«الهروب إلى الأقاليم» في العراق يعكس خللاً في تطبيق الدستور

TT

«الهروب إلى الأقاليم» في العراق يعكس خللاً في تطبيق الدستور

لم تكد تنتهي الضجة التي أثارتها الحكومة المحلية في البصرة، مدعومة بحراك جماهيري نحو جعل المحافظة إقليماً، حتى أعلنت محافظة ذي قار القريبة منها نيتها التحول إلى إقليم. وأعلن عبد الأمير سالم، عضو مجلس محافظة ذي قار (350 كيلومتراً جنوب بغداد)، عن تقديمه طلباً رسمياً لتحويل ذي قار إلى إقليم. وقال سالم في تصريح، إن «الطلب الذي تقدمت به جاء وفقاً للأطر القانونية والدستورية، والمضي بجمع التواقيع من أجل استيفاء الشروط»، مبيناً أن «حال ذي قار كحال المحافظات الجنوبية الأخرى التي تعاني التهميش وعدم الاهتمام من قبل الحكومة الاتحادية». وأضاف أنّ «المحافظة قد تحمّلت طيلة 15 عاماً مضت، أعباء الحيف والظلم وعدم الإنصاف من خلال الموازنات الاتحادية، في حين يتمتع إقليم كردستان بجميع مستحقاته»، مشيراً إلى أنّ «تجربة إقليم كردستان أثبتت نجاحاً في الحصول على المستحقات».
أما محافظ ذي قار يحيى الناصري فقد أكد في تصريح لـ «الشرق الأوسط» أن «موضوع الإقليم لم يطرح بعد على المستوى الرسمي في محافظة ذي قار أو الاندماج مع محافظات أخرى»، مبينا أن «الأقاليم حق دستوري وهو مطروح بالعراق، لكن في الوقت الحاضر الظروف لا تزال غير مناسبة للتحول إلى الأقاليم»، مشيرا إلى أن «منح المزيد من الصلاحيات للمحافظات ومنها ذي قار هو الحل الأفضل في المرحلة الراهنة».
ويأتي هذا الطلب بعد نحو أسبوع من تصويت مجلس محافظة البصرة، بالأغلبية، خلال جلسة استثنائية عقدها في الأول من الشهر الحالي، على المضي في إجراءات تحويل المحافظة إلى إقليم.
يذكر أن مجلس محافظة صلاح الدين (180 كيلومتراً شمال بغداد) كان قد طلب عام 2012 تحويلها إلى إقليم، غير أن الحكومة المركزية على عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي رفضت الطلب، بدعوى أنه قد يفتح الباب أمام تقسيم العراق.
ورغم أن البصرة ترفع لواء الأقاليم منذ عام 2003 وحتى اليوم؛ لكن مطالباتها غالباً ما تصطدم بعوائق سياسية وأخرى إجرائية. وطبقاً لما يقوله الخبير القانوني أحمد العبادي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، رداً على سؤال بشأن الأسباب التي تحول دون إقامة أقاليم في العراق ما عدا إقليم كردستان، رغم تكريس الدستور العراقي فصلاً كاملاً للأقاليم، فإن «الخلل ليس دستورياً ولا قانونياً؛ بل الخلل سياسي؛ حيث إن هناك إرادة سياسية لا تزال تحول دون تنفيذ المواد الدستورية الخاصة بالأقاليم»، مبيناً أن «هناك ربما إدراك من قبل القوى السياسية أن إقامة الأقاليم في هذا الوقت يمكن أن تفتح الباب أمام مطالبات أخرى تتعدى حدود الأقاليم». وأضاف العبادي أن «الدستور العراقي في مادته 118 أقر الفيدرالية، وحدد آليات ذلك من خلال قانون يشرعه البرلمان، وهذا ما حصل بالفعل». وكشف العبادي أن «هناك مشكلة قانونية تتمثل بعدم وجود غطاء دستوري لمجالس المحافظات الحالية، التي تطالب بإقامة الأقاليم، كون مدتها انتهت، وقد تم التمديد لها، وهو مخالف للدستور».
وبشأن ما إذا كانت الدعوات الخاصة بالأقاليم مرتبطة بما حققه إقليم كردستان من نجاح، بسبب عدم هيمنة السلطة المركزية عليه، يقول العبادي، إن «إقليم كردستان له وضع خاص بموجب الدستور، وقد حددت ذلك المادة 117، وبالتالي فإن أي أحد يتصور أنه يمكن أن يحول محافظة أو أكثر إلى إقليم لكي تصبح مثل إقليم كردستان، هو واهم».
من جهته يرى شوان داودي، عضو البرلمان العراقي السابق عن الاتحاد الوطني الكردستاني، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «العراق الآن منقسم بين المكونات والأعراق والأحزاب، وبالتالي فإنه ليس باستطاعة الدولة بنظامها السياسي الحالي أن تسيطر على الجميع، أو تكون حكماً عادلاً بين الجميع». وأضاف داودي أن «العراق لم يتمكن من أن يقيم نظاماً فيدرالياً بإقليم واحد (إقليم كردستان) مع حكومة مركزية ذات أفق شمولي». وأوضح أن «مصداق ذلك ما نلاحظه على صعيد المحافظات العراقية، بينما الأمر يبدو مختلفاً على صعيد محافظات إقليم كردستان، فمع ما تعانيه من إخفاقات هي الأخرى؛ لكنها أحسن من مثيلاتها في محافظات الوسط والجنوب».
من جهته، أكد عضو البرلمان العراقي عن محافظة الأنبار عبد الله الخربيط، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «السبب الرئيس في اللجوء إلى الأقاليم هو إدراك كثير من القادة السياسيين أن المشكلة هي أكبر من الفساد؛ بل المشكلة هي أن النظام فاشل بسبب البيروقراطية أو التوظيف الزائد؛ حيث إن البنك الدولي يشخص أن 75 في المائة من أموال العراق تهدر بالإدارة، و25 في المائة تسرق بسبب الفساد، وبالتالي فإن الفشل الإداري يلاحق المنظومة السياسية، وهو ما يعني أن تحويل المحافظات إلى أقاليم في ظل المنظومة السياسية والإدارية نفسها لن يغير من واقع الحال». وأضاف الخربيط أن «الإقليم سواء كان في البصرة أو ذي قار أو أي محافظة عراقية أخرى، يمكن أن يكون إقليماً اقتصادياً إدارياً فقط، ولا علاقة له بباقي السلطات السيادية، مثل القضاء أو النفط أو الغاز أو الجيش أو الأجهزة الأمنية».



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.