«بريد الليل»... شخصيات لا تُحسن قراءة روح العصر

من روايات «القائمة القصيرة» لجائزة «بوكر العربية»

هدى بركات
هدى بركات
TT

«بريد الليل»... شخصيات لا تُحسن قراءة روح العصر

هدى بركات
هدى بركات

قد تكون رواية «بريد الليل» لهدى بركات الأكثر تعقيداً من بين الروايات الست التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر العربية» لهذا العام؛ فالشكل جديد، ومُتشابك في نسيجه الداخلي، والمضمون متنوّع يصعب حصره في «نوفيلا» تتألف من 126 صفحة من القطع المتوسط. وعلى الرغم من وجود الشخصيات الخمس الرئيسية وبقية الشخصيات الثانوية، فإنها لا تحمل أسماء محددة، كما تدور الأحداث في اللامكان؛ الأمر الذي يضفي تحديات جديدة لصعوبة البنية الروائية التي بدت متماسكة، ومتضامّة إلى أبعد الحدود.
تبدو هذه النوفيلا الصادرة عن «دار الآداب» ببيروت سُريالية في مضمونها؛ لأن الشخصيات الخمس تعرف سلفاً أن هذه الرسائل لن تصل إلى المُرسَل إليهم، فلقد مَحت الحروبُ العناوينَ، ودمّرت الشوارع، وألغت مهنة ساعي البريد أصلاً. وعلى الرغم من أن هدى بركات لا تحب الرموز، ولا تميل إليها أصلاً، فإن هذه النوفيلا لا يمكن قراءتها واستيعابها بعيداً عن القراءة الرمزية التي تمنح النص السردي بُعداً مجازياً مُطعّماً بالنَفَس السُريالي المُشار إليه سلفاً. فثمة قطيعة بين المُرسِل والمتلقّي وكأن الرسائل لا تنطوي إلا على شيفرات مستعصية لا يمكن فكّ رموزها أبداً، كما أن الغالبية العظمى من أُناس هذا النص السردي لا يُحسنون قراءة روح العصر وتمثّله، والتناغم مع معطيات ثورته الإلكترونية التي قلبت العالم رأساً على عقب.
تقترب هدى بركات كثيراً من أجواء الروائي الفرنسي ألن روب - غرييه الذي يُراهن على تشتّيت الثيمة الرئيسية ويطلب من القارئ أن يُعيد ترتيبها من جديد لأنه يعتقد بفكرة القارئ العضوي الذي يجب أن يشارك في كتابة النص الروائي، فهو جزء حيوي من العملية الإبداعية وليس طارئاً عليها. وفي «بريد الليل» تطالبنا هدى بركات أن نعيد ترتيب الأحداث المتشظيّة وتنسيقها على وفق الرؤية الفنية للقارئ الخلاق.
ولكي نحيط القارئ بمضمون النوفيلا لا بد من اتباع تقنية التبئير التي تسلّط الضوء على الثيمات والأفكار الرئيسية في المتن السردي. فأصحاب الرسائل الخمس هم مهاجرون أو مهجّرون عرب تركوا أوطانهم لأسباب متعددة، من بينها القمع والاستبداد والأنظمة الديكتاتورية المتخلّفة، لكن البعض الآخر قد يهاجر لأسباب نفسية واجتماعية واقتصادية، أو يبحث عن متنفس واسع للحريات الفردية المنفلتة لا يتوفر في معظم البلدان العربية؛ الأمر الذي يدفعهم للهجرة إلى المنافي البعيدة في أوروبا والغرب الأميركي.
تتضمّن الرسالة الأولى التي كان ينوي الابن أن يكتبها لأمه، لكنه في تداخل تقني جميل يحوّل الرسالة إلى حبيبته، ورغم أن المُرسِل لا يمتلك موهبة سرد الأخبار، فإنه ينغمر في كتابتها ما دام أنها ستكون الرسالة الوحيدة في حياته. تنطوي الرسالة على نقاط مهمة، أبرزها وفاة أمه التي وضعته في سن الثامنة أو التاسعة من عمره في القطار، وأخبرته بأن عمه ينتظره في العاصمة. وعندما تموت هذه الأم يشعر بالكآبة والخوف والتخلّي. ثم يجد نفسه منغمساً في المعارضة، لكن المعارضين يعتقدون أنه مشبوه، ومنتفع، وعدائي يجب مراقبته؛ لذا أصبح مفلساً وبلا أوراق رسمية، وعليه أن يقترن بامرأة طاعنة في السنّ كي يحصل على أوراق الإقامة والتجنيس. ثمة رجل من المخابرات يراقبه في البناية المقابلة ويعتقد أن موظف القنصلية الذي رفض تجديد جواز سفره هو الذي أرسله كي يراقبه ويُحصي عليه أنفاسه.
