أمين معلوف في مواجهة هنتنغتون: حضاراتنا مهددة بالتفسخ

«غرق الحضارات» كتاب جديد له صدر بالفرنسية

أمين معلوف
أمين معلوف
TT

أمين معلوف في مواجهة هنتنغتون: حضاراتنا مهددة بالتفسخ

أمين معلوف
أمين معلوف

على عكس العالم الأميركي صموئيل هنتنغتون، وأطروحته «صدام الحضارات» التي لم تعد تلقى قناعة تامة في العالم، يدعو أمين معلوف إلى أطروحة أخرى، تسعى إلى التكامل بين البشر والحضارات، وذلك في كتاب له صدر منذ أيام باللغة الفرنسية، بعنوان «غرق الحضارات»، عن دار النشر الفرنسية العريقة «جراسيه».
ويقع الكتاب في 336 صفحة من القطع المتوسط، ويستهله المؤلف بتأكيد «أهمية إعطاء تحليلاته مزيداً من الاهتمام»، لافتاً إلى أن «حواسه تستنبط التنبؤات حيال موضوعات كبرى مهمة قبل أن تفرض نفسها على الضمير الإنساني لأنها كانت كاشفة سباقة»، فقد كان القلق يسيطر عليه منذ قرابة عشرين عاماً من مغبة ظهور الهويات الدموية، خصوصاً في ظل انتشار عمليات التشويش الفكري، وغياب النظم الاجتماعية العادلة الذي يسيطر على العالم أجمع منذ ما يربو على العشرة أعوام، الأمر الذي دفعه لأن يتبنى قناعة تامة كاملة مفادها: «إننا على عتبة غرق شامل يؤثر على جميع جنبات الحضارة».

المصداقية الأخلاقية
يعزز المؤلف أطروحته هذه بالتأكيد على حالة التحولات الكبرى التي تضرب العالم أجمع، وتنعكس سلباً على حضاراته المختلفة، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة الأميركية التي تمثل اليوم القوة الكبرى الوحيدة عالمياً تعاني من إشكاليات كبيرة، ومن ثم فهي في سبيلها نحو فقدان مصداقيتها الأخلاقية في العالم، بما يؤثر سلباً على صورتها الذهنية. وفيما يتعلق بالقارة الأوروبية التي كانت «تتشدق في السابق أمام موطنيها بالمبادئ الإنسانية والأخلاقية»، يرى المؤلف أنها تتعرض اليوم لبعض الخلل، في الوقت الذي ينغمس فيه العالم العربي والإسلامي في قلب أزمة عميقة تلقي بدورها شعوبه في حالة من اليأس التام، هذا بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية لذلك على العالم أجمع.
ويقول معلوف: «في ظل العولمة التي نحياها، والتقدم التكنولوجي الذي نشهده، من الصعب الفصل بين الشعوب بعضها البعض، ومن ثم حضارات الشعوب نظراً لارتباطها بعضها ببعض ارتباطاً عضوياً. فهناك أمم ناشئة أو وليدة، مثل الصين والهند وروسيا، تظهر وبقوة الآن على الساحة الدولية التي يسيطر عليها سباق التسلح، ويفرض نفسه على الجميع، فضلاً عن التهديدات الخطيرة المتعلقة بالمناخ والبيئة والصحة، وهي تهديدات تلقى بظلالها على الكوكب، وبالتالي لن نتمكن من مجابهاتها إلا بالتضامن الشامل الذي يجب أن نتحلى به لأنه يمثل السبيل الوحيد أمامنا للخلاص من التهديدات المحدقة بنا».
ويكتسب هذا الكتاب أهمية خاصة، ليس فقط لمكانة مؤلفه أمين معلوف في قلب المجتمع الغربي الذي منحه جوائز علمية كثيرة، وكرمه بعضوية الأكاديمية الفرنسية للآداب والفنون، ومكانته الخاصة لدى صانع القرار الأوروبي، ولكن أيضاً لأهمية وحساسية الموضوعات التي يطرحها على قارئه، وهي موضوعات يتابعها عن كثب شديد منذ أكثر من نصف قرن، فقد كان في مدينة «سايغون»، بفيتنام نهاية الحرب هناك، كما كان في طهران كذلك إبان ظهور الجمهورية الإسلامية، أي أن الكاتب كان شاهد عيان على أحداث مهمة فريدة غيرت من شأن المشهد السياسي العالمي، ليؤكد لنا إلى أي مدى استطاعت هذه الأحداث التي عايشها، وكان واحداً من شهودها العيان القلائل، أن تغير السلوكيات المجتمعية، ومن ثم الحضارات الإنسانية، لتضعها على «عتبة الغرق»، خصوصاً أن تأثير هذه الأحداث قد تجاوز نطاقها الجغرافي، ليمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، أي أننا أمام تأثير شامل لهذه الأحداث التي يتعرض لها المؤلف بأسلوب سهل سلس، يغلب عليه الطابع السردي التاريخي، لينقل لنا خبراته الخاصة، ويشرح لنا الانجرافات والانحرافات المتتالية التي أصابت الإنسانية، لتضعها على عتبة الغرق. فعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والتكنولوجي قد أدى إلى عدم الاستقرار الاقتصادي، بالإضافة إلى إشكالية كبرى تكمن في الإنسان نفسه الذي بدأ يسيطر عليه الفساد والجشع والعنف جراء أمراض مجتمعية يجب معالجة أسبابها أولاً.

