عالمنا خلال المائة عام الماضية.. سجال الحرب والسلم

وولفوويتز يشرح لماذا لا يزال دور الزعامة الغربية مهماً

سقوط جدار برلين في سنة 1989.. احد أهم الاحداث التي عرفها العالم في القرن العشرين
سقوط جدار برلين في سنة 1989.. احد أهم الاحداث التي عرفها العالم في القرن العشرين
TT

عالمنا خلال المائة عام الماضية.. سجال الحرب والسلم

سقوط جدار برلين في سنة 1989.. احد أهم الاحداث التي عرفها العالم في القرن العشرين
سقوط جدار برلين في سنة 1989.. احد أهم الاحداث التي عرفها العالم في القرن العشرين

أود التحدث اليوم عن ثلاثة أشياء: التغيرات الملحوظة التي حدثت في العالم خلال الـ50 عاما الماضية أولا. وثانيا، بعض التحديات التي واجهتنا بها تلك التغيرات، خاصة تحدي دمج مجموعة كاملة من الدول القوية في النظام العالمي. وسأشرح ثالثا وأخيرا، لماذا أعتقد أن دور الزعامة الغربية لا يزال مهما في هذا العالم الجديد والأكثر تعقيدا، على الرغم من أن كثيرا من الدول غير الغربية، تصبح أكثر أهمية وقوة. أعرف أن بعض الناس يعتقدون أنه عندما يقول أميركي كلمة «غربي»، فذلك نوع من لطف التعبير الأميركي، وسنتطرق إلى ذلك بشيء من التفصيل ربما خلال طرح الأسئلة. لكني أعتقد بحق أن ذلك مهم للغاية. وعلى الرغم من اعتقادي بأن الزعامة الأميركية مهمة جدا للزعامة الغربية، فإني أعتقد أيضا، إننا عندما نتصرف كحليف غربي، فإن النتائج تكون أفضل بصورة أعمق.

دعوني أبدأ بتأكيد قد يصيب بعضكم بالدهشة. إذا نظرتم إلى العالم اليوم، فقد لا يبدو ذلك صحيحا. ولكن العالم اليوم، أكثر أمانا وأكثر ازدهارا وحرية مما كان عليه قبل 50 عاما. كما قلت، قد يبدو ذلك التأكيد غريبا في ظل ما نراه في عالم اليوم من مشكلات. دعوني أخبركم أن الوضع في السابق كان أسوأ. وأعتقد أن تلك هي رسالتي - ولكنها ليست رسالتي بالكامل، فهي أكثر تفاؤلا.
في عالم اليوم، نرى أن الاقتصاد الأميركي ما زال يعاني من آثار الانهيار المالي، وأن الاقتصاد الأوروبي في وضع أسوأ. أدى سقوط الديكتاتوريات في العالم العربي إلى دخول منطقة الشرق الأوسط، بأكملها، في حالة اضطراب، حيث تعدّ سوريا أكثر تأثرا في السنة الثالثة من الحرب الوحشية التي بدأت تمتد إلى جيرانها. وإلى الشرق منها، فإن مستقبل كل من العراق وأفغانستان لا يزال موضع شك، وما زال احتمال حصول إيران على سلاح نووي يخيم على الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط برمتها قائما. وكأنما ذلك ليس كافيا، فإن حاكم كوريا الشمالية، البالغ من العمر 29 سنة، يريد إثبات رجولته بقصف الجزر التابعة لكوريا الجنوبية.
إذن كيف يمكنني القول إن العالم أكثر أمانا اليوم، وأكثر ازدهارا وحرية عما كان عليه قبل 50 عاما مضت؟ حسنا، ربما أرى بعض الأشخاص في القاعة ممن هم مثلي، وكانوا أحياء وواعين في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1962 حين كنت طالبا، ويمكنهم تذكر الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الراحل جون كيندي للعالم، أن الاتحاد السوفياتي ينصب صواريخ نووية في جزيرة كوبا ويطلب إزالة تلك الصواريخ. كان ذلك وقتا مرعبا. وللأمانة بقينا ولمدة أسبوع، لا ندري إن كنا سنعيش للأسبوع الذي يليه، وما إذا كان العالم الذي نعرفه سينتهي في محرقة نووية. وبإعلان الاتحاد السوفياتي سحبه صواريخه من كوبا في 28 أكتوبر (تشرين الأول) (بالمناسبة باتفاق غير معلن بل سري؛ بأن تسحب الولايات المتحدة صواريخها من تركيا، ولم يُعرف ذلك إلا بعد سنوات)، انتهت تلك الأزمة. لكن شبح التهديد النووي المتبادل الذي يمكن أن يؤدي إلى تدمير العالم المتحضر خلال ساعات، ظل يجثم على العالم لـ30 عاما أخرى عقب ذلك.
تلاشى ذلك الخطر اليوم بنهاية الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة. وصحيح أن روسيا والولايات المتحدة لا تزالان تمتلكان ترسانة رهيبة وهائلة من الأسلحة النووية القادرة على التدمير، لكن احتمال حرب نووية شاملة اختفى تقريبا. مع ذلك، لم يزل واردا احتمال وقوع أحداث رهيبة بالنسبة لترسانة كوريا الشمالية أو حتى ترسانة باكستان، لا سيما أن وقعت أسلحتها النووية في أيدي إرهابيين، أو أن حصلت إيران على أسلحة نووية. لكن هذه التهديدات وإن بدت مخيفة، تُعدّ ضعيفة مقارنة بما عشناه يوميا خلال الحرب الباردة.
ثانيا: على الرغم من الفقر الكثير في العالم، فإن العالم بات أكثر ازدهارا بكثير مما كان عليه قبل 50 عاما. لقد أصبحتُ رئيس تخطيط السياسة بوزارة الخارجية الأميركية عام 1981، وطُلب منا تحمل مسؤولية ملف قضايا أطلق عليه العلاقات الشمالية الجنوبية. ذلك المصطلح «شمال - جنوب»، كان يصف ما أعتقد في ذلك الوقت، أنه تقسيم دائم للعالم بين البلدان الغنية والفقيرة. للناس تفسيرات مختلفة، سواء كانت ثقافية أو بنيوية أو سياسية، لكن كان هناك نوع من التشاؤم بأن الدول الفقيرة لن تحقق التنمية أبدا.
اليوم استُبدل مصطلح الشمال - الجنوب تماما تقريبا بمصطلح «الاقتصادات الناشئة»، التي تضاعفت ثلاث مرات تقريبا، خلال العقدين الماضيين، من 20 تريليون دولار أميركي إلى 60 تريليونا خلال 20 عاما، وكما قد تعلمون، فالأسواق الناشئة حصلت على أكثر من نصف ذلك النمو، بما يساوي 40 تريليون دولار. ولا تقتصر المسألة على مجرد الأرقام، فخلف ذلك قصص الإنسان، فقد خرج مئات الملايين من البشر من دائرة الفقر نتيجة لذلك التقدم الاقتصادي. ففي الصين وحدها، خرج 400 مليون شخص من دائرة الفقر. وكان ذلك أمرا طيبا للدول المتقدمة أيضا؛ فقد استفاد مستهلكونا من الحصول على منتجات أفضل وأرخص سعرا، كما استفاد منتجونا من توسع السوق العالمي. ولذلك فالعالم أكثر ازدهارا بكثير اليوم عما كان عليه قبل 50 عاما.
ثالثا وأخيرا، لم يكن متوقعا أن يصبح العالم أكثر حرية عما كان عليه قبل 50 عاما. في عام 1962، كانت هناك ديمقراطيات قليلة جدا خارج الدول الصناعية المتقدمة، باستثناء مهم جدا وهو الهند. في عام 1981، صنفت منظمة «فريدوم هاوس»، وهي منظمة غير حكومية تتتبع تقدم الحريات في العالم، ثلث العالم فقط بوصفه حرا بحق. وفي السنة الماضية، تجاوز العدد النصف بقليل. لكن من نواحٍ عدة، ثمة ما هو أهم من زيادة العدد، وهو تغير طبيعة كثير من تلك التغيرات التي لم أتوقع أبدا أن أشهدها خلال حياتي، وكان أكثرها دراماتيكية وأهمية بالطبع، سقوط جدار برلين وانهيار الإمبراطورية السوفياتية. لكنه لم يكن التغيير الوحيد. فثمة تغير آخر لم أتوقع أبدا أن أشهده، وهو انتهاء التمييز العنصري في جنوب أفريقيا عام 1994، وأعتقد أنكم وُلدتم في ذلك التاريخ. شيء مدهش.
