سميح القاسم.. كبرياء النص

ربط شعر المقاومة بشعراء فلسطين في المنفى وترك أكثر من 70 مؤلفا

سميح القاسم
سميح القاسم
TT

سميح القاسم.. كبرياء النص

سميح القاسم
سميح القاسم

استعصى سميح القاسم على الموت، وظل يصارعه على مدى ثلاث سنوات، تحت وطأة مرض السرطان اللعين. ورغم أنه يدرك بعين الشاعر، وقلب الطفل، أن الموت يتناثر من حوله، في الشوارع وفي الساحات وفي القرى والمدن، حتى صار حالة فلسطينية بامتياز، تجدد نفسها كل يوم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي البغيض، فإنه مثلما عاش قصيدته مرفوع الرأس، عاش أيضا الموت مرفوع الرأس، لم يراهن عليه، وإنما كان رهانه الأساسي على نصه الشعري وما يفيض عنه من كتابة أخرى، امتدت إلى القصة والرواية والمسرح وقضايا الفكر والثقافة بوجه عام.
هذه الكبرياء النادرة، انعكست في شعر سميح القاسم، وشكلت في أغلب أعماله الشعرية والنثرية، مدار رؤيته، بكل محمولاتها التراثية والفكرية، وتجسداتها المتنوعة جماليا وفنيا؛ بداية من اللغة المشغولة بهموم الأرض والإنسان، والصور والرموز والدلالات المستقاة من طينة الواقع الفلسطيني وحراكه اليومي المناضل، وتواصلت هذه الكبرياء مع تقاطعات الفعل الشعري لديه، مع الماضي والحاضر والمستقبل، كما انعكست كذلك على معجمه الشعري الثري العطاء والمنهل، حتى يمكن أن أقول إننا أمام شاعر جسد بعمق وحب ما أسميه «كبرياء النص».
بهذه الروح حفر سميح القاسم اسمه في لوحة شعر المقاومة الفلسطيني، واستطاع أن يكون له في طبقاتها المتنوعة إسهامه الخاص، والذي تبلور - برأيي - في أنه ربط من خلاله، شعرية الداخل الفلسطيني بشعرية الخارج، والذي يمثلها كوكبة من شعراء المنافي المجيدين، وهو ما أسهم في جعل الشعرية الفلسطينية بكل مراحلها التي مرت بها بداية من مرحلة النكبة في عام 1948، وحتى اللحظة الراهنة، تشبه موجة واحدة، تعتد بتنوع شطوطها وبحارها، وتومض كحالة خاصة في المشهد الشعري العربي وحركة الحداثة الشعرية العربية.
عاش سميح القاسم في الداخل الفلسطيني جل حياته، فبعد مولده لعائلة فلسطينية درزية في مدينة الزرقاء في الأردن، انتقل إلى بلدة أهله «الرامة» الفلسطينية في الجليل الأعلى حيث درس الابتدائية والثانوية في مدينة الناصرة، وبدأ حياته معلما ومناضلا سياسيا. ولم يغادر موطنه الفلسطيني إلا لماما، للمشاركة في بعض المهرجانات والملتقيات الشعرية والأدبية في بلدان عربية وأوروبية.
ورغم تعدد التصنيفات النقدية لشعرية سميح القاسم، ما بين «الشعر المقاوم» والشعر «ما بعد الحداثي»، فإن «شعرية الأرض» تظل - برأيي - هي الملمح الأساس والأكثر لصوقا وانسجاما مع إبداعه الشعري، بل تشكل صيرورة وجوده في الشعر والحياة معا.
تطل «شعرية الأرض» بقوة في شعر سميح القاسم، وتفتح نصه الشعري، على حكمة التاريخ والأجداد، ورائحة البشر والكفاح والنضال، وتبدو دائما مسكونة بروح الطبيعة في بيئتها الفلسطينية الخصبة وعافيتها الأولى، ويتقاطع الحلم والذاكرة في نسيج هذه الشعرية، ينوعان فضاءاتها فنيا ودلاليا، فكأن الأرض ذاكرة حلم يلامس القصيدة، وفي الوقت نفسه، كأن القصيدة ذاكرة أرض تعانق الحلم.. واللافت أن هذا التعاشق الحي وسع من تراوحات اللغة وبنية وإيقاع المشهد في شعر سميح القاسم؛ فهو مشهد طازج طافر بأسئلة الروح والجسد والوطن والوجود، من دون فواصل أو عقد زمنية، تفصل أحدهما عن الآخر، كما أنه مشهد يحيل إلى نفسه دائما، مخطوف إلى الدخل، إلى نبض الحياة في العمق وفيما تحت القشور.. ملمح من هذا المشهد نطل عليه في إحدى قصائده بعنوان «النار فاكهة الشتاء»؛ والتي يقول فيها:
«ويروح يفرك بارتياحٍ راحتين غليظتينْ
ويحرّك النار الكسولةَ جوفَ موْقدها القديم
ويعيد فوق المرّتين
ذكرَ السماء
والله.. والرسل الكرامِ.. وأولياءٍ صالحين
ويهزُّ من حين لحين
في النار.. جذع السنديان وجذعَ زيتون عتيق
ويضيف بنّا للأباريق النحاس
و يُهيلُ حَبَّ (الهَيْلِ) في حذر كريم
(الله.. ما أشهى النعاس
حول المواقد في الشتاء!)
لكن.. يُقلق صمت عينيه الدخان
فيروح يشتمّ.. ثم يقهره السّعال
وتقهقه النار الخبيثة.. طفلةً جذلى لعوبة
وتَئزّ ضاحكةً شراراتٌ طروبهْ
ويطقطق المزراب.. ثمّ تصيخ زوجته الحبيبة
- قم يا أبا محمود.. قد عاد الدوابّ».
إن «شعرية الأرض» هي التي تثبت المشهد، ليس فقط في جسد القصيدة، بل أيضا في جسد الزمن، وهي شعرية تنطلق من نقطة ثبات، لكنها مع ذلك تبني منها تنوعها وتموجها، حيث تبدو اللغة وكأنها ثمرة ولدت للتو من شجرة الأرض، من مراتع الطفولة والصبا، مخزن الذاكرة الحي في حياة الشاعر.. كما أنها شعرية تكتنز في إهابها العناصر الطبيعية الأولى، التي تشكل قانون الوجود: الماء والنار والتراب والهواء. ويزخر شعر سميح القاسم باللعب على أوتار هذه العناصر، في الوقت نفسه، تكسب شعرية الأرض الصورة الشعرية عبقا خاصا، وتجعلها مشرّبة بروح الحكاية الشعبية، وتجرد طاقة الغناء من البذخ البلاغي والتوشيات النمطية.. فالحلم بالأرض، هو الحلم بالطبيعة والقصيدة، هو الحلم بالحرية، بالأنثى والوطن.. فهكذا يخاطب الشاعر أنثاه قائلا:
«لو كنت شجرة
سأكون عندليبا يعيش بين أغصانك
لو كنت شجرة
ستكونين فاكهتي الوحيدة
لو كنت كهفا
سأكون راعيًا مبللا بالمطر يلوذ بك
لو كنت كهفًا
ستكونين الصدى الأبدي بين جنباتي»
ثم ينوع إيقاع المشهد، وكأنه لوحة تشكيلة معجونة بالألوان، في طينتها الطبيعية الأولى، ويشد قماشة اللوحة في معزوفة بصرية وشعرية، لتتسع لأزمنة وأمكنة شتى، واضعا القارئ أمام «باقة زرقاء»، تذكرنا بمرحلة بيكاسو الزرقاء.. يقول سميح القاسم:
«ساعات الفجر الأولى
زرقٌ
العندليب الأول على شجرة الليمون الزرقاء
أزرقُ
أنهار العالم تلتف على عنقي الأزرق
أنشوطة زرقاءُ زرقاء
جفون عيني
زرقاءُ زرقاء
أتلاشى في الزرقة
أتلاشى
لم أعد أعرف لون عينيك»
ومن ثم، تبرز قيمة التكرار، وتتنوع بسلاسة كمقوم جمالي ودلالي، يشكل عنصر إضافة معا، فهو يوثق للمعنى حين يكرره، ولا يجتره تحت وطأة التشابه؛ وحين ينفيه أو يحذفه، أو يمارس عليه نوعا من الإزاحة، يتخذ من ذلك سبيلا لكي يخلخل سكونه، وثباته، ويخلق له ملامس ومجالات إدراك جديدة في النص الشعري.
لقد وعى سميح القاسم أهمية تطوير الشكل في الفن، خاصة في شعر المقاومة، وأدرك أنه لا يمكن أن نعبر عن مضامين وأفكار وحقائق ثورية جديدة، في هياكل وقوالب شعرية قديمة، أو تقليدية، فالشكل لا ينفصل عن المضمون، وكلاهما يفيض عن الآخر، ويكسبه هويته ووجوده. لذلك جرّب أشكالا عديدة من الكتابة، من أجل تطوير أسلوبه، ودفع نقاط الثبات التي اكتسبها بتراكم الخبرة والمعرفة، إلى طاقة مغايرة، قادرة على المغامرة والتجاوز والتخطي.
ورغم سيطرة الغنائية بسياقها المفرد والجمعي على أغلب مناخ الشعرية الفلسطينية، وأيضا مناخ القصيدة العربية، فإن سميح القاسم استطاع أن يكسر هذه السطوة، فدفع قصيدته إلى براح الفعل المسرحي، ليضعها في مواجهة درامية أخرى، وبشكل حي مع الجمهور. وهي مواجهة لا تقل ضراوة عن مواجهة الواقع اليومي بالنضال ضد المحتل.. كسر هذا الاختبار الجديد حيادية الغنائية، وحد من تراتبها الذاتي ودلالتها المباشرة، وأصبح القارئ يتعامل مع النص بإيقاع نفسي وصوري معا، حيث يجد فيه صدى وتجاوبا لما يجول في أعماقه، إضافة إلى رسم تكوينات وخرائط مغايرة للقضية الفلسطينية، تتعامل بحيوية مع تحولات وتبدلات الصراع على الأرض، وتنفتح على مخزون متماثل من الرموز وقصص التراجيديا الإنسانية والأساطير، مثل أسطورة سدوم، وأوديب وأنتيغونا.. وغيرها، لتوسع من طبقات النص، وتصبح جزءا حيا من نسيجه الداخلي. كما دخلت السيرة الذاتية، لتمنح كتاباته النثرية قوة مساءلة الذات، تحت مطرقة المواجهة التي تصل إلى حد البوح والتعرية والسخرية.. يقول في قصيدة بعنوان «أنتيغونا»، وهي ابنة أوديب الملك المنكوب التي رافقته في رحلة العذاب التراجيدي حتى النهاية:
«خطوة..
ثِنْتان..
ثلاث..
أقدِمْ.. أقدِمْ!
يا قربانَ الآلهة العمياء
يا كبشَ فداء
في مذبحِ شهواتِ العصرِ المظلم
خطوة..
ثِنْتان..
ثلاث..
زندي في زندك
نجتاز الدرب الملتاث!
………
يا أبتاه
ما زالت في وجهك عينان
في أرضك ما زالت قدمان
فاضرب عبر الليلِ بِأشأمِ كارثةِ في تاريخ الإنسان
عبرَ الليل.. لنخلق فجر حياة
وعلى عكس شعرية النشيد، التي وسمت الغنائية في الشعر الفلسطيني وفي أجزاء من شعر سميح القاسم نفسه، فإن انحيازه الأكبر والأوسع كان لشعرية الصيحة الخاطفة الواخزة، التي تشبه الرصاصة في دويها، وهي تنطلق من حناجر الجموع.. واللافت أيضا، أن هذه الشعرية تنهض مكان الحكمة الشعرية القديمة، والتي شاعت في تراث الشعر العربي كله.. وتتجسد شعرية الصرخة بخاصة في المواقف والأزمات المصيرية، فيعلو صوتها كشعار سياسي، وراية للعدل والحرية. وهو ما يبرر إذاعة قصائد سميح القاسم على مجموعة من القنوات العربية والفلسطينية خلال الهجوم الفلسطيني الذي لم يتوقف بعد على غزة.
لكن سميح القاسم، بعمره الذي ناهز خمسة وسبعين عاما، ودفاتر إبداعه المتنوعة الغزيرة والتي بلغت أكثر من 70 مؤلفا.. لم يستطع أن يصطاد الموت، أو ينصب له فخا في القصيدة، فقرر أن يلاعبه ويشاكسه، كحريتين تتصارعان من أجل حرية واحدة، هي حرية الوطن والإنسان.. عاش في ظله وكنفه، تحت تهديد العدو، وتهديد المريض، يقاوم بالحب والأمل، حتى أصبح الموت مرثية للحياة، ضد أعدائها، مغتصبي الأرض وسارقي الأحلام، إنه خيط شفيف، سرير عابر يخطف الروح والجسد في قبضة المجهول، ليعيدهما لبكارتهما الأولي، فيناجي نفسه في مرآته ببراءة طفل، ويقول:
«أيها الفتى الجميل كبركان
الساحر كإعصار
كم ظلموا فمك المشتعل
كم أخروا ميعاد القبل
حين ابتكروا انشغالك الفاجع
بهذا الشأن الصغير:
الحياة أو الموت!»
أو يدينه بوجع حاد مرير، في فضاء أكثر اتساعا من مكابدات وهموم الذات؛ ففي واقع ماثل بكل تناقضاته في ذاكرة القصيدة والحلم، وكأنه حدوتة فاسدة، لا تمل من تكرار نفسها كل يوم بأقنعة ووجوه مزيفة:
«يا أيها الموت بلا موت
تعبت من الحياة بلا حياة
وتعبت من صمتي
ومن صوتي..
تعبت من الرواية والرواة
ومن الجناية والجناة
ومن المحاكم والقضاة
وسئمت تكليس القبور
وسئمت تبذير الجياع
على الأضاحي والقبور».
وبعد، تحية لسميح القاسم، شاعرا سيبقى في ذاكرة الحلم والشعر، وأنشودة تتسع في خطى الإنسان، مغموسة بعرقه وأشواقه في العدل والحرية.



رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
TT

رحيل أحمد أبو دهمان سفير الأدب السعودي في البلاط الفرانكفوني

الروائي السعودي أحمد أبو دهمان
الروائي السعودي أحمد أبو دهمان

غيّب الموت، مساء الأحد، الكاتب والروائي السعودي المقيم في باريس، أحمد أبو دهمان، عن 76 عاماً، وهو أول كاتب سعودي يؤلف رواية باللغة الفرنسية هي رواية «الحزام» الصادرة عام 2000 عن دار «غاليمار»، التي حققت شهرةً واسعةً وطُبعت 7 طبعات، وتُرجمت إلى 8 لغات، وتمّ نقلها إلى العربية ونشرتها دار «الساقي».

الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي يهدي وزيرة الثقافة الفرنسية رواية «الحزام» (أرشيف)

اعترافاً بقيمة هذه الرواية، أهدى الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة السعودي في شهر يونيو (حزيران) 2023، ريما عبد المالك، وزيرة الثقافة الفرنسية، رواية «الحزام» للكاتب السعودي أحمد أبو دهمان.

ولد أحمد أبو دهمان في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة في منطقة عسير، جنوب المملكة، وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية في قريته، انتقل إلى أبها لإكمال المرحلة الثانوية، ثم التحق بمعهد تدريب المعلمين بالرياض، وعاد إلى قريته بعد تخرجه ليعمل معلماً مدة ثلاث سنوات. بعدها أكمل تعليمه الجامعي بجامعة الملك سعود بالرياض وتخرج من قسم اللغة العربية بدرجة ممتاز، ثم أصبح معيداً في الجامعة نفسها، وفي عام 1979 التحق بجامعة السوربون في فرنسا وحصل على درجة الماجستير.

غلاف رواية «الحزام»

كتب في الصحافة السعودية، وكان له عمود في صفحة الرأي بجريدة «الرياض» بعنوان «كلام الليل»، وشغل مدير مكتب مؤسسة «اليمامة» الصحافية في باريس، والرئيس التنفيذي لمؤسسة «الحزام للاستشارات الإعلامية»، ومقرها في الرياض.

وفي ندوة أقيمت له، تحدث عن روايته «الحزام»، فقال إنها لا تمثل سيرةً ذاتيةً، «ولكني كتبتها لأروي عن بلادي لابنتي ولزوجتي. فنحن ننتمي لبلد متعدد وفيه تنوع ثقافي».


سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».