تشريح العالم
وعلى ضوء ذلك، يقدم معلوف صورة بانوراميه للعالم، مؤكداً أنه منذ أمد طويل تصيبه بعض علامات الذبول الاجتماعي والانحراف السياسي اللذين شهدا صعوداً كبيراً عام 2010، أي في أعقاب الأزمة المالية التي ضربت العالم في 2008. ولكن لا يجب أن نلقى باللوم بشكل تام وكامل على البعد الاقتصادي والأزمة المالية فقط، كما يقول، لأن الأزمة الحقيقية ذات طابع اجتماعي وأخلاقي في المقام الأول، مشيراً في هذه الصدد إلى أن التوزيع غير العادل للثروات - على سبيل المثال - وكذلك نقص الخدمات الاجتماعية المقدمة للمواطنين، تؤدى إلى انتشار سياسة العنف الاجتماعي التي تؤدى إلى الفوضى السياسية التي تغذى بدورها حالة التفسخ الجزئي التي تصيب صفوة القادة، وتغذى كذلك التوترات والعنف النوعي في كل بلد، بما في ذلك الدول المتقدمة التي تعانى فيها الطبقة المتوسطة.
وفيما يتعلق بالقارة الأفريقية، يرى المؤلف أنها تشهد هي الأخرى بعض علامات عدم الاستقرار وتفسخ الحضارات، مثلما هو الحال في مالي والكونغو وبعض مناطق عدم الاستقرار منذ أمد طويل، كما في الصومال والسودان، على سبيل المثال وليس الحصر. وبالتالي، فنحن أمام صورة متردية للعالم في بؤر كثيرة منه، في أوروبا واليابان والولايات المتحدة الأميركية والمكسيك.
ويوضح المؤلف أن كل دولة تقدم نموذجاً مغايراً للتفسخ الاجتماعي، فنجد مناطق تشهد بعض الرخاء، مثل النرويج وأستراليا، في مقابل مناطق أخرى تسلطية قمعية. وحتى لو نظرنا بدقة إلى الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإيطاليا، كما يضيف، فسنجد هناك أماكن يسيطر عليها الفقر، الأمر الذي يترتب عليه ظهور حالة من التفسخ الاجتماعي، تؤدى إلى ظهور مناطق خارجة عن القانون. فنجد مثلاً اليونانيون يقطعون الأشجار العامة بالشوارع للتدفئة من البرد القارص بسبب تراجع متوسط دخلهم من ألف يورو إلى 800 يورو، بل وصل الأمر إلى ما هو أصعب من ذلك، بلجوء بعض المواطنين في اليونان وإيطاليا والبرتغال لاقتسام المسكن جراء شح وتراجع الميزانية، مع غياب أي أفق لتحسن الوضع، خصوصاً أن تراجع البطالة لم يكن سوى تراجع جزئي بعيد عن الواقع إلى حد كبير.
ويخلص أمين معلوف إلى أن الملاحظات التي رسمها في أبعاد الصورة البانورامية للعالم، عبر صفحات كتابه هذا، تؤكد على حتمية تحرك الحكام والشعوب، وكذلك طبقة الصفوة، بشكل جمعي، وبحسم وذكاء، لأن مسألة نهاية الحضارة تجازف بأن تفرض نفسها علينا أسرع مما نتخيل، أي في غضون 10 أعوام فقط. ويكفينا أن «نتخيل تطور المجتمعات في إطار النموذج الذي يحدث أمامنا الآن، فصفوة المجتمع يقدمون لنا انعكاساً للشعوب، ومؤشراً لمستقبل الأمة. وبالنسبة لمعلوف، تمثل السياسة مؤشراً وترمومتراً لمزاج وهوى الشعوب، ويكفي أن «نرى نتائج الانتخابات في إسرائيل واليونان وإيطاليا تحسم لصالح أحزاب متطرفة، تتحلى بروح المغامرة، وتلعب على البعد الاجتماعي والأخلاقي والنفسي للقاعدة الشعبية في محيطها الانتخابي».
ويقرر معلوف أننا إذن أمام أزمة أخلاقية واجتماعية وفكرية، قبل أن تكون سياسية، وبالتالي فإن العالم مهدد بدخول منطقة محفوفة بالمخاطر والمجازفات، مع انتشار اللامبالاة. ومن الوهم والعبث علاج عدم الاستقرار الراهن بإجراءات وإصلاحات فردية داخل كل بلد على حدة، دون النظر إلى الإطار العام الشامل للمشكلة، مثلما تفعل بعض الدول ذات النزعة القومية، بالسعي نحو الخروج من منطقة اليورو، وهو قرار فردى لن يُصلح من وضع الدولة ولا منطقة اليورو، لأنه قرار يتسم بالفردية، كما أن حل الإشكاليات الراهنة التي يعانى منها المجتمع الدولي لا يجب أن يتم في إطار معالجات سياسية فقط، ولكن يجب حل المشكلة من خلال جوانبها الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والاقتصادية والسياسية، أي في إطار جمعي، مع ضرورة مراجعة القوانين الاجتماعية للشركات والدول، لإحداث حالة من العدل والهدوء النفسي للمواطن، خصوصاً أننا نمر بوضع حرج للغاية، فالحضارة الإنسانية مهددة بالتراجع.



مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة