سميح القاسم.. كبرياء النص

ربط شعر المقاومة بشعراء فلسطين في المنفى وترك أكثر من 70 مؤلفا

سميح القاسم
سميح القاسم
TT

سميح القاسم.. كبرياء النص

سميح القاسم
سميح القاسم

استعصى سميح القاسم على الموت، وظل يصارعه على مدى ثلاث سنوات، تحت وطأة مرض السرطان اللعين. ورغم أنه يدرك بعين الشاعر، وقلب الطفل، أن الموت يتناثر من حوله، في الشوارع وفي الساحات وفي القرى والمدن، حتى صار حالة فلسطينية بامتياز، تجدد نفسها كل يوم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي البغيض، فإنه مثلما عاش قصيدته مرفوع الرأس، عاش أيضا الموت مرفوع الرأس، لم يراهن عليه، وإنما كان رهانه الأساسي على نصه الشعري وما يفيض عنه من كتابة أخرى، امتدت إلى القصة والرواية والمسرح وقضايا الفكر والثقافة بوجه عام.
هذه الكبرياء النادرة، انعكست في شعر سميح القاسم، وشكلت في أغلب أعماله الشعرية والنثرية، مدار رؤيته، بكل محمولاتها التراثية والفكرية، وتجسداتها المتنوعة جماليا وفنيا؛ بداية من اللغة المشغولة بهموم الأرض والإنسان، والصور والرموز والدلالات المستقاة من طينة الواقع الفلسطيني وحراكه اليومي المناضل، وتواصلت هذه الكبرياء مع تقاطعات الفعل الشعري لديه، مع الماضي والحاضر والمستقبل، كما انعكست كذلك على معجمه الشعري الثري العطاء والمنهل، حتى يمكن أن أقول إننا أمام شاعر جسد بعمق وحب ما أسميه «كبرياء النص».
بهذه الروح حفر سميح القاسم اسمه في لوحة شعر المقاومة الفلسطيني، واستطاع أن يكون له في طبقاتها المتنوعة إسهامه الخاص، والذي تبلور - برأيي - في أنه ربط من خلاله، شعرية الداخل الفلسطيني بشعرية الخارج، والذي يمثلها كوكبة من شعراء المنافي المجيدين، وهو ما أسهم في جعل الشعرية الفلسطينية بكل مراحلها التي مرت بها بداية من مرحلة النكبة في عام 1948، وحتى اللحظة الراهنة، تشبه موجة واحدة، تعتد بتنوع شطوطها وبحارها، وتومض كحالة خاصة في المشهد الشعري العربي وحركة الحداثة الشعرية العربية.
عاش سميح القاسم في الداخل الفلسطيني جل حياته، فبعد مولده لعائلة فلسطينية درزية في مدينة الزرقاء في الأردن، انتقل إلى بلدة أهله «الرامة» الفلسطينية في الجليل الأعلى حيث درس الابتدائية والثانوية في مدينة الناصرة، وبدأ حياته معلما ومناضلا سياسيا. ولم يغادر موطنه الفلسطيني إلا لماما، للمشاركة في بعض المهرجانات والملتقيات الشعرية والأدبية في بلدان عربية وأوروبية.
ورغم تعدد التصنيفات النقدية لشعرية سميح القاسم، ما بين «الشعر المقاوم» والشعر «ما بعد الحداثي»، فإن «شعرية الأرض» تظل - برأيي - هي الملمح الأساس والأكثر لصوقا وانسجاما مع إبداعه الشعري، بل تشكل صيرورة وجوده في الشعر والحياة معا.
تطل «شعرية الأرض» بقوة في شعر سميح القاسم، وتفتح نصه الشعري، على حكمة التاريخ والأجداد، ورائحة البشر والكفاح والنضال، وتبدو دائما مسكونة بروح الطبيعة في بيئتها الفلسطينية الخصبة وعافيتها الأولى، ويتقاطع الحلم والذاكرة في نسيج هذه الشعرية، ينوعان فضاءاتها فنيا ودلاليا، فكأن الأرض ذاكرة حلم يلامس القصيدة، وفي الوقت نفسه، كأن القصيدة ذاكرة أرض تعانق الحلم.. واللافت أن هذا التعاشق الحي وسع من تراوحات اللغة وبنية وإيقاع المشهد في شعر سميح القاسم؛ فهو مشهد طازج طافر بأسئلة الروح والجسد والوطن والوجود، من دون فواصل أو عقد زمنية، تفصل أحدهما عن الآخر، كما أنه مشهد يحيل إلى نفسه دائما، مخطوف إلى الدخل، إلى نبض الحياة في العمق وفيما تحت القشور.. ملمح من هذا المشهد نطل عليه في إحدى قصائده بعنوان «النار فاكهة الشتاء»؛ والتي يقول فيها:
«ويروح يفرك بارتياحٍ راحتين غليظتينْ
ويحرّك النار الكسولةَ جوفَ موْقدها القديم
ويعيد فوق المرّتين
ذكرَ السماء
والله.. والرسل الكرامِ.. وأولياءٍ صالحين
ويهزُّ من حين لحين
في النار.. جذع السنديان وجذعَ زيتون عتيق
ويضيف بنّا للأباريق النحاس
و يُهيلُ حَبَّ (الهَيْلِ) في حذر كريم
(الله.. ما أشهى النعاس
حول المواقد في الشتاء!)
لكن.. يُقلق صمت عينيه الدخان
فيروح يشتمّ.. ثم يقهره السّعال
وتقهقه النار الخبيثة.. طفلةً جذلى لعوبة
وتَئزّ ضاحكةً شراراتٌ طروبهْ
ويطقطق المزراب.. ثمّ تصيخ زوجته الحبيبة
- قم يا أبا محمود.. قد عاد الدوابّ».
إن «شعرية الأرض» هي التي تثبت المشهد، ليس فقط في جسد القصيدة، بل أيضا في جسد الزمن، وهي شعرية تنطلق من نقطة ثبات، لكنها مع ذلك تبني منها تنوعها وتموجها، حيث تبدو اللغة وكأنها ثمرة ولدت للتو من شجرة الأرض، من مراتع الطفولة والصبا، مخزن الذاكرة الحي في حياة الشاعر.. كما أنها شعرية تكتنز في إهابها العناصر الطبيعية الأولى، التي تشكل قانون الوجود: الماء والنار والتراب والهواء. ويزخر شعر سميح القاسم باللعب على أوتار هذه العناصر، في الوقت نفسه، تكسب شعرية الأرض الصورة الشعرية عبقا خاصا، وتجعلها مشرّبة بروح الحكاية الشعبية، وتجرد طاقة الغناء من البذخ البلاغي والتوشيات النمطية.. فالحلم بالأرض، هو الحلم بالطبيعة والقصيدة، هو الحلم بالحرية، بالأنثى والوطن.. فهكذا يخاطب الشاعر أنثاه قائلا:
«لو كنت شجرة
سأكون عندليبا يعيش بين أغصانك
لو كنت شجرة
ستكونين فاكهتي الوحيدة
لو كنت كهفا
سأكون راعيًا مبللا بالمطر يلوذ بك
لو كنت كهفًا
ستكونين الصدى الأبدي بين جنباتي»
ثم ينوع إيقاع المشهد، وكأنه لوحة تشكيلة معجونة بالألوان، في طينتها الطبيعية الأولى، ويشد قماشة اللوحة في معزوفة بصرية وشعرية، لتتسع لأزمنة وأمكنة شتى، واضعا القارئ أمام «باقة زرقاء»، تذكرنا بمرحلة بيكاسو الزرقاء.. يقول سميح القاسم:
«ساعات الفجر الأولى
زرقٌ
العندليب الأول على شجرة الليمون الزرقاء
أزرقُ
أنهار العالم تلتف على عنقي الأزرق
أنشوطة زرقاءُ زرقاء
جفون عيني
زرقاءُ زرقاء
أتلاشى في الزرقة
أتلاشى
لم أعد أعرف لون عينيك»
ومن ثم، تبرز قيمة التكرار، وتتنوع بسلاسة كمقوم جمالي ودلالي، يشكل عنصر إضافة معا، فهو يوثق للمعنى حين يكرره، ولا يجتره تحت وطأة التشابه؛ وحين ينفيه أو يحذفه، أو يمارس عليه نوعا من الإزاحة، يتخذ من ذلك سبيلا لكي يخلخل سكونه، وثباته، ويخلق له ملامس ومجالات إدراك جديدة في النص الشعري.
لقد وعى سميح القاسم أهمية تطوير الشكل في الفن، خاصة في شعر المقاومة، وأدرك أنه لا يمكن أن نعبر عن مضامين وأفكار وحقائق ثورية جديدة، في هياكل وقوالب شعرية قديمة، أو تقليدية، فالشكل لا ينفصل عن المضمون، وكلاهما يفيض عن الآخر، ويكسبه هويته ووجوده. لذلك جرّب أشكالا عديدة من الكتابة، من أجل تطوير أسلوبه، ودفع نقاط الثبات التي اكتسبها بتراكم الخبرة والمعرفة، إلى طاقة مغايرة، قادرة على المغامرة والتجاوز والتخطي.
ورغم سيطرة الغنائية بسياقها المفرد والجمعي على أغلب مناخ الشعرية الفلسطينية، وأيضا مناخ القصيدة العربية، فإن سميح القاسم استطاع أن يكسر هذه السطوة، فدفع قصيدته إلى براح الفعل المسرحي، ليضعها في مواجهة درامية أخرى، وبشكل حي مع الجمهور. وهي مواجهة لا تقل ضراوة عن مواجهة الواقع اليومي بالنضال ضد المحتل.. كسر هذا الاختبار الجديد حيادية الغنائية، وحد من تراتبها الذاتي ودلالتها المباشرة، وأصبح القارئ يتعامل مع النص بإيقاع نفسي وصوري معا، حيث يجد فيه صدى وتجاوبا لما يجول في أعماقه، إضافة إلى رسم تكوينات وخرائط مغايرة للقضية الفلسطينية، تتعامل بحيوية مع تحولات وتبدلات الصراع على الأرض، وتنفتح على مخزون متماثل من الرموز وقصص التراجيديا الإنسانية والأساطير، مثل أسطورة سدوم، وأوديب وأنتيغونا.. وغيرها، لتوسع من طبقات النص، وتصبح جزءا حيا من نسيجه الداخلي. كما دخلت السيرة الذاتية، لتمنح كتاباته النثرية قوة مساءلة الذات، تحت مطرقة المواجهة التي تصل إلى حد البوح والتعرية والسخرية.. يقول في قصيدة بعنوان «أنتيغونا»، وهي ابنة أوديب الملك المنكوب التي رافقته في رحلة العذاب التراجيدي حتى النهاية:
«خطوة..
ثِنْتان..
ثلاث..
أقدِمْ.. أقدِمْ!
يا قربانَ الآلهة العمياء
يا كبشَ فداء
في مذبحِ شهواتِ العصرِ المظلم
خطوة..
ثِنْتان..
ثلاث..
زندي في زندك
نجتاز الدرب الملتاث!
………
يا أبتاه
ما زالت في وجهك عينان
في أرضك ما زالت قدمان
فاضرب عبر الليلِ بِأشأمِ كارثةِ في تاريخ الإنسان
عبرَ الليل.. لنخلق فجر حياة
وعلى عكس شعرية النشيد، التي وسمت الغنائية في الشعر الفلسطيني وفي أجزاء من شعر سميح القاسم نفسه، فإن انحيازه الأكبر والأوسع كان لشعرية الصيحة الخاطفة الواخزة، التي تشبه الرصاصة في دويها، وهي تنطلق من حناجر الجموع.. واللافت أيضا، أن هذه الشعرية تنهض مكان الحكمة الشعرية القديمة، والتي شاعت في تراث الشعر العربي كله.. وتتجسد شعرية الصرخة بخاصة في المواقف والأزمات المصيرية، فيعلو صوتها كشعار سياسي، وراية للعدل والحرية. وهو ما يبرر إذاعة قصائد سميح القاسم على مجموعة من القنوات العربية والفلسطينية خلال الهجوم الفلسطيني الذي لم يتوقف بعد على غزة.
لكن سميح القاسم، بعمره الذي ناهز خمسة وسبعين عاما، ودفاتر إبداعه المتنوعة الغزيرة والتي بلغت أكثر من 70 مؤلفا.. لم يستطع أن يصطاد الموت، أو ينصب له فخا في القصيدة، فقرر أن يلاعبه ويشاكسه، كحريتين تتصارعان من أجل حرية واحدة، هي حرية الوطن والإنسان.. عاش في ظله وكنفه، تحت تهديد العدو، وتهديد المريض، يقاوم بالحب والأمل، حتى أصبح الموت مرثية للحياة، ضد أعدائها، مغتصبي الأرض وسارقي الأحلام، إنه خيط شفيف، سرير عابر يخطف الروح والجسد في قبضة المجهول، ليعيدهما لبكارتهما الأولي، فيناجي نفسه في مرآته ببراءة طفل، ويقول:
«أيها الفتى الجميل كبركان
الساحر كإعصار
كم ظلموا فمك المشتعل
كم أخروا ميعاد القبل
حين ابتكروا انشغالك الفاجع
بهذا الشأن الصغير:
الحياة أو الموت!»
أو يدينه بوجع حاد مرير، في فضاء أكثر اتساعا من مكابدات وهموم الذات؛ ففي واقع ماثل بكل تناقضاته في ذاكرة القصيدة والحلم، وكأنه حدوتة فاسدة، لا تمل من تكرار نفسها كل يوم بأقنعة ووجوه مزيفة:
«يا أيها الموت بلا موت
تعبت من الحياة بلا حياة
وتعبت من صمتي
ومن صوتي..
تعبت من الرواية والرواة
ومن الجناية والجناة
ومن المحاكم والقضاة
وسئمت تكليس القبور
وسئمت تبذير الجياع
على الأضاحي والقبور».
وبعد، تحية لسميح القاسم، شاعرا سيبقى في ذاكرة الحلم والشعر، وأنشودة تتسع في خطى الإنسان، مغموسة بعرقه وأشواقه في العدل والحرية.



سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».


رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية
TT

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحل في الساعات الأولى من صباح اليوم الجمعة الناشر المصري محمد هاشم، مؤسس ومدير دار «ميريت للنشر»، عن عمر يناهز 68 عاماً، بعد رحلة كبيرة مع صناعة الكتاب، فقد كان نموذجاً للناشر المثقف، صاحب الموقف الطليعي ثقافياً وسياسياً، وجعل من «ميريت» أحد أهم المنافذ الثقافية في القاهرة، وأحدث طفرة في صناعة النشر، وفتح من خلالها نافذة كبيرة للعديد من الأجيال ليروا إبداعاتهم منشورة بين دفتي كتاب، بعد أن كان النشر عقبةً كبيرةً تواجه كل مبدع مصري، ويضطر للوقوف سنواتٍ على أبواب دور النشر الحكومية.

أسس الراحل «دار ميريت» في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لتشكل هي و«دار شرقيات»، التي تأسست في الفترة نفسها تقريباً، رئة ثقافية أسهمت في احتضان جيل التسعينات في الرواية والشعر والنقد، وتقديمهم للحياة الثقافية والأدبية، ودشنت كثيراً من التجارب الطليعية التي لم تكن حصلت على الاعتراف الأدبي بعد، فكانت فضاءً للاحتفاء بكل إبداع جديد ومختلف، وظلت تمارس الدور نفسه في العقدين الأولين من الألفية الجديدة، فكثير من الأجيال الراهنة الذين أصبحوا نجوماً في الشعر والرواية والقصة، بدأوا مشوارهم الإبداعي من «ميريت» أو من «شرقيات».

لم تكن «ميريت» مجرد دار نشر، فقد تحول مقرها الأول الشهير في شارع قصر النيل بوسط العاصمة المصرية إلى منتدى ثقافي دائم، وكان له رواد من مشاهير الثقافة المصرية والعربية، فعندما كنت تدخل تجد الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم جالساً بأريحية وكأنه في بيته، وكان من ضمن رواد الدار أيضاً الروائيان الراحلان خيري شلبي و إبراهيم أصلان، والناقد محمد بدوي، والروائي الراحل حمدي أبو جليل، والشاعر الراحل أسامة الديناصوري، وغيرهم كثيرون من رموز الحركة الثقافية المصرية، وكان كل شاب يريد أن يبدأ مشواره الإبداعي لا بد له أن يمر يوماً على «ميريت»، ليتعرف على «مطبخ» الثقافة المصرية، ويتقرب من رموزها، يسمعهم، ويتعلم منهم، ويحصل على فرصة أن يسمعوه ويتعرفوا إلى إبداعه، فيُمنح صك الاعتراف.

فازت «ميريت» بجائزة نادي القلم الدولي «هيرمان كيستن» (kesten PEN الفرع الألماني)، وتمنحها وزارة «هسه» للعلوم والفنون، وقدرها 10.000 يورو، وتمنح لكتاب المقالات والروائيين فى جميع أنحاء العالم لمن يتصدون للاضطهاد والقمع ويدافعون عن الحق والحرية، كما تمنح للناشرين لتقديمهم الدعم والرعاية للكتاب المضطهدين في نشر فكرهم ويؤمنون بالحق فى الحرية والتعبير عن الرأي.

لم يتوقف دور محمد هاشم عند حدود العمل الثقافي وصناعة الكتاب، فقد كان ناشطاً سياسياً، حتى أصبح مقر الدار ربما أكثر صخباً وحيويةً من مقرات بعض الأحزاب السياسية. وأثناء ثورة 25 يناير، وبسبب قرب الدار من ميدان التحرير، مركز الحراك الثوري آنذاك، كانت ملاذاً لكثير من أبناء الثورة، خصوصاً من المثقفين، سواء لالتقاط الأنفاس، أو متابعة الأخبار، أو حتى المبيت في الدار التي فتحت أبوابها على مصاريعها. كما كان هاشم ناشطاً في ثورة 30 يونيو ضد جماعة الإخوان، وشارك في الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات التي أقيمت ضدهم، بل إن لافتات كثير من الوقفات ضدهم كانت تخرج من مقر الدار.

عن الراحل يقول الروائي والقاص محمد محمد مستجاب: «رغم أنني لم أكن من (شلة دار ميريت) التي اشتهرت في بداية الألفية، حيث كان يحضرها والدي رحمه الله (الروائي الراحل محمد مستجاب)، فإن علاقتي بعمنا محمد هاشم كانت بعد رحيل والدي في 2005، خصوصاً في إرسال أعمالي لإبداء الرأي فيها، ثم طلبه عملًا لي ليصدر عن (ميريت) لكن هذا لم يتحقق. لكن (ميريت) التي تنقلت من شارع قصر النيل ثم شارع صبري أبو علم ثم باب اللوق ظلت ظهراً حامياً للثقافة المصرية، وليس لي على المستوى الشخصي، وقد خرجت منها عدة مظاهرات تحمي مكتسبات ثورة يناير».

يضيف مستجاب: «محمد هاشم كان يرعى كثيراً من المواهب، ويحزن عندما يجدها انحرفت عن مسارها، واتجهت لشيء آخر بعيداً عن الكتابة. وسيظل اسمه غالياً على جميع الكتاب المصريين والعرب، ومنبراً طالما أحببناه وتعاركنا واختلفنا معه، لكنه كان دائماً مثل آبائنا؛ يعلم أننا سنعود كي نجد في حضرته الابتسامة، وفي جيبه النقود التي تدفئ أيامنا، والكتب التي تشعل خيالنا بالإبداع. برحيل (أبو ميريت)، خسرنا صرحاً ثقافياً حقيقياً في زمن العبث الثقافي».

ويقول الروائي سامح الجباس: «قدم محمد هاشم للثقافة المصرية والعربية أهم الأسماء التي تملأ الساحة الأدبية المصرية الآن، كلهم كانوا مجرد كتاب شبان هواة خرجوا من عباءة (ميريت)، وانطلقوا بعدها نجوماً في ساحة الأدب، وأنا منهم. ففي عام 2005 حملت في يدي أول مخطوط لكتاب أرغب في نشره، وذهبت مباشرة إلى (ميريت)، أهم وأشهر دار نشر خاصة وقتها، واستقبلني صاحب الدار محمد هاشم بحفاوة كأنني كاتب معروف. وحتى نهاية 2010 كنت زائراً شهرياً للدار، ومنها قرأت لكل هذا الجيل من الكتاب، فقد كانت ملتقى الكتاب، فيها كنت تقابل أحمد فؤاد نجم وخيري شلبي وحمدي أبو جليل وعلاء الأسواني والسيد ياسين وغيرهم من الصحافيين والفنانين. وكانت أبوابها مفتوحة دائماً للشباب روائيين، وشعراء، ومطربين، وموسيقيين. وفيها ندوات يومية تقريباً».

ويكمل الجباس: «مرت السنوات، وتعرضت (ميريت) لهزات زلزالية حتى أوشكت الدار على التوقف. وانتقلت الدار من مكان إلى آخر في نطاق وسط البلد. وكنت حتى بداية هذا العام حريصاً على أن أزورها كلما انتقلت من مكان إلى آخر ولو مرة واحدة في العام، تقديراً لموقف هاشم معي في بداياتي، فقد نشرت في الدار عام 2006، ثم انتقلت للنشر بعدها في أكثر من دار نشر، لكني كنت أدين بالفضل والامتنان لهذا الرجل. فتح محمد هاشم الباب لعشرات الكتاب ونسي نفسه، نسي أنه نشر رواية وحيدة بعنوان (ملاعب مفتوحة)، وقلت له في آخر زيارة منذ شهور إنه يجب أن يعيد طباعتها. سيظل اسم محمد هاشم، وتجربة (دار ميريت)، وستظل أفضاله تحيط بالكثيرين، مهما تنكروا له، وقد حان دور اتحاد الناشرين لتكريم اسم هذا الرجل. الكلام والذكريات عن محمد هاشم ودار ميريت يحتاج إلى صفحات وصفحات من الحب والامتنان، والكثير من الحزن والأسف».

ويروي الشاعر سمير درويش، رئيس تحرير مجلة «ميريت» التي كانت تصدر عن الدار، تجربته مع الناشر الراحل، قائلاً: «كان رجلاً جريئاً كريماً، طيِّباً بشوشاً محبّاً للحياة والناس. ذهبت له بمشروعي لإصدار مجلة ثقافية تنويرية، فوافق دون قيد أو شرط، وطوال خمس سنوات لم يتدخل ولا مرة، رغم أنه كان يصدُّ عنَّا ويحمينا».

محمد هاشم في «ميريت»، مع حسني سليمان في «شرقيات»، صنعا طفرة كبيرة في عالم النشر الثقافي منذ منتصف التسعينيات، سارا الخطوة الأولى التي فتحت طريق التحديث حتى اليوم.