قد لا تكون بعض التغيرات التي حدثت ملحوظة بدرجة كبيرة، ولكنها ملحوظة إلى حد ما. تتركز تجربتي الشخصية بصورة كبيرة جدا، على شرق آسيا خلال الثمانينات، عندما أصبحت مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة لذلك الإقليم الشاسع. لم تكن هناك ديمقراطية واحدة في جميع بلدان شرق آسيا عام 1981 باستثناء اليابان. ثم وقعت ثورة سلمية في 1986 في الفلبين، واستبدلت بالجنرال الديكتاتور فرديناند ماركوس حكومة ديمقراطية. وفي السنة التي تلتها 1987، أطاحت كوريا الجنوبية، التي لم تذق الحكم الديمقراطي لآلاف السنين، بديكتاتورية شون دو هوان، ونعِمت بانتقال سلمي للسلطة، وأصبحت ديمقراطية قوية منذ ذلك الوقت، وواحدة من قصص النجاح الاقتصادي العظيمة في العالم. وجاءت تايوان بعد ذلك بالتأكيد عام 1988، تلك الجزيرة الصينية الصغيرة التي يبلغ سكانها 20 مليون نسمة، والتي انتقلت بسلاسة من ديكتاتورية حزب كومينتانغ إلى نظام ديمقراطي حر، مع حرية صحافة ديناميكية وانتخابات منتظمة للرئيس والبرلمان، وهو المجتمع الديمقراطي الصيني الأول، ولكن نأمل أن لا يكون الأخير. وسعت تايوان إلى علاقات مع الصين الأم خلال السنوات الأخيرة الماضية، ونتيجة لذلك يزور تايوان من مليون إلى مليوني سائح صيني في العام. وسرني أن أعلم أنهم يقضون قسما كبيرا من وقتهم داخل غرفهم في الفنادق وهم يشاهدون النقاشات السياسية التايوانية، لأن الصين لا تعرف مثلها، وأفترض أنهم يعودون إليها بفكرة مختلفة عن كيف يجب أن يُحكم الصينيون، وهذا أمر طيب.
بعد ذلك بعشر سنوات في 1998، أجبرت إندونيسيا (بلد عملت به سفيرا للولايات المتحدة لثلاث سنوات، وعلي أن أعترف بأنني وقعت في حبه بصورة أو بأخرى) الديكتاتور سوهارتو على التنحي، وأصبحت إندونيسيا البلد الإسلامي الأكبر، من حيث عدد السكان، بلدا ديمقراطيا. وقال كثير من الخبراء والنقاد، إن إندونيسيا بلد إسلامي وفقير إلى حد كبير لا يسمح بنجاح الديمقراطية فيه. لكن الآن، وبعد مرور 15 سنة، فإن إندونيسيا هي ثالث أكبر ديمقراطية في العالم (مع صحافة مزدهرة ومجتمع مدني. وقد نظمت ثلاثة انتخابات حرة ونزيهة خلال الـ15 عاما الماضية)، ومن الواضح أنها ستنظم انتخابات أخرى في العام المقبل.
كما قلت، فإن مستوى هذه التغيرات ملحوظ أكثر، وأعتقد أنه أكثر أهمية من عددها. إني أفكر في دول مثل كوريا الجنوبية بالذات، وهي لا تاريخ سابقا لها مع الديمقراطية، ولها، كما يقول البعض، ثقافة تناقض، أحيانا، الحكومة التمثيلية. هناك على سبيل المثال، الاستثناء الكونفوشيوسي - فكرة أن المجتمعات الكونفوشيوسية مستبدة بطبعها، وأن الناس في هذه المجتمعات، يحبون أن يقال لهم ما يفعلونه أو ما يُطلق عليه «القيم الآسيوية»، وأنها متناقضة مع قيم الديمقراطية الغربية. حسنا، كوريا الجنوبية مجتمع كونفوشيوسي، وتايوان أيضا بلد كونفوشيوسي، وهنا الاستثناء الكونفوشيوسي. وتايوان مجتمع صيني أيضا ينطبق عليه الاستثناء الصيني.
الآن نحن نشهد نهاية استثناء عربي مع الانتفاضات التي انتظمت في العالم العربي. كان من الواضح أن من السابق لأوانه وصف تلك الانتفاضة بالربيع العربي، ولكني أعتقد أن من السابق لأوانه بالمستوى عينه، وصفها بالشتاء الإسلامي. ستمر سنوات عدة قبل أن نعرف النتائج الحقيقية لهذه الانتفاضة، لكن للغرب نصيب كبير في النتيجة، وأعتقد أننا نحتاج أن نبقى مشاركين.
لنأخذ المثال الكوري - بالمناسبة تصادف هذه السنة موعد انتهاء الهدنة في الحرب الكورية قبل 60 عاما. فخلال السنوات العشر الأولى، كانت البلاد بائسة وفاسدة وديمقراطية فاشلة، ثم أصبحت أقل فسادا بعض الشيء، ولكن بديكتاتورية وحشية، ولم تتضح إشارات ما يطلق عليه الآن، قصة المعجزة الحديثة حتى 1981. لذلك أعتقد أننا نحتاج إلى منظور زمني أطول مما يريد الأميركيون بصراحة أن يتخذوه عادة.
كان التقدم الهائل في الحريات خلال الـ30 عاما الماضية طيبا لعشرات الملايين من الشعوب التي تحسنت حياتها مباشرة نتيجة لذلك. وأعتقد أن ذلك التقدم كان طيبا أيضا للولايات المتحدة وأوروبا - فقد حوّل الأعداء إلى أصدقاء، وجعل أصدقاءنا أكثر قوة واعتمادا على الذات. وعندما كان يُنظر إلينا بأننا في جانب الحرية (ولسوء الحظ، لم نكن دوما كذلك)، ولكن عندما كان يُنظر إلينا بأننا في ذلك الجانب، فقد حسّن ذلك بالتأكيد من موقفنا في نظر شعوب تلك البلدان.
ربما كان عليّ أن أمسح ذلك، ولكني لن أفعل، لدي في الـ«آيباد» صورة للوحة رُكبت في طرابلس بُعيد سقوط القذافي قبل سنتين. تقول اللوحة شكرا لكم على كل شيء، وبها إعلام ثماني دول، من بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وقطر، لكن الأهم من ذلك، وجود علم الناتو وسط كل ذلك. لو قال لك أي شخص قبل ثلاث سنوات، إنه سيكون هناك لوحة مرفوعة في عاصمة عربية مكتوب عليه «شكرا الناتو»، أعتقد أنك كنت سترسله إلى اختصاصي نفسي. بالتأكيد ذلك الجهد الأولي الذي قامت به دول الناتو نيابة عن الثورة الليبية، كان شيئا يختلف عن الآراء حولنا بالفعل، على الأقل في ذلك البلد. وأعتقد أن الآراء حولنا مهمة، بالتأكيد هي ليست بداية ولا نهاية الأشياء، ولكنها مهمة.
ولنعد لافتراضي الأول. أعتقد أن العالم اليوم أكثر أمانا وازدهارا وحرية عما كان عندما كنت طالبا في السنة الثانية (في ستينات القرن الماضي). وأعتقد مع مخاطرة أن ذلك يبدو نوعا من التباهي، من العدل القول إنه لم تكن تلك المنجزات لتتحقق من دون التحالف الغربي الذي كان دعامة الأمن العالمي، ومن دون دور الزعامة الغربية في المحافظة على نظام تجارة عالمي مفتوح نسبيا، ومن دون الدعم الغربي للتغيير الديمقراطي، ليس في الاتحاد السوفياتي فقط، في الإمبراطورية السوفياتية، بل في بلدان كان يُوصف زعماؤها عندنا بأنهم «أبناء حرامنا». لا أدري إن كنتم قد سمعتم بهذا التعبير، وهو ينسب لموضوع مختلف.. أعتقد أنه كان في حديث للرئيس روزفلت عن الديكتاتور سوموزا في نيكاراغوا: «حسنا قد يكون ابن حرام، لكنه ابن حرامنا». قد يكون مما قاله البعض عن فيرديناند ماركوس، لكن وبأي قدر، فقد كانت الفكرة أننا نتراضى مع ديكتاتوريين لأنهم مفيدون على الأقل.
لذلك أرى من المناسب إعطاء شيء من التقدير للغرب على التقدم المثير للإعجاب الذي حققه العالم خلال الـ50 عاما الماضية. وبالمناسبة، فإن شعوب تلك الدول التي تقدمت كثيرا، هي من يستحق الثناء الأعظم.
على الرغم من قول رجل عاقل مرة: «لا حدود لما يمكنك إنجازه طالما لم تكن تهتم لمن يكون الثناء»، فأنا أعتقد أن هذه الحالة تستحق إعطاء بعض الثناء، وذلك لسببين: أولا، لأن هناك فقدانا خطيرا للثقة ينمو، على الأقل الثقة في الولايات المتحدة، وأعتقد في أوروبا أيضا، في مقدرتنا على المساهمة في التقدم العالمي. وثانيا، وهو الأكثر أهمية، أعتقد أن حلفا أوروبيا فاعلا سيكون حيويا إن كنا سنحافظ على التقدم خلال الـ50 عاما المقبلة، وبالفعل، إن كنا سنتجنب ما يمكن أن يكون انعكاسا كارثيا لذلك التقدم.
ينبع الشعور بأن الغرب في مرحلة انحطاط، بسبب نجاح كثير من الدول النامية، خاصة الصين. وهو النجاح ذاته الذي فعل الكثير من حيث زيادة رفاهية الإنسان، أفرز الكثير من التحديات الاقتصادية والجغرافية السياسية.
ونحن نتأمل المستقبل، فالمزيد من الدول سيكتسب قوة اقتصادية تجعل منه قوى مهمة، على الأقل في مستواها الإقليمي، وبعضها على المستوى العالمي. ولذلك فإن العالم في أحسن أحواله، يسير ليكون مكانا أكثر تعقيدا. وما كانت تقوم به قمة الثمانية التي تجتمع سنويا لتقرر مصير مستقبل اقتصاد العالم، تحول الآن إلى قمة الـ20.
لكن وفي أسوأ الأحوال، فالمسألة ليست كون العالم سيصير أكثر تعقيدا، بل أكثر خطرا. وأعتقد أن احتمال النزاعات زاد، ليس النزاعات وحسب، بل احتمال الحرب أيضا. يقودني هذا إلى نقطتي الثالثة والأخيرة: لماذا أعتقد أن دور الزعامة الغربية لا يزال مهما.
يقول كثير من الأميركيين حاليا، إن بلدي لن يستطيع تحمل لعب دور الزعامة في العالم، وأنا أتفق مع ذلك الافتراض من ناحية واحدة - لا شك أنه ليس باستطاعة الولايات المتحدة لعب ذلك الدور، إن لم نصلح اقتصادنا. لكن مفتاح ذلك هو إجراء التغييرات الصحيحة في الولايات المتحدة، وليس الانسحاب من العالم. في الواقع، أصر أننا لن نستطيع القيام بذلك بغض النظر عن حجم الغاز الطبيعي الذي ننتجه، وبغض النظر عن مدى راحتنا في بلدنا، لا يزال العالم مكانا خطرا، ويجب أن نقلق بشأن ذلك.
بالعودة إلى 2012، كانت هناك سلسلة من النقاشات البائسة إلى حد ما، بين المرشحين الجمهوريين (وليس فيها الكثير الذي يستحق الذكر) لكني أتذكر شيئا واحدا، فقد سُئل أحد المرشحين عما سيفعله إن جاءته مكالمة هاتفية عند الساعة الثالثة صباحا (ولا أدري لماذا عندنا هذه الصورة في الولايات المتحدة أن الرئيس يتلقى محادثات عاجلة دائما عند الساعة الثالثة صباحا). على كل حال تلقيت تلك المكالمة عند الثالثة، وقيل لك إن أحد الأسلحة النووية الباكستانية سقط بأيدي إرهابيين. ذلك سؤال من الصعب للغاية الإجابة عنه. وليس واضحا ما الذي يجب أن نفعله. ومن الواضح أن ذلك يعتمد على ظروف معينة ليست واردة في السؤال. لكن مجرد حقيقة أن ذلك سؤال محتمل تصديقه، توضح، في اعتقادي، أحد الأسباب الكثيرة التي لا نستطيع بسببها الانسحاب من العالم. في مثل تلك الحالة، لا بد أن يكون لنا تصرف. ونحتاج بالفعل، إن كنا سنتصرف، أن نتصرف بصورة استباقية حتى لا تحدث مثل تلك الحالة.
من الواضح (وأنتم تتحدثون مع شخص له خبرة طويلة مؤسفة مع المآسي في العراق) أن حربين طويلتين مثيرتين للجدل كانتا مؤلمتان، وجعلتا الأميركيين يتساءلون حتما، عن دورنا في العالم. تبدو الولايات المتحدة حاليا، مشلولة، خوفا من أن يؤدي تصرفها ذلك إلى تورط ما من نوع التورط في العراق. بالتأكيد ذلك الخوف هو أكثر من مفهوم، ولكن ليست كل حالة هي العراق أو أفغانستان مرة أخرى.
بوسع الولايات المتحدة أن تقوم بتغيير كبير، ببساطة عن طريق المزيد من الدعم النشط للعناصر المعتدلة في المعارضة السورية. ولا يعني ذلك الدخول في حرب نيابة عنهم، بل يعني، على كل حال، تقديم الدعم المالي والدعم الطبي لهم، بما في ذلك المعدات الطبية العسكرية والدعم العسكري غير المميت، والأسلحة والتنظيم كذلك. أعتقد أننا في خطر تكرار خطأ مختلف آخر في سوريا - ليس خطأ الحرب في العراق عام 2003، بل الخطأ في البوسنة خلال التسعينات. فلمدة ثلاث سنوات، وفي ظل رئيسين أميركيين، هما جورج بوش الأب ثم الرئيس كلينتون، فرضت الولايات المتحدة حظرا للأسلحة على البوسنيين الذين كانوا ضحايا للعدوان، مما زاد من أمد النزاع ومن سفك الدماء. ويقدر البعض أن نحو 200 ألف شخص لقوا حتفهم في البوسنة خلال تلك السنوات الثلاث، وجعل ذلك آثار الحرب أسوأ بكثير مما كانت ستكون عليه لو أنهي النزاع في وقت مبكر.
البوسنة تعيش اليوم على الأقل في سلام، ولكنها بلد منكسر إلى حد كبير ومقسم في كل شيء عدا الاسم. ذلك أفضل من الحرب، لكن لو كانت الحرب انتهت في وقت أبكر مما انتهت فيه لكانت القصة مختلفة. وأعتقد أن كثيرا من النتائج السيئة التي يخشاها الناس إن سلحنا المعارضة في سوريا، قد حدثت بالفعل، لأننا لم نقم بتسليح المعارضة. فعدم القيام بشيء تقريبا بينما النزاع المسلح يستمر لأكثر من عام، أعتقد أن نتيجته ستكون أسوأ، حتى ولو رحل الأسد، وهناك احتمال حقيقي أنه سيبقى ويواصل حكم البلد الممزق الذي، من المؤكد أن يكون عدوا للولايات المتحدة، وبدرجة ما، قاعدة محتملة لعمليات تنظيم القاعدة. ليس ذلك سوى أحد الأخطار الكثيرة في عالم اليوم، التي أعتقد أن من الأفضل التعامل معها بدلا عن الهروب منها.
دعوني أختتم بالرجوع إلى طالب السنة الثانية مرة أخرى، وتذكر؛ ليس الـ50 عاما التي مضت، ولكن أيضا الـ50 عاما التي سبقت عام 1962. فكما ذكرت قبل مائة عام، كان العالم، وخاصة أوروبا، يواجه تحدي قوة صاعدة جديدة هي ألمانيا، التي كانت غير راضية عن الوضع الراهن آنذاك، والتي شعرت بأنها حرمت مكانها «تحت الشمس» بواسطة القوى الكبرى في القرن التاسع عشر، خاصة بريطانيا وفرنسا. على الرغم من ذلك، اعتقد كثيرون أن نمو الاعتماد المتبادل في الاقتصاد العالمي والرفاهية الاقتصادية التي أتت معه، جعل من الحرب أمرا من أمور الماضي. وكان أحد أولئك صحافي أميركي هو نورمان أنجيل، الذي كتب كتابا في ذلك الخصوص سماه «الوهم الكبير»، ولم يحظَ في البداية بناشر لكتابه، فاستغل ماله الخاