لا يتسنى لأي شركة، في إطار تقنيات الثورة الصناعية الرابعة التي رفعت من توقعات الأداء والإنتاجية وضاعفت عوامل الاختلال، أن تحافظ على ميزتها التنافسية دون تغيير نموذج الأعمال المعتاد. وينسحب المنطق نفسه على الحكومات التي تتحمل مسؤولية كبرى للحفاظ على الثقة العامة والتوظيف في القطاع العام.
وتجد دول الشرق الأوسط، على وجه الخصوص، نفسها في مواجهة هذا التحدي، فباعتبار حكومات المنطقة أكبر جهة موظّفة (وغالباً ما تكون الملاذ الأخير) لشعوب شابة وسريعة النمو، فإنها تواجه سيناريو صعباً: اعتماد الأتمتة والذكاء الصناعي لتحسين الأداء والكفاءة، ما من شأنه أن يسهم في تعزيز قدرات الدول التنافسية على الصعيد العالمي، أو المعاناة من انكماش محتمل في التوظيف الحكومي والعواقب المترتبة عن ذلك بين شريحة مهمة من التركيبة السكانية.
ومع أن روبوتات الذكاء الصناعي الحديثة لم تصل إلى أسواق العمل الشرق أوسطية حتى الآن، إلا أن دول المنطقة بدأت تستعد للتعامل مع تحديات الأتمتة والابتكار الناجمة عن الثورة الصناعية العالمية الحالية. واخترقت التكنولوجيا بسرعة كل جوانب بيئة الأعمال في المنطقة، من أتمتة تصاريح الهجرة، إلى الخدمات المصرفية وبرامج الامتثال والبرمجيات الإعلامية الحديثة.
وتختلف بيئة الأعمال في الشرق الأوسط عن غيرها من المناطق، نسبة إلى الدور الذي يضطلع به القطاع العام (الحكومي) تجاه القوى العاملة، إذ إن الحكومات لا تزال في المنطقة أكبر جهة توظيف. وعلى سبيل المثال، يعمل نحو ثلثي العمالة السعودية في القطاع العام، فيما يوظف القطاع العام الأردني 55% من العمالة في البلاد، وهما من أعلى المعدلات المسجلة في هذا المجال على مستوى العالم. والأكثر من ذلك، فإن التقديرات تشير إلى أن أكثر من ثلثي شباب الخليج العربي لا يزالون يتطلعون صوب الحكومة بغية الحصول على الوظائف.
لكن مع تزايد اعتماد الدول في تصنيفاتها المختلفة على الكفاءة في ممارسة الأعمال، فإن القطاع العام «المتضخم» لم يعد خياراً متاحاً إنْ سعت هذه الدول إلى رفع ميزتها التنافسية في المنطقة، أو لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة دعماً لاقتصادها الوطني، فضلاً عن تفادي «هجرة» رؤوس الأموال المحلية. وتماماً كما هو الحال مع الكيانات الخاصة، ترزح حكومات المنطقة تحت ضغوط هائلة لتحسين الكفاءة في ممارسة الأعمال عبر استخدام تقنيات الثورة الصناعية الحديثة مثل الذكاء الصناعي والأتمتة.
وقد تؤدي هذه التطورات إلى تقليل الوظائف المتاحة. ووفقاً لدراسة حديثة صادرة عن جامعة أكسفورد، فإن الأتمتة والذكاء الصناعي يهددان استمرارية عدة وظائف، بينها: مختصو إدخال البيانات، والمفتشون، ومُعدّو الإقرارات الضريبية، والمحاسبون، والباحثون في حقوق الملكية. كما أدرجت الدراسة عدداً من الوظائف المكتبية، التي تًستخدم في القطاع العام.
