«داعش»... ما بعد السقوط

حول «الموجة الرابعة» من الإرهاب

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
TT

«داعش»... ما بعد السقوط

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)

لا يزال من الصعب إدراك سبب استمرارية عدد من التنظيمات الإرهابية، رغم اختفاء مسببات نشوئها وبداياتها.
وأقرب مثال على ذلك ما يحدث مع تنظيم «داعش». فرغم أنه يتشظى، فإنه تمرّس في التحور، بدءاً من إعلانه إنشاء خلافة إسلامية تمتد ما بين العراق وسوريا، وانتقالاً إلى التمدد في بقاع مختلفة من العالم كميليشيا متشرذمة، ومن ثم التحول السريع إلى ذئاب منفردة وهجمات إرهابية مصغرة؛ كل ذلك يفضي إلى التوغل في مسببات استمرارية بعض التنظيمات وانحسار الأخرى.

ما يطيل من صمود تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش» يتمثل في استراتيجياتهم المرتكزة بشكلٍ أساسي على فكرة «عولمة الصراع» و«عالمية المواجهة» مع الغرب، والنظم العربية التابعة له. وفي كتاب «الجماعات القتالية المعاصرة: الأفكار، الرموز، المرجعيات والمرتكزات»، للكاتب محمد توفيق، يتطرق المؤلف إلى أهمية هذا المنطلق لديمومة هذه التنظيمات، ويبرز توجههم هذا من خلال نسق الخطاب التعبوي لديهم، والعقد الخطابية التي - حسب فوكو - تعتمد في خطاب التجنيد والحشد والمواجهة على أدبيات تدلل على ذلك بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ. الأمر الذي يوظف لجعل الحركة الجهادية ومسرح عملياته خارج حدود بلدان معينة، وأشارت مضامين وتطبيقات كتاب «إدارة التوحش»، لأبي بكر ناجي، لنمط المواجهة العالمية الشاملة الذي تبناه تنظيم «القاعدة» وطوره «داعش» بوحشية أكبر. وتلك من الأمور التي يعتمد عليها التنظيم، بارتكاز على اللامركزية في نقل المعركة إلى خارج الأراضي السورية، وبشكل أكثر تأثيراً مما كانت عليه «القاعدة» في السابق. لقد حازت ديموغرافيا تنظيم «داعش» على ما يمثل نقطة تمييزية عن التنظيمات الأخرى، وذلك من خلال فكرة «النكاية» واسعة الأبعاد والأهداف، مع تصدير «رعب الصورة» و«التخويف السينمائي» الذي يمارسه التنظيم. وقد وصف روبن سيمكوكس، المراسل المختص بالشؤون الأمنية من مؤسسة «هيريتيج»، قدرة تنظيم «داعش» على ترويج نفسه بأنه جعله أشبه بـ«ماركة» تشجع الآخرين على نسب هجماتهم الإرهابية وتطرفهم إلى تنظيمهم، وفي ذلك إشارة إلى القدرة القوية للترويج لدى التنظيم، وتجنيد أكبر عدد من المتأثرين برسائله الإعلامية المتطرفة. وهنا يستدعي التطرق إلى مدى تأثير مثل هذه الإيديولوجية المتطرفة الدينية الإشارة إلى نظرية موجات الإرهاب الأربع في العصر الحديث.

