على عكس العالم الأميركي صموئيل هنتنغتون، وأطروحته «صدام الحضارات» التي لم تعد تلقى قناعة تامة في العالم، يدعو أمين معلوف إلى أطروحة أخرى، تسعى إلى التكامل بين البشر والحضارات، وذلك في كتاب له صدر منذ أيام باللغة الفرنسية، بعنوان «غرق الحضارات»، عن دار النشر الفرنسية العريقة «جراسيه».
ويقع الكتاب في 336 صفحة من القطع المتوسط، ويستهله المؤلف بتأكيد «أهمية إعطاء تحليلاته مزيداً من الاهتمام»، لافتاً إلى أن «حواسه تستنبط التنبؤات حيال موضوعات كبرى مهمة قبل أن تفرض نفسها على الضمير الإنساني لأنها كانت كاشفة سباقة»، فقد كان القلق يسيطر عليه منذ قرابة عشرين عاماً من مغبة ظهور الهويات الدموية، خصوصاً في ظل انتشار عمليات التشويش الفكري، وغياب النظم الاجتماعية العادلة الذي يسيطر على العالم أجمع منذ ما يربو على العشرة أعوام، الأمر الذي دفعه لأن يتبنى قناعة تامة كاملة مفادها: «إننا على عتبة غرق شامل يؤثر على جميع جنبات الحضارة».
المصداقية الأخلاقية
يعزز المؤلف أطروحته هذه بالتأكيد على حالة التحولات الكبرى التي تضرب العالم أجمع، وتنعكس سلباً على حضاراته المختلفة، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة الأميركية التي تمثل اليوم القوة الكبرى الوحيدة عالمياً تعاني من إشكاليات كبيرة، ومن ثم فهي في سبيلها نحو فقدان مصداقيتها الأخلاقية في العالم، بما يؤثر سلباً على صورتها الذهنية. وفيما يتعلق بالقارة الأوروبية التي كانت «تتشدق في السابق أمام موطنيها بالمبادئ الإنسانية والأخلاقية»، يرى المؤلف أنها تتعرض اليوم لبعض الخلل، في الوقت الذي ينغمس فيه العالم العربي والإسلامي في قلب أزمة عميقة تلقي بدورها شعوبه في حالة من اليأس التام، هذا بالإضافة إلى الانعكاسات السلبية لذلك على العالم أجمع.
ويقول معلوف: «في ظل العولمة التي نحياها، والتقدم التكنولوجي الذي نشهده، من الصعب الفصل بين الشعوب بعضها البعض، ومن ثم حضارات الشعوب نظراً لارتباطها بعضها ببعض ارتباطاً عضوياً. فهناك أمم ناشئة أو وليدة، مثل الصين والهند وروسيا، تظهر وبقوة الآن على الساحة الدولية التي يسيطر عليها سباق التسلح، ويفرض نفسه على الجميع، فضلاً عن التهديدات الخطيرة المتعلقة بالمناخ والبيئة والصحة، وهي تهديدات تلقى بظلالها على الكوكب، وبالتالي لن نتمكن من مجابهاتها إلا بالتضامن الشامل الذي يجب أن نتحلى به لأنه يمثل السبيل الوحيد أمامنا للخلاص من التهديدات المحدقة بنا».
ويكتسب هذا الكتاب أهمية خاصة، ليس فقط لمكانة مؤلفه أمين معلوف في قلب المجتمع الغربي الذي منحه جوائز علمية كثيرة، وكرمه بعضوية الأكاديمية الفرنسية للآداب والفنون، ومكانته الخاصة لدى صانع القرار الأوروبي، ولكن أيضاً لأهمية وحساسية الموضوعات التي يطرحها على قارئه، وهي موضوعات يتابعها عن كثب شديد منذ أكثر من نصف قرن، فقد كان في مدينة «سايغون»، بفيتنام نهاية الحرب هناك، كما كان في طهران كذلك إبان ظهور الجمهورية الإسلامية، أي أن الكاتب كان شاهد عيان على أحداث مهمة فريدة غيرت من شأن المشهد السياسي العالمي، ليؤكد لنا إلى أي مدى استطاعت هذه الأحداث التي عايشها، وكان واحداً من شهودها العيان القلائل، أن تغير السلوكيات المجتمعية، ومن ثم الحضارات الإنسانية، لتضعها على «عتبة الغرق»، خصوصاً أن تأثير هذه الأحداث قد تجاوز نطاقها الجغرافي، ليمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، أي أننا أمام تأثير شامل لهذه الأحداث التي يتعرض لها المؤلف بأسلوب سهل سلس، يغلب عليه الطابع السردي التاريخي، لينقل لنا خبراته الخاصة، ويشرح لنا الانجرافات والانحرافات المتتالية التي أصابت الإنسانية، لتضعها على عتبة الغرق. فعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والتكنولوجي قد أدى إلى عدم الاستقرار الاقتصادي، بالإضافة إلى إشكالية كبرى تكمن في الإنسان نفسه الذي بدأ يسيطر عليه الفساد والجشع والعنف جراء أمراض مجتمعية يجب معالجة أسبابها أولاً.
تشريح العالم
وعلى ضوء ذلك، يقدم معلوف صورة بانوراميه للعالم، مؤكداً أنه منذ أمد طويل تصيبه بعض علامات الذبول الاجتماعي والانحراف السياسي اللذين شهدا صعوداً كبيراً عام 2010، أي في أعقاب الأزمة المالية التي ضربت العالم في 2008. ولكن لا يجب أن نلقى باللوم بشكل تام وكامل على البعد الاقتصادي والأزمة المالية فقط، كما يقول، لأن الأزمة الحقيقية ذات طابع اجتماعي وأخلاقي في المقام الأول، مشيراً في هذه الصدد إلى أن التوزيع غير العادل للثروات - على سبيل المثال - وكذلك نقص الخدمات الاجتماعية المقدمة للمواطنين، تؤدى إلى انتشار سياسة العنف الاجتماعي التي تؤدى إلى الفوضى السياسية التي تغذى بدورها حالة التفسخ الجزئي التي تصيب صفوة القادة، وتغذى كذلك التوترات والعنف النوعي في كل بلد، بما في ذلك الدول المتقدمة التي تعانى فيها الطبقة المتوسطة.
وفيما يتعلق بالقارة الأفريقية، يرى المؤلف أنها تشهد هي الأخرى بعض علامات عدم الاستقرار وتفسخ الحضارات، مثلما هو الحال في مالي والكونغو وبعض مناطق عدم الاستقرار منذ أمد طويل، كما في الصومال والسودان، على سبيل المثال وليس الحصر. وبالتالي، فنحن أمام صورة متردية للعالم في بؤر كثيرة منه، في أوروبا واليابان والولايات المتحدة الأميركية والمكسيك.
ويوضح المؤلف أن كل دولة تقدم نموذجاً مغايراً للتفسخ الاجتماعي، فنجد مناطق تشهد بعض الرخاء، مثل النرويج وأستراليا، في مقابل مناطق أخرى تسلطية قمعية. وحتى لو نظرنا بدقة إلى الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإيطاليا، كما يضيف، فسنجد هناك أماكن يسيطر عليها الفقر، الأمر الذي يترتب عليه ظهور حالة من التفسخ الاجتماعي، تؤدى إلى ظهور مناطق خارجة عن القانون. فنجد مثلاً اليونانيون يقطعون الأشجار العامة بالشوارع للتدفئة من البرد القارص بسبب تراجع متوسط دخلهم من ألف يورو إلى 800 يورو، بل وصل الأمر إلى ما هو أصعب من ذلك، بلجوء بعض المواطنين في اليونان وإيطاليا والبرتغال لاقتسام المسكن جراء شح وتراجع الميزانية، مع غياب أي أفق لتحسن الوضع، خصوصاً أن تراجع البطالة لم يكن سوى تراجع جزئي بعيد عن الواقع إلى حد كبير.
ويخلص أمين معلوف إلى أن الملاحظات التي رسمها في أبعاد الصورة البانورامية للعالم، عبر صفحات كتابه هذا، تؤكد على حتمية تحرك الحكام والشعوب، وكذلك طبقة الصفوة، بشكل جمعي، وبحسم وذكاء، لأن مسألة نهاية الحضارة تجازف بأن تفرض نفسها علينا أسرع مما نتخيل، أي في غضون 10 أعوام فقط. ويكفينا أن «نتخيل تطور المجتمعات في إطار النموذج الذي يحدث أمامنا الآن، فصفوة المجتمع يقدمون لنا انعكاساً للشعوب، ومؤشراً لمستقبل الأمة. وبالنسبة لمعلوف، تمثل السياسة مؤشراً وترمومتراً لمزاج وهوى الشعوب، ويكفي أن «نرى نتائج الانتخابات في إسرائيل واليونان وإيطاليا تحسم لصالح أحزاب متطرفة، تتحلى بروح المغامرة، وتلعب على البعد الاجتماعي والأخلاقي والنفسي للقاعدة الشعبية في محيطها الانتخابي».
ويقرر معلوف أننا إذن أمام أزمة أخلاقية واجتماعية وفكرية، قبل أن تكون سياسية، وبالتالي فإن العالم مهدد بدخول منطقة محفوفة بالمخاطر والمجازفات، مع انتشار اللامبالاة. ومن الوهم والعبث علاج عدم الاستقرار الراهن بإجراءات وإصلاحات فردية داخل كل بلد على حدة، دون النظر إلى الإطار العام الشامل للمشكلة، مثلما تفعل بعض الدول ذات النزعة القومية، بالسعي نحو الخروج من منطقة اليورو، وهو قرار فردى لن يُصلح من وضع الدولة ولا منطقة اليورو، لأنه قرار يتسم بالفردية، كما أن حل الإشكاليات الراهنة التي يعانى منها المجتمع الدولي لا يجب أن يتم في إطار معالجات سياسية فقط، ولكن يجب حل المشكلة من خلال جوانبها الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والاقتصادية والسياسية، أي في إطار جمعي، مع ضرورة مراجعة القوانين الاجتماعية للشركات والدول، لإحداث حالة من العدل والهدوء النفسي للمواطن، خصوصاً أننا نمر بوضع حرج للغاية، فالحضارة الإنسانية مهددة بالتراجع.