تترقب السلطات الفرنسية بكثير من القلق ما سيحصل اليوم في باريس وكثير من المدن الفرنسية في اليوم التاسع عشر للحركة الاحتجاجية التي انطلقت في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وللتدليل على المخاوف من تكرار سيناريو السبت الماضي الذي شهد أعمال شغب ونهب وكر وفر، خصوصاً في جادة الشانزليزيه، فقد ألغى رئيس الوزراء أدوار فيليب زيارة خارجية كان مقرراً القيام بها منذ أسابيع للبقاء قريباً من الوضع، وحتى لا يتعرض لانتقادات حادة كالتي انصبت على الرئيس ماكرون الذي كان يتزلج السبت الماضي بينما باريس «كانت تحترق». ووفقاً لقرارات مجلس الوزراء، في جلسته يوم الأربعاء الماضي، فقد قرر مدير الشرطة في العاصمة منع المظاهرات في الشانزليزيه والشوارع المتفرعة عنها. لكن القرار الأهم الذي يثير جدلاً واسعاً يتمثل باستدعاء وحدات الجيش الناشطة لتكلف بحراسة المراكز الحكومية والمواقع الحساسة في العاصمة والمناطق، وعدد هذه القوة يقدر بـ7 آلاف رجل على كامل الأراضي الفرنسية، وقد أنشئت لمساعدة القوى الأمنية في مواجهة العمليات الإرهابية وطمأنة المواطنين. ولتبرير قرارها، قالت السلطات الحكومية إن تكليف هذه القوة بحراسة المواقع الحساسة والمراكز الحكومية على أنواعها سيساعد القوى الأمنية الداخلية على التفرغ لمواجهة المندسين والمشاغبين الذين قدر وزير الداخلية كريستوف كاستانير أعدادهم السبت الماضي بـ1500 شخص. وما لا يريده الرئيس ماكرون، ولا الحكومة، هو أن تعيش باريس «يوماً أسود» شبيهاً بالسبت الماضي، أو بالأول من ديسمبر (كانون الأول) المنصرم، حيث تشكل في الحالتين انطباعاً مفاده أن الأمور قد خرجت عن سيطرة السلطات، وأن الشارع أصبح ملك المشاغبين، الأمر الذي ينسف هيبة الدولة، ويسيء لصورة فرنسا في الداخل والخارج، ويضعف موقف ماكرون، ويطيح بخططه الإصلاحية، وخططه لإغلاق ملف «السترات الصفراء»، بعد انتهاء المرحلة التي خصصت لـ«الحوار الوطني الكبير».
ومن بين الذين سلط فوق رقبته سيف الاقتصاص بسبب التقصير، وزير الداخلية كريستوف كاستانير الذي تتهمه المعارضة بأشكالها بالتقصير، فيما اليمين واليمين المتطرف يدعوان إلى إقالته. من هنا، تأتي اللغة المتشددة التي لجأ إليها لدى تسليم مدير شرطة باريس الجديد منصبه، بعد التضحية بسلفه بحجة عدم اتباع التعاليم الوزارية. فقد دعا كاستانير القوى الأمنية لـ«الحزم» في مواجهة التطرف والشغب، وترك لهم حرية تقدير المواقف والتصرف بوحيها.
بيد أن الجدل الأكبر يتناول استدعاء الجيش، والمخاوف من أن يتسبب ذلك بأحداث مميتة، خصوصاً أن الوحدات المسلحة ليست مدربة لحفظ الأمن، بل لمحاربة الأعداء، أكان ذلك إرهاباً أو جيوشاً معادية. ويتفق اليمين واليسار على انتقاد خيارات ماكرون الأمنية. وقد زادت المخاوف بعد التصريحات التي صدرت أمس عن حاكم منطقة باريس العسكرية الجنرال برونو لوريه الذي أعلن في تصريحات لإذاعة «فرانس أنفو» أمس أن وحدات الجيش يمكن أن تصل إلى مرحلة فتح النار على المتظاهرين. وقال الجنرال المذكور ما حرفيته: «إن التعليمات المعطاة (للوحدات المسلحة) بالغة الدقة، ولديها الوسائل كافة للرد على كل تهديد، وهذا قد يصل إلى إطلاق النار». وأضاف الجنرال برونو لوليه أنه بوسع الجنود «إطلاق التحذيرات، والتعامل مع التهديدات بالشكل الملائم».
وفي جملتي الحاكم العسكري الأخيرتين بيت القصيد، ذلك أن من يتحدث عن إطلاق النار على المتظاهرين يعني في الوقت عينه سقوط قتلى وجرحى، والحال أن عشرات الجرحى سقطوا منذ بداية الاحتجاجات، ولدى سقوط أي جريح كانت أصابع الاتهام تنصب على القوى الأمنية، خصوصاً على استخدامها القنابل الصوتية لتفريق المتظاهرين، أو إطلاق الرصاص المطاطي. والحال أن الجيش لا يمكنه أن يتعامل إلا بالشدة للمحافظة على هيبته، وإذا لجأ حقيقة لإطلاق النار مباشرة على المتظاهرين، فإن ذلك سيثير أزمة سياسية في فرنسا لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
اللافت في ردود الفعل على استدعاء الوحدات العسكرية شبه الإجماع السياسي على إدانة الخطوة الحكومية، والتحذير من مخاطرها. من هنا، مسارعة وزيرة الدفاع فلورانس بارلي إلى محاولة طمأنة المحتجين، بقولها أمس إنه «لا يخطر بذهن أحد أن يوضع الجيش في مواجهة المحتجين». وبحسب بارلي، فإن مشاركة الجنود غرضه «تخفيف الأعباء عن الشرطة ورجال الدرك، وهي مهمات يقومون بها في إطار مكافحة الإرهاب». بيد أن هذا القول لم يطمئن أحداً لأن سيناريو المواجهة لا يمكن استبعاده، ولأن المقارنة بين حفظ الأمن بمناسبة حصول مظاهرة وملاحقة الإرهاب لا تستقيم. وحتى الآن، كانت الوحدات العسكرية تتولى منذ عام 2015 حماية أماكن العبادة والمواقع الحساسة، كالمطارات ومحطات القطارات، وأيضاً أماكن التجمع السياحي، مثل جادة الشانزليزيه ومتحف اللوفر وبرج إيفل وقوس النصر والمحطات الكهربائية، لكن هذا كله يختلف عن مواجهة المتظاهرين. ويتذكر الفرنسيون حادثة مقتل الطالب مالك أوسكين في التسعينات بمناسبة مظاهرة طلابية في الحي اللاتيني، وما أثارته وقتها من أزمات سياسية. ولا شك أن الحكومة ليست بحاجة لمزيد مما تعرفه من أزمات، لكن أولويتها اليوم إعادة فرض النظام، وإعلاء هيبة الدولة، مما يدفعها لـ«المخاطرة» باستدعاء وحدات الجيش، فهل سيمر السبت الاحتجاجي التاسع عشر بسلام أم أن دورة العنف ستنتقل من جادة الشانزليزيه التي لم تنته من إصلاح ما أصابها من تدمير إلى شوارع أخرى في العاصمة والمدن الأخرى؟
السبت الـ19 لـ«السترات الصفراء»: الجيش إلى الشوارع وحظر المظاهرات في الشانزليزيه
السبت الـ19 لـ«السترات الصفراء»: الجيش إلى الشوارع وحظر المظاهرات في الشانزليزيه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة