، وهو ما سمح للحكومة بأن تحول الدولة إلى الحكم الفيصل في كل شيء، ومصدر السلطة والسياسة، إضافة إلى وضع يدها على النشاط الاقتصادي، وقد استتبع ذلك بطبيعة الحال التوجه نحو تبرير استخدام القوة للتوسع الاستعماري في أفريقيا، وقد برر الفاشيون اللجوء للحرب باعتبارها أمراً طبيعياً وممارسة أخلاقية قويمة، ما دام أنها تصب في صالح الدولة وقوتها، وهو ما قدم التبرير الممنهج للسلطة المطلقة للحكومة في عصر «موسوليني»، على أسس ديماغوجية أكثر منها فلسفية أو فكرية، فالفاشية في حقيقة الأمر لم تستند إلى عمق فكري مبني على قاعدة فلسفية واضحة المعالم، فهي يتيمة الفكر عاقرة المد، وليست إلا تطرفاً سلطوياً في رداء وطني.
حقيقة الأمر أنني عدت لقراءة مراجع الفلسفة السياسية لكتابة هذا المقال بهدف آخر، وهو التعامل مع مصطلح جديد شائع هو «الفاشية الإسلامية»، فإذا بي أُرجئ الأمر للخوض في الجذور الفلسفية للثقافة الفاشية، التي لم أجدها، ومن بعدها النازية، حتى يمكن شرح أصول هذا المصطلح الجديد الذي لا يقل أهمية عند معالجة الكوارث الفكرية التي أبلى الإنسان بها نفسه ومجتمعه على مر الزمن، فتعود إلينا هذه المنطلقات الفكرية القاتمة في ثياب جديدة لا تقل بغاضة وقبحاً، كما سنرى.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!