وتأتي الأعداد المتنامية من الشباب المتدفقين سنوياً إلى القوى العاملة لتضيف إلى التحدي، ما يزيد حدة الضغوط على القطاع العام الحكومي في منطقة الشرق الأوسط. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، يدخل نحو 5 ملايين عامل إلى سوق العمالة في الشرق الأوسط على أساس سنوي. فيما تبلغ نسبة السكان الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً، بين 25% في قطر و50% في عُمان.
ويتحتّم على الحكومات في الشرق الأوسط أن تبحث عن سبل لتوظيف قوتها العاملة خارج القطاع العام. ومن الحلول الواعدة، محاولة تشجيع عمالة القطاع العام على البحث عن الوظائف في القطاع الخاص. ومع اللجوء إلى القطاع الخاص، فإنه يتحتم على الحكومات تحقيق التوازن السليم، ولا سيما في ظل التحديات البارزة في أوساط الأعمال سريعة التغير.
ومن بين التحديات القائمة، رفع مهارات المواطنين وتعليمهم. ويستلزم التمحور صوب القطاع الخاص بنجاح الاهتمام بقضية التعليم، وتركيزها على الإبداع والابتكار وتعلم المهارات الصحيحة والمناسبة لمستقبل الذكاء الصناعي، فضلاً عن إبراز مزايا العمل في القطاع الخاص. ويمنح القطاع الخاص عدة مزايا تساهم في تغيير الصورة النمطية للاستقرار الذي يوفره القطاع العام، وفي مقدمتها: التقدم الوظيفي والابتكار ومنح المكافآت على الإبداع والتميز.
أما التحدي الآخر الذي تواجهه الحكومات، فهو مواكبة سرعة الابتكار التكنولوجي حتى يتسنى للقطاع الخاص خلق الوظائف المناسبة. وفيما تتجاوز سرعة التقدم التكنولوجي وتيرة تحديث القوانين واللوائح التنظيمية على الصعيد العالمي، إلا أن أثره بالغ في منطقة الشرق الأوسط. أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو «حماية البيانات»، فاللوائح والقواعد الحالية تحظر المعلومات والبيانات ذات الصلة بالمنشآت والشركات من مغادرة الحدود المادية للدول، وهي آلية يصعب استمرارها في ظل الاتجاه نحو تخزين المعلومات عبر الحوسبة السحابية. وتحتاج الشركات إلى امتلاك القدرة على العمل ضمن نطاق إقليمي وعالمي دون مواجهة عوائق وعراقيل تجاوزها الزمن.
ولا يعني شيء مما تقدم أن منطقة الشرق الأوسط غير تواقة إلى الاستفادة من التكنولوجيات المتقدمة. فقد أعلنت حكومة دبي مؤخراً عن نيتها أن تصبح أول حكومة على مستوى العالم تعمل بتقنية «بلوك تشين» بحلول عام 2020، كما تشير «رؤية 2030» السعودية، فضلاً عن مشاريع «نيوم» و«القدية» الهائلة، إلى حقيقة واضحة مفادها أن المنطقة تستعد على كل المستويات لمواكبة الثورة الصناعية العالمية الرابعة.
بيد أن كل خطوة متخَذة على هذا المسار التكنولوجي لا بد أن تبحث كيفية تحقيق التوازن بين اعتماد التكنولوجيا المبتكرة وتحقيق الرفاهة والرعاية الشاملة للمواطنين. ومع امتلاك المنطقة إحدى كبرى الشرائح السكانية الشبابية على مستوى العالم، فلا يمكن لهذه الدول تجاوز تحقيق هذ التوازن.
- الرئيس التنفيذي لشركة «ديلويت» في الشرق الأوسط
-- هذا المقال هو جزء من المنتدى الاقتصادي العالمي بشأن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعام 2019 والذي من المقرر انعقاده في الأردن في الفترة بين 6 و7 أبريل (نيسان).
تحقيق التوازن في بيئة أعمال سريعة التغير
تحقيق التوازن في بيئة أعمال سريعة التغير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة