«داعش»... ما بعد السقوط

حول «الموجة الرابعة» من الإرهاب

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
TT

«داعش»... ما بعد السقوط

طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)
طابور سيارات «داعشية» في استعراض للقوة على أطراف الرقة قبل اندحارهم من سوريا والعراق (أ.ب)

لا يزال من الصعب إدراك سبب استمرارية عدد من التنظيمات الإرهابية، رغم اختفاء مسببات نشوئها وبداياتها.
وأقرب مثال على ذلك ما يحدث مع تنظيم «داعش». فرغم أنه يتشظى، فإنه تمرّس في التحور، بدءاً من إعلانه إنشاء خلافة إسلامية تمتد ما بين العراق وسوريا، وانتقالاً إلى التمدد في بقاع مختلفة من العالم كميليشيا متشرذمة، ومن ثم التحول السريع إلى ذئاب منفردة وهجمات إرهابية مصغرة؛ كل ذلك يفضي إلى التوغل في مسببات استمرارية بعض التنظيمات وانحسار الأخرى.

ما يطيل من صمود تنظيمات مثل «القاعدة» و«داعش» يتمثل في استراتيجياتهم المرتكزة بشكلٍ أساسي على فكرة «عولمة الصراع» و«عالمية المواجهة» مع الغرب، والنظم العربية التابعة له. وفي كتاب «الجماعات القتالية المعاصرة: الأفكار، الرموز، المرجعيات والمرتكزات»، للكاتب محمد توفيق، يتطرق المؤلف إلى أهمية هذا المنطلق لديمومة هذه التنظيمات، ويبرز توجههم هذا من خلال نسق الخطاب التعبوي لديهم، والعقد الخطابية التي - حسب فوكو - تعتمد في خطاب التجنيد والحشد والمواجهة على أدبيات تدلل على ذلك بشكلٍ مباشرٍ وواضحٍ. الأمر الذي يوظف لجعل الحركة الجهادية ومسرح عملياته خارج حدود بلدان معينة، وأشارت مضامين وتطبيقات كتاب «إدارة التوحش»، لأبي بكر ناجي، لنمط المواجهة العالمية الشاملة الذي تبناه تنظيم «القاعدة» وطوره «داعش» بوحشية أكبر. وتلك من الأمور التي يعتمد عليها التنظيم، بارتكاز على اللامركزية في نقل المعركة إلى خارج الأراضي السورية، وبشكل أكثر تأثيراً مما كانت عليه «القاعدة» في السابق. لقد حازت ديموغرافيا تنظيم «داعش» على ما يمثل نقطة تمييزية عن التنظيمات الأخرى، وذلك من خلال فكرة «النكاية» واسعة الأبعاد والأهداف، مع تصدير «رعب الصورة» و«التخويف السينمائي» الذي يمارسه التنظيم. وقد وصف روبن سيمكوكس، المراسل المختص بالشؤون الأمنية من مؤسسة «هيريتيج»، قدرة تنظيم «داعش» على ترويج نفسه بأنه جعله أشبه بـ«ماركة» تشجع الآخرين على نسب هجماتهم الإرهابية وتطرفهم إلى تنظيمهم، وفي ذلك إشارة إلى القدرة القوية للترويج لدى التنظيم، وتجنيد أكبر عدد من المتأثرين برسائله الإعلامية المتطرفة. وهنا يستدعي التطرق إلى مدى تأثير مثل هذه الإيديولوجية المتطرفة الدينية الإشارة إلى نظرية موجات الإرهاب الأربع في العصر الحديث.

موجات الإرهاب في العصر الحديث

عام 2004، نشرت دراسة قام بها دايفيد بابوبورت، أحد أهم مؤسسي دراسات علم الإرهاب ومنظريه منذ السبعينات، وتصاعد صيت نظرية «موجات الإرهاب الأربع» في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، إذ يشير بابوبورت إلى أن العالم مر في العصر الحديث بأربع موجات من الإرهاب: الموجة الأولى كانت من خلال الإرهاب الفوضوي، تحديداً في 24 يناير (كانون الثاني) 1878، حين أطبقت فيرا زاسولتش، وهي شخصية معروفة بتطرفها الفوضوي، النار على شرطي في مدينة بطرسبرغ في روسيا، نتيجة جلده مساجين سياسيين، حين قالت جملتها الشهيرة: «أنا إرهابية، لست بقاتلة»؛ هذه الموجة استمرت إلى نهاية 1890.
وظهرت موجة الإرهاب الثانية، التي أطلق عليها بابوبورت اسم «موجة ما بعد الاستعمار»، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبعد انحسار الموجة الفوضوية العدمية. وتصاعد هذا الإرهاب نتيجة الانتهاكات التي حدثت إبان الاستعمار الأوروبي. وأحد أشهر التنظيمات المتطرفة منظمة «الجيش الجمهوري الآيرلندي» (IRA) التي نشأت بهدف تحرير آيرلندا الشمالية، وتوحيد الجزيرة الآيرلندية. وفي تلك الحقبة، تصاعد تداول مصطلح «المقاتلين الأحرار».
وبزغت بعد ذلك موجة الإرهاب الثالثة «اليسارية الجديدة» في منتصف الستينات، وقد جاءت كردة فعل على الحرب على فيتنام، مع ثورة الاتصالات والتقنية. وبعد انحسار الموجة اليسارية، ظهرت موجة الإرهاب الرابعة التي يمر بها العالم مؤخراً، وهي بلا شك موجة «الإرهاب الديني»، التي استحوذ فيها التطرف الديني. وقد بدأت في أعقاب الثورة الروسية التي قادها لينين، والثورة الصينية التي قادها الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وتلتها الثورة الخمينية في إيران. ويتوقع أن تبدأ الموجة الدينية بالانحسار، وصعود موجة خامسة من الإرهاب، يتوقع أن تكون أقرب للقومية الإثنية.

التشظي والتمدد

ورغم تزايد الرهان على شل حركة التنظيم الداعشي، نتيجة استهدافه من قبل التحالف الدولي، والتخلص من وجوده في سوريا والعراق، فإنه لا يزال هناك قلق حيال معاودة التنظيم لملمة أشلائه في المنطقة، وبالأخص من خلال المناطق الحدودية، نتيجة لاستمرار عدم الاستقرار الأمني هناك. وقد حذر الجنرال الأميركي جوزيف فوتيل من ذلك، وذكر بأن كثيراً من مقاتلي «داعش» تركوا مناطق تركزهم، ليتوزعوا في كثير من المناطق المختلفة في سوريا والعراق عن عمد، وبأنها كانت «خطوة مدروسة» من قبلهم من أجل المحافظة على قدرات التنظيم على القتال في المستقبل، ولحماية أهاليهم، وانتظار الوقت المناسب للصعود من جديد.
وفي هذا الإطار، يسعى التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، إلى محو وجود ما يسمى «الخلافة الداعشية» في المنطقة، بدءاً باجتثاث والتخلص من زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، الذي أعلن عن تأسيسها في العراق في عام 2014، في خطبته الشهيرة في مسجد النوري. وقد رصد التحالف الدولي مكافأة تصل إلى 25 مليون دولار لمن يبلغ عن مكان وجوده، وإن أشارت السلطات العراقية إلى عدم وجود البغدادي في العراق، وإلى احتمال وجوده في شرق سوريا، إلا أنه قد تم توزيع منشورات في مدينة الرمادي في العراق، كتب فيها إن «قائد (داعش) ومقاتليه سرقوا أرضكم، وقتلوا أهلكم، وهو الآن مختبئ بأمان بعيداً عن الموت والدمار الذي زرعه، وبمعلوماتك تستطيع أن تنتقم منه ومن دماره».
من جهة أخرى، يظهر تنظيم «داعش» براغماتية مفرطة جعلته قادراً على تطوير هويته، من تلك المرتكزة على ما يسمى «خلافة إسلامية» في منطقة محددة، وانتقال تحركاته وأنشطته في المناطق التي تحوي منظمات متطرفة تعهدت بالولاء للتنظيم، مثل ما يحدث أخيراً في أفريقيا من سعي للتغلغل في بوركينا فاسو ومالي والنيجر وليبيا، إضافة إلى مناطق أخرى مثل اليمن وإندونيسيا وأفغانستان، ومناطق مجاورة في آسيا الوسطى، التي شهدت قدرة تنظيم «داعش» على الوصول إلى تورا بورا، حيث معقل التنظيم الأم (القاعدة)، ومقر أسامة بن لادن، وإعلان الوجود الداعشي هناك.

التنظيم يشكل خطراً

سيستمر التهديد الداعشي حتى يتم التمكن من محو الهوية الداعشية التي تحولت إلى «ماركة إرهابية» يحتذى بها، ويتعلق باسمها الذئاب المنفردة والمتأثرون من كل صوب. وقد ساعد على ذلك تميزهم في رسائلهم الإعلامية، ووصولهم إلى أعداد كبيرة من المتأثرين، لا سيما أن التنظيم الأخير لم يكن نخبوياً مثل تنظيم «القاعدة»، بل استقطب المقاتلين الأجانب الذين تدفقوا بوفرة من كل صوب، الأمر الذي أسس لوجود خلايا نائمة تحمل الآيديولوجية المتطرفة في كثير من البلدان. وقد حذر رئيس شرطة مكافحة الإرهاب في بريطانيا، كلارك غاريث، من شن كل من تنظيم «القاعدة» و«داعش» حملة إعلامية قوية في الآونة الأخيرة، بهدف أدلجة واستقطاب جماعات جديدة حول العالم، الأمر الذي يظهر قدرة التنظيمات على التصدي، ومواجهة الرقابة الدولية على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. تلك الأدلجة التي سعى التنظيم إلى تكريسها جعلت من كثير من الأسماء من الداعشيات الأوروبيات تشتهر في الآونة الأخيرة، مثل البريطانية شميمة بيغوم، والهولندية جانيتا ياهاني، من مخيم في شرق سوريا، إذ أعربتا عن الرغبة في العودة إلى حياة طبيعية مع أطفالهن ممن أنجبن في مناطق الصراع، ومن مقاتلين «داعشيين». وقد تصاعد لغط دولي حول مدى صدق نواياهن، بالأخص مع تصاعد أزمة عودة المقاتلين الأجانب، وعدم رغبة عدد من الدول في استقبالهم، بل وسحب الجنسيات منهم. وذلك في غضون توجه دولي نحو صعوبة إعادة تأهيل المقاتلين الأجانب، بعد ما خبروه في مناطق الصراع، وأن السعي نحو دمجهم في مجتمعاتهم قد يهدد بنشر الفكر المتطرف. إلا أن جميع الحالات تنذر بتحويل المقاتلين الأجانب إلى قنابل موقوتة، إن لم يتم معالجة أزمة وجودهم. وخير مثال على ذلك ما أعربت عنه كثير من النساء الداعشيات الموجودات في عدد من المخيمات، مثل مخيم الحسكة في سوريا، إذ أعربن عن إيمانهن وولائهن التام لآيديولوجية التنظيم، وقدرته على الاستمرارية والنهوض من جديد، والقيام بهجمات إرهابية في مناطق مختلفة في العالم، وهو الأمر الذي ينذر بمدى خطورة تغلغل الفكر المتطرف، وضرورة اجتثاثه، وبالأخص أن تنظيم «داعش» جاء نتاجاً للظروف السياسية والفكرية في المنطقة، إذ إن مثل هذه التنظيمات المتطرفة ظهرت من أجل سد الفراغ، واستغلال انعدام الأمن في مناطق الصراع. وإذا ما لم تتم معالجة مسببات الوجود المتطرف، فإن هذه التنظيمات المتطرفة قادرة على لملمة أشلائها من جديد، أو أن تنظيمات أخرى شبيهة ستظهر على الساحة، إذا ما استمر وجود المتعاطفين مع التطرف، والخلايا النائمة في كثير من المناطق في العالم.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