موجات الإرهاب في العصر الحديث

عام 2004، نشرت دراسة قام بها دايفيد بابوبورت، أحد أهم مؤسسي دراسات علم الإرهاب ومنظريه منذ السبعينات، وتصاعد صيت نظرية «موجات الإرهاب الأربع» في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، إذ يشير بابوبورت إلى أن العالم مر في العصر الحديث بأربع موجات من الإرهاب: الموجة الأولى كانت من خلال الإرهاب الفوضوي، تحديداً في 24 يناير (كانون الثاني) 1878، حين أطبقت فيرا زاسولتش، وهي شخصية معروفة بتطرفها الفوضوي، النار على شرطي في مدينة بطرسبرغ في روسيا، نتيجة جلده مساجين سياسيين، حين قالت جملتها الشهيرة: «أنا إرهابية، لست بقاتلة»؛ هذه الموجة استمرت إلى نهاية 1890.
وظهرت موجة الإرهاب الثانية، التي أطلق عليها بابوبورت اسم «موجة ما بعد الاستعمار»، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبعد انحسار الموجة الفوضوية العدمية. وتصاعد هذا الإرهاب نتيجة الانتهاكات التي حدثت إبان الاستعمار الأوروبي. وأحد أشهر التنظيمات المتطرفة منظمة «الجيش الجمهوري الآيرلندي» (IRA) التي نشأت بهدف تحرير آيرلندا الشمالية، وتوحيد الجزيرة الآيرلندية. وفي تلك الحقبة، تصاعد تداول مصطلح «المقاتلين الأحرار».
وبزغت بعد ذلك موجة الإرهاب الثالثة «اليسارية الجديدة» في منتصف الستينات، وقد جاءت كردة فعل على الحرب على فيتنام، مع ثورة الاتصالات والتقنية. وبعد انحسار الموجة اليسارية، ظهرت موجة الإرهاب الرابعة التي يمر بها العالم مؤخراً، وهي بلا شك موجة «الإرهاب الديني»، التي استحوذ فيها التطرف الديني. وقد بدأت في أعقاب الثورة الروسية التي قادها لينين، والثورة الصينية التي قادها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وتلتها الثورة الخمينية في إيران. ويتوقع أن تبدأ الموجة الدينية بالانحسار، وصعود موجة خامسة من الإرهاب، يتوقع أن تكون أقرب للقومية الإثنية.

التشظي والتمدد

ورغم تزايد الرهان على شل حركة التنظيم الداعشي، نتيجة استهدافه من قبل التحالف الدولي، والتخلص من وجوده في سوريا والعراق، فإنه لا يزال هناك قلق حيال معاودة التنظيم لملمة أشلائه في المنطقة، وبالأخص من خلال المناطق الحدودية، نتيجة لاستمرار عدم الاستقرار الأمني هناك. وقد حذر الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل من ذلك، وذكر بأن كثيراً من مقاتلي «داعش» تركوا مناطق تركزهم، ليتوزعوا في كثير من المناطق المختلفة في سوريا والعراق عن عمد، وبأنها كانت «خطوة مدروسة» من قبلهم من أجل المحافظة على قدرات التنظيم على القتال في المستقبل، ولحماية أهاليهم، وانتظار الوقت المناسب للصعود من جديد.
وفي هذا الإطار، يسعى التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، إلى محو وجود ما يسمى «الخلافة الداعشية» في المنطقة، بدءاً باجتثاث والتخلص من زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، الذي أعلن عن تأسيسها في العراق في عام 2014، في خطبته الشهيرة في مسجد النوري. وقد رصد التحالف الدولي مكافأة تصل إلى 25 مليون دولار لمن يبلغ عن مكان وجوده، وإن أشارت السلطات العراقية إلى عدم وجود البغدادي في العراق، وإلى احتمال وجوده في شرق سوريا، إلا أنه قد تم توزيع منشورات في مدينة الرمادي في العراق، كتب فيها إن «قائد (داعش) ومقاتليه سرقوا أرضكم، وقتلوا أهلكم، وهو الآن مختبئ بأمان بعيداً عن الموت والدمار الذي زرعه، وبمعلوماتك تستطيع أن تنتقم منه ومن دماره».
من جهة أخرى، يظهر تنظيم «داعش» براغماتية مفرطة جعلته قادراً على تطوير هويته، من تلك المرتكزة على ما يسمى «خلافة إسلامية» في منطقة محددة، وانتقال تحركاته وأنشطته في المناطق التي تحوي منظمات متطرفة تعهدت بالولاء للتنظيم، مثل ما يحدث أخيراً في أفريقيا من سعي للتغلغل في بوركينا فاسو ومالي والنيجر وليبيا، إضافة إلى مناطق أخرى مثل اليمن وإندونيسيا وأفغانستان، ومناطق مجاورة في آسيا الوسطى، التي شهدت قدرة تنظيم «داعش» على الوصول إلى تورا بورا، حيث معقل التنظيم الأم (القاعدة)، ومقر أسامة بن لادن، وإعلان الوجود الداعشي هناك.

التنظيم يشكل خطراً

سيستمر التهديد الداعشي حتى يتم التمكن من محو الهوية الداعشية التي تحولت إلى «ماركة إرهابية» يحتذى بها، ويتعلق باسمها الذئاب المنفردة والمتأثرون من كل صوب. وقد ساعد على ذلك تميزهم في رسائلهم الإعلامية، ووصولهم إلى أعداد كبيرة من المتأثرين، لا سيما أن التنظيم الأخير لم يكن نخبوياً مثل تنظيم «القاعدة»، بل استقطب المقاتلين الأجانب الذين تدفقوا بوفرة من كل صوب، الأمر الذي أسس لوجود خلايا نائمة تحمل الآيديولوجية المتطرفة في كثير من البلدان. وقد حذر رئيس شرطة مكافحة الإرهاب في بريطانيا، كلارك غاريث، من شن كل من تنظيم «القاعدة» و«داعش» حملة إعلامية قوية في الآونة الأخيرة، بهدف أدلجة واستقطاب جماعات جديدة حول العالم، الأمر الذي يظهر قدرة التنظيمات على التصدي، ومواجهة الرقابة الدولية على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. تلك الأدلجة التي سعى التنظيم إلى تكريسها جعلت من كثير من الأسماء من الداعشيات الأوروبيات تشتهر في الآونة الأخيرة، مثل البريطانية شميمة بيغوم، والهولندية جانيتا ياهاني، من مخيم في شرق سوريا، إذ أعربتا عن الرغبة في العودة إلى حياة طبيعية مع أطفالهن ممن أنجبن في مناطق الصراع، ومن مقاتلين «داعشيين». وقد تصاعد لغط دولي حول مدى صدق نواياهن، بالأخص مع تصاعد أزمة عودة المقاتلين الأجانب، وعدم رغبة عدد من الدول في استقبالهم، بل وسحب الجنسيات منهم. وذلك في غضون توجه دولي نحو صعوبة إعادة تأهيل المقاتلين الأجانب، بعد ما خبروه في مناطق الصراع، وأن السعي نحو دمجهم في مجتمعاتهم قد يهدد بنشر الفكر المتطرف. إلا أن جميع الحالات تنذر بتحويل المقاتلين الأجانب إلى قنابل موقوتة، إن لم يتم معالجة أزمة وجودهم. وخير مثال على ذلك ما أعربت عنه كثير من النساء الداعشيات الموجودات في عدد من المخيمات، مثل مخيم الحسكة في سوريا، إذ أعربن عن إيمانهن وولائهن التام لآيديولوجية التنظيم، وقدرته على الاستمرارية والنهوض من جديد، والقيام بهجمات إرهابية في مناطق مختلفة في العالم، وهو الأمر الذي ينذر بمدى خطورة تغلغل الفكر المتطرف، وضرورة اجتثاثه، وبالأخص أن تنظيم «داعش» جاء نتاجاً للظروف السياسية والفكرية في المنطقة، إذ إن مثل هذه التنظيمات المتطرفة ظهرت من أجل سد الفراغ، واستغلال انعدام الأمن في مناطق الصراع. وإذا ما لم تتم معالجة مسببات الوجود المتطرف، فإن هذه التنظيمات المتطرفة قادرة على لملمة أشلائها من جديد، أو أن تنظيمات أخرى شبيهة ستظهر على الساحة، إذا ما استمر وجود المتعاطفين مع التطرف، والخلايا النائمة في كثير من المناطق في العالم.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».