أما الرسالة الثانية، فهي موجهة من امرأة إلى حبيبها، وقد كتبتها عندما عثرت على الرسالة الأولى في دليل الفندق وهي قلقة على صاحبها وتتصور أنه يقبع في السجن بعد أن توهم أن مخابرات بلده تراقبه. تنطوي الرسالة على اعترافات صريحة بأنه يتعاطى المخدرات وأن إقامته غير شرعية فتتعاطف معه، وتشعر بأنها تعرفه وكأنها صديقة قديمة له. وتعتقد بأنها ستجد له أثراً في أحد المقاهي الباريسية التي تجمع الشباب العرب التائهين والهاربين من شيء ما. كما تزدان الرسالة بأفكار جانبية مؤازرة مثل الجار الذي ألقى بنفسه من الطابق الخامس بعد أن ذبحوا ابنه أمام عينيه، وفكرة الضابط النازي الذي يخترق الجمال قلبه فيترك «عازف البيانو» حياً، والفكرة الثالثة هي تماهي المرسلة مع شكل الأب، وحركاته، وطريقة كلامه.
تكتظ الرسالة الثالثة بالأحداث؛ فهي موجهة من ابن إلى أمه يتحوّل من ضحية إلى جلاد فيتعرف عليه أحد الضحايا الجدد ويدعي بأنه عذّبه شخصياً، وهو ينتمي إلى مخابرات النظام. لم يكن تحوّله سلساً فقد اغتصبوه وعذّبوه قبل أن يتعاون معهم، وينفّذ جميع أوامرهم. وبما أنه لا يستطيع البقاء في هذا البلد فقد فكّر في العودة، لكنه ما إن يلتقي بالمرأة الكبيرة سناً، ويشتبك معها في علاقة حميمة لا سبيل للفكاك منها يتورط بقتلها، وتقطيع أوصالها بطريقة بشعة فقد سبق له أن قتل أناساً كثيرين ولن يجد ضيراً في مواصلة القتل بدم بارد.
تتداخل الرسالة الرابعة بين الابن المجرم الذي يخاطب أمه وبين الأخت التي تراسل شقيقها حيث حاول المجرم إخفاء الرسالة التي كتبها إلى أمه قبل أن يصلوا إليه فحشرها بقوّة في جانب المقعد الملتصق بجدار الطائرة يقول فيها بأنه قتل المرأة التي آوته وأراد النفاذ بجلده. أما رسالة الأخت الضمنية فهي تشرح لأخيها قصتها المأساوية وتخبره بأنها تعمل مومساً وتنظّف ستين مرحاضاً قبل الساعة العاشرة صباحاً بعد أن هجرها زوجها، كما تقوم أمها بتزويج ابنتها إلى شخص متحول جنسياً يسيء معاملتها ولا تنقذ ابنتها الوحيدة إلا بشق الأنفس.
أما الرسالة الخامسة والأخيرة التي يوجهها الابن إلى أبيه بعد أن تحفزّه رسالة امرأة وحيدة ومستوحشة مثله تماماً عثر عليها في خزانته الصغيرة في البار، وهي مثل رسائل أخرى بلا عنوان وبلا إمضاء تعترف فيها المرأة إلى شقيقها المسجون الذي أخفت عنه حقائق كثيرة. وهذه الرسالة التي لم تصل أيضاً تمثل الصوت الذي لم يسمعه أحد منذ البداية وكأن صاحبه ينفخ في قربة مثقوبة. يعترف الابن في خاتمة المطاف بأنه مشرّد، ومريض، ومفلس، ويريد العودة إلى البيت.
تتكشّف الأحداث في الفصل الثاني الذي عنونته الكاتبة «في المطار»، وهو مكان مجهول أيضاً، فنعرف أن أباه قد مات من الإنهاك، وأن أخته تطلّقت وعادت إلى البيت مع ابنتها. وبينما يقبع هو في السجن تزوّر شقيقته الأوراق، وتبيع البيت، ثم تسرق مخدومتها وتقتلها وتتهم الزوج بالجريمة. يعتقد الأخ بأن شقيقته تركت البلد وذهبت إلى جهة مجهولة، لكنه موقن بأنها سوف تعود من أجل ابنتها بعد موت الأم.
يفكر ساعي البريد في الفصل الثالث بالرسائل التي لا تصل إلى أصحابها، وبعد أن يفرغ من قراءتها يصنّفها بحسب تواريخها، ودرجة أهميتها، ثم يكتب رسالته لمن يأتي بعده ويضعها قرب فهرس الرسائل، فلربما يموت قبل أن يصل أحد إلى هذا المكان.
يتوجب على القارئ الآن أن يعيد ترتيب الأحداث التي تجمعت في ذاكرته بعد قراءة هذ ا النص، ويستنتج الثيمة التي يراها مناسبة لـ«بريد الليل» الذي لن يصل أبداً.



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).