سكان دمشق يعانون من تقنين مياه وكهرباء غير مسبوق

صوتان يهدران بالتناوب في شوارع العاصمة دمشق؛ صوت محرك شفط المياه من الشبكة العامة، والذي يسميه السوريون «الحرامي»، وصوت مولدات الكهرباء المصحوب برائحة الديزل. وبات من الذكريات البائدة لسكان دمشق الاستيقاظ صباحا على صوت فيروز ورائحة القهوة والياسمين في مدينة تسري في جنباتها أفرع نهر بردى السبعة. لتبدأ طقوس الصباح الدمشقي بأزيز مواتير المياه، وصياح الجيران «جت.. ما جت.. شغل الموتور.. طفّي الموتور.. انصرعنا».
وتعيد مؤسسة مياه الشرب والصرف الصحي في دمشق أسباب أزمة المياه في دمشق إلى موسم الجفاف وتقنين الكهرباء، وإلى أعمال «تخريبية إرهابية» تسببت بضياع مليون متر مكعب من المياه في نهر بردى دون فائدة، بالإضافة إلى الهدر غير المبرر للمياه لدى بعض الجهات الرسمية. وبحسب مؤسسة المياه تستهلك الدوائر الحكومية كميات ضخمة من مياه الشرب تقدر بنحو مليوني متر مكعب.
بعد 4 سنوات من الاضطراب الأمني وتفاقم أزمة الخدمات المزمنة، ارتبط إيقاع الحياة اليومية بمواعيد انقطاع الكهرباء والماء، وتناوب سكان البيت على السهر بانتظار وصول خيط الماء لتشغيل «الحرامي» والمسارعة إلى شفط المياه لملء الخزان قبل أن يشغل الجيران حراميتهم أيضا. أبو تيسير من سكان شارع بغداد يشبه طريقة نومه بطريقة نوم الذئب عين مغمضة وعين مفتوحة، وكل ساعة يستيقظ يتفقد الكهرباء وأكثر ما يخشاه الاستغراق بالنوم فيفوته تشغيل حرامي المياه فتحرم عائلته من المياه، لقد اعتاد هذا النمط بالنوم منذ بداية فصل الصيف. ويشير إلى أنه بالأساس «لا يمكن الاستغراق بالنوم إذا كانت الكهرباء مقطوعة، فالحر شديد جدا ويشعر النائم وكأنه في فرن تحمير الدجاج».
ويعمل محرك شفط المياه «الحرامي» وفق مبدأ ضخ الهواء في أنابيب شبكة المياه فيقطعها عن التوصيلات ويشفطها نحو توصيلة واحدة. ورغم منع الحكومة تركيب هذه الأجهزة فإنها منتشرة على نطاق واسع في سوريا منذ 3 عقود، لكنها في دمشق وريفها كانت تقتصر على الريف، لا سيما الجنوبي - الغربي، ومع تفاقم أزمة المياه اتسع انتشار هذه الأجهزة ووصلت إلى قلب دمشق الذي لم يعرف العطش يوما. وتقول الحكومة إن هذه الأجهزة تزيد في كميات هدر المياه وتتسبب في إتلاف شبكة المياه. وصرح المدير العام للمؤسسة العامة لمياه الشرب في دمشق وريفها حسام الحريدين، بأن كميات الهدر التي تسببت بها محركات شفط المياه تقدر بما يقارب 70 ألف متر مكعب يوميا.
وأشار إلى أن استهلاك دمشق من المياه ارتفع قياسا إلى السنة الماضية، فقد كان استهلاك دمشق من مياه الشرب في العاشر من يوليو (تموز) 2013 بمقدار 3.1 أمتار مكعب في الثانية في حين أنها في اليوم نفسه من عام 2014 (4.2)، أي بزيادة مقدارها 1.1 متر مكعب في الثانية من مياه الشرب. وفسّر الحريدين سبب ارتفاع استهلاك المياه في تصريح لصحيفة «الوطن» السورية الشهر الماضي بهواجس المواطن «من قلة المياه نتيجة قلة الهطلات المطرية الموسم الحالي بالتوازي مع حملات ترشيد الاستهلاك والتي يمكن أن يكون البعض قد فهمها أنها بسبب عدم توافر المياه، فكانت النتيجة زيادة الكميات التي يخزنها المواطن من المياه، مما أدى إلى زيادة الكميات المستهلكة من المياه يوميا»، علما بأن المؤسسة رفعت سعر المياه بداية الصيف الحالي بمقدار 35 في المائة. والمفارقة أن هذه الأسباب ذاتها التي سبق للحكومة أن ساقتها عندما تعرضت البلاد لأزمة خبز منذ نحو عامين بأن الخوف من فقدان الخبز زاد الاستهلاك وتسبب بالأزمة!!
أم محمد، وهي من سكان حي عين الكرش وسط دمشق التجاري، قالت إنها طيلة عمرها البالغ 60 عاما لم تشهد صيفا في دمشق أصعب وأسوأ من الصيف الحالي. وتقول: «الحرّ لا يطاق، ولا توجد كهرباء لتشغيل المراوح والمكيفات، ولا توجد مياه للاستحمام»، مشيرة إلى أن عائلتها المؤلفة من 5 أشخاص وضعت برنامجا للاستحمام بالدور كل يوم يستحم شخص واحد.. «عندما اضطر ابني لزيارة الطبيب كان لا بد له من الاستحمام والمياه مقطوعة، ملأ زجاجتي مياه من الجامع واستحم بهما».
هذا أحد الحلول التي يجهد السوريون في ابتكارها على مدار الساعة للتغلب على الأزمات المحيطة به، فهناك من يلجأ إلى الحمام على «الناشف»، كما تقول داليا من سكان حي العباسيين، وذلك بمسح الجسم بكحول أو معقم ممدد بالمياه. وتقول ضاحكة: «كما يوجد غسيل جاف للملابس الحريرية، هناك أيضا حمام جاف للسوريين. وإلا ستقتلنا روائح العرق قبل أن تقتلنا قذائف الهاون».
إلا أن الحل الأكثر رواجا هو الحصول على المياه من باعة الصهاريج، والتي كانت سائدة في ريف دمشق منذ سنوات، وخصوصا جرمانة وصحنايا، واتسع انتشارها هذا العام في كل المناطق، ليرتفع سعر برميل المياه من 100 ليرة إلى 1200 ليرة (8 دولارات)، وهو ما يعد رقما باهظا قياسا إلى السعر الرسمي المحدد بـ50 ليرة فقط، ولأول مرة في تاريخها تدرس مؤسسة مياه الشرب والصرف الصحي في دمشق إمكانية تنظيم بيع المياه بالصهاريج (السوق السوداء) وترخيصها، وبحسب صحيفة «الوطن» المحلية، فإن المؤسسة وضعت «دراسة لنظام الاستثمار بيع المياه وترخيص صهاريج مختومة بالشمع الأحمر من مؤسسة المياه ومعبأة من مصادر سليمة، يطلب المستخدم حاجته منها عن طريق المؤسسة وبسعر 50 ليرة».
وتقوم مؤسسة مياه الشرب بتقنين المياه لأكثر من 15 ساعة في اليوم بهدف ملء خزانات المياه الرئيسة، كما تقوم الحكومة بحملات إعلامية لترشيد استخدام المياه «والحرص على كل قطرة ماء». إلا أن سكان دمشق لا يشكون من ساعات تقنين المياه الطويلة، بل من التمييز في تحديد ساعات التقنين بحسب الأحياء والمناطق، فالمناطق الموالية تنعم بالمياه غالبية ساعات اليوم كأحياء أبو رمانة والمالكي والحرس الجمهوري وضاحية قدسيا، وغيرها، بينما تحرم منها نهائيا المناطق الساخنة والمحاصرة، كمناطق الغوطة الشرقية وأحياء جنوب دمشق، لتتفاوت ساعات التقنين في أحياء الأطراف والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية والتي يتركز فيها غالبية النازحين من المناطق الساخنة كجرمانة وصحنايا والزاهرة والميدان وركن الدين ودمشق القديمة، حيث تنقطع المياه أحيانا لثلاثة أيام متتالية.