سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وبقي خطرها

«الشرق الأوسط» ترصد تداعيات انهيار التنظيم المتطرف في آخر جيوبه في سوريا... والمخاوف من أن يرثه «القاعدة»

سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وبقي خطرها
TT

سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وبقي خطرها

سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وبقي خطرها

مع سقوط بلدة الباغوز، بريف دير الزور، انتهت فعلياً «الدولة» التي أعلن تنظيم «داعش» إقامتها في سوريا والعراق عام 2014. لكن مسؤولين غربيين وخبراء في شؤون الجماعات المتشددة يحذّرون من أن هذه الهزيمة لـ«داعش» في جيبه السوري الأخير لا تعني انتهاء خطره. فالمعركة ضد التنظيم ستستمر، كما هو متوقع، ولكن بتكتيك مختلف يقوم أساساً على مساعدة قوات محلية في عملياتها ضد خلايا «داعش» النائمة وشبكات دعمه والتي قدّر جنرال بريطاني بارز أنها تضم حالياً ما يصل إلى 20 ألف شخص في العراق وحده، بالإضافة إلى أعداد غير محددة بدقة تنفّذ داخل سوريا اغتيالات وتفجيرات، بما في ذلك ضمن مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية.
ويقول الميجور جنرال كريستوفر غيكا، وهو نائب قائد التحالف الدولي ضد «داعش» والذي يشرف على العمليات الجارية في العراق وسوريا، إن هذا التحالف الذي تقوده واشنطن ويضم 79 دولة سيواصل عملياته رغم انتهاء معركة الباغوز. ويقر غيكا، خلال لقاء مع مجموعة من الإعلاميين في وزارة الدفاع البريطانية، بأن «داعش» لم ينتهِ بعد. ويوضح رداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط»: «سقوط الباغوز بالغ الأهمية، لأنه يعني انتهاء الخلافة (المزعومة) على الأرض. هذه الجماعة عندما بدأت في عام 2014 ميّزت نفسها إلى حد كبير بكونها تحكم منطقة جغرافية وبأنها خلافة (مزعومة) تمسك بالأرض. امتدت منطقة سيطرتها على أرض توازي مساحتها مساحة المملكة المتحدة. لكنها في أيامها الأخيرة تقلصت إلى مساحة لا تتجاوز بضعة ملاعب لكرة القدم». ويتابع: «انتهاء خلافة (داعش) على الأرض يعطي صورة عن المدى الذي بلغ فيه انهيار التنظيم منذ ظهوره. إنه يدل على أنه لم يعد قادراً على الإمساك بالأرض، ولم يعد سوى جزء صغير مما كان عليه في ما مضى. وهذا الأمر تم نتيجة النجاحات التي حققتها الحملة التي قامت بها القوات العراقية وقوات سوريا الديمقراطية (بدعم من التحالف الدولي)». لكن الجنرال غيكا يتابع محذراً: «من المهم أيضاً أن نفهم أن هذا لا يعني انتهاء الحملة، ولا يعني نهاية (داعش) الذي يستمر في تمثيل تهديد للعراق وسوريا والمنطقة والعالم، ولهذا فإن التحالف الدولي سيستمر في مواصلة عملياته هناك (أي في سوريا والعراق)».

ويتفق الكاتب المعروف بيتر بيرغن، المختص في شؤون الجماعات المتشددة ونائب رئيس الدراسات الدولية في معهد «نيو أميركا» في واشنطن، مع تقييم الجنرال غيكا، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «انتهاء الخلافة (المزعومة) على الأرض يمثّل نكسة قوية لتنظيم (داعش). عندما سيطر (داعش) على أرض بحجم مساحة المملكة المتحدة وحكم مواطنين بحجم عدد سكان سويسرا، أقام ما يشبه الدولة وفرض ضرائب وخوّات على ملايين الناس المقيمين تحت سلطته. زعم (داعش) أنه أقام خلافة وألهم 40 ألف متطوع من حول العالم أن يسافروا إلى سوريا والعراق للالتحاق به، وفي مرحلة من المراحل كان هناك 1500 مقاتل أجنبي يلتحقون بـ(داعش) كل شهر. العدد الآن هو صفر. لا أحد يريد أن يلتحق بالفريق الخاسر».
ولكن هل يمكن الحديث فعلاً عن انتصار على «داعش» إذا ظل زعيمه أبو بكر البغدادي حراً طليقاً؟ الجنرال غيكا لا يعلّق كثيراً من الأهمية على مصير البغدادي، إذ يقول رداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط»: «لا نعرف حقيقة أين هو البغدادي. لو عرفنا لقمنا بشيء ضده. قد يكون في العراق أو سوريا، ولكن قد يكون أيضاً خارج المنطقة. لا نعرف. هذه هي الحقيقة. لكنني أعتقد أنه رجل الأمس وليس اليوم. لا أعتقد أنه يتمتع بأهمية حالياً. مع اضطراره إلى الاختباء، بات البغدادي عنصراً في (داعش) مثله مثل غيره من العناصر، ومع كل يوم يمر أعتقد أنه يفقد مصداقيته أكثر فأكثر». ورغم غياب البغدادي، يلفت غيكا إلى أن «(داعش) ليس بلا قيادة الآن. ولهذا السبب أعتقد أنه حتى بعد القضاء على الخلافة (المزعومة) على الأرض سيبقى (داعش) خطيراً لأنه سيكون هناك قادة وأعضاء مستعدون لمواصلة السير على خطاه. هم (القادة الجدد) أقل خبرة، وأقل قدرة من كل النواحي عن القادة السابقين الذين إما قُتلوا وإما اعتُقلوا. التنظيم أصبح أكثر ضعفاً بلا شك لكنّ هناك مَن سيكون مستعداً لأخذ زمام القيادة، وقد رأينا هذا الأمر مراراً مع جماعات إرهابية أخرى».
وهنا أيضاً يقدّم بيتر بيرغن تقييماً مشابهاً، إذ يقول لـ«الشرق الأوسط»: «سيستمر (داعش) في العمل كخلافة افتراضية تواصل إلهام شن هجمات، لكنه سيكون أضعف بكثير (مما كان عليه سابقاً). المشكلة الحقيقية هي أن الظروف التي أنتجت (داعش) ما زالت موجودة. في الشرق الأوسط هناك (انقسامات) مذهبية في دول مثل سوريا واليمن، وهناك حكومات ضعيفة أو فاشلة في دول مثل ليبيا وأفغانستان، وهناك اقتصادات ضعيفة في معظم دول المنطقة. يمكننا أن نتوقع ظهور (ابن لداعش) في دول مثل ليبيا واليمن وأفغانستان وفي دول أخرى مسلمة لكنها ضعيفة. قد لا يكون ابن داعش (ناجحاً) كوالده، لكن ستكون هناك جماعة تخْلف (داعش)».
ولعل هذا الخوف من ظهور «داعش جديد» كان أحد الأسباب التي دفعت الرئيس دونالد ترمب إلى التراجع عن سحب كامل القوات الأميركية المنتشرة في سوريا في إطار الحملة ضد «داعش». ويقول غيكا في هذا الشأن خلال ندوته الصحافية: «لقد أقر (ترمب) بأن هناك تهديداً من (داعش) سيستمر حتى بعد انتهاء الخلافة (المزعومة) على الأرض. من المهم ألا نسمح بأن يصبح شمال شرقي سوريا منطقة آمنة لـ(داعش) تسمح له بشن حملة تهدد السكان في العراق وسوريا. وقرار (ترمب) إبقاء بعض القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا سيسمح بمواصلة الحملة على (داعش)».
ويشير غيكا، في هذا الإطار، إلى أن خلايا تابعة لـ«داعش» تقوم حالياً بعمليات في مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، كاشفاً وقوع ما يصل إلى «16 عملية اغتيال في الرقة»، بالإضافة إلى سلسلة تفجيرات أخرى. أما بالنسبة إلى مسألة «الدواعش» المعتقلين لدى «سوريا الديمقراطية» وكذلك أفراد أسرهم، فيقول الجنرال البريطاني: «إننا (التحالف الدولي) نجمع أدلة ضد كل عناصر (داعش) المقاتلين الذين ارتكبوا فظاعات في ساحات القتال. وإذا تمكنّا في المستقبل من العثور على أدلة على تورط شخص ما في فظاعات فسنجمع هذه الأدلة ونقدمها للسلطات كي تتمكن من رفع قضية جنائية ضده. لكن هذا الأمر صعب حالياً، فالجيب (الأخير لداعش) مزدحم جداً. هناك مبانٍ وخيام وأشياء أخرى أبطأت العمليات (في الباغوز)، وقوات سوريا الديمقراطية أبطأت تقدمها (خلال الأسابيع الماضية) لتفادي سقوط ضحايا بشكل غير متعمد». ويشيد نائب قائد قوات «التحالف الدولي» بما تقوم به «قوات سوريا الديمقراطية» من حماية وخدمات لعشرات آلاف النازحين بما في ذلك أفراد أسر مقاتلين من «داعش» في مخيم الهول، شرق سوريا. ومخيم الهول واحد من ثلاثة مخيمات أقامتها «سوريا الديمقراطية» للنازحين، لكنه أكبرها وبات يؤوي حالياً أكثر من 60 ألف شخص بعدما كان مخصصاً في البدء لقرابة 20 ألفاً فقط. ويقر غيكا بأن أعداد النازحين من جيب «داعش» الأخير شكَّلت مفاجأة، في ظل خروج عدد غير مسبوق من المقاتلين والأسر من المنطقة المحاصرة في الأسابيع الماضية.
وكان تنظيم «داعش»، في أوجّ قوته، يضم عشرات آلاف المقاتلين، المحليين والأجانب (أنصاراً ومهاجرين) في منطقة نفوذه الأساسية في سوريا والعراق وكذلك ضمن فروعه المختلفة حول العالم. لكنه، بعد هزيمته في الباغوز وسقوط «دولته» المزعومة، بات هزيلاً في شكل واضح، خصوصاً إذا ما قورن بما كان عليه في السنوات الماضية عندما أدار «دولة» مترامية الأطراف تمتد على مساحة أكثر من 88 ألف كلم مربع وتضم أكثر من 8 ملايين شخص وتجني مليارات الدولارات.
ويقول غيكا، في إطار شرحه للقدرات المتبقية للتنظيم، «إن الجيب الأخير لـ(داعش) في حوض الفرات الأوسط كان يضم (حتى أيام مضت) بضع مئات المقاتلين بقوا هناك، متمسكين بما تبقى من دولتهم على الأرض. أما في داخل العراق، فتقديرنا أن العدد بين 10 آلاف و20 ألفاً، لكن هؤلاء ليسوا كلهم مقاتلين. الكثير منهم أعضاء في شبكات دعم. أما عدد الدواعش حول العالم فمن الصعب جداً وضع رقم محدد. ربما هناك نحو 10 أفرع تابعة لـ(داعش)، وكل فرع منها لديه عدد من العناصر يرتفع أو ينخفض حسب الأوضاع».
وعن موقع تنظيم «القاعدة» في المعادلة الحالية، يقول غيكا: «إن أنظار العالم مركّزة الآن على (داعش) لأسباب مختلفة، ولكنّ هذا لا يعني أن التطرف العنيف بأشكاله المختلفة، سواء القديمة أو الجديدة، يجب ألا يتم النظر إليه بوصفه تهديداً للأمن في العالم. علينا أن نتصدى لهذه القضية في المستقبل». ويتفق الكاتب بيرغن هنا أيضاً مع الجنرال غيكا في ضرورة الانتباه إلى تنظيم «القاعدة» مع انتهاء المعركة تقريباً ضد «داعش»، ويقول: «تنظيم (القاعدة) يستفيد (من انهيار داعش) في سوريا وكذلك في منطقة الحدود بين أفغانستان وباكستان وهم يحضّرون حمزة بن لادن، ابن أسامة، لقيادة الجيل المقبل من (القاعدة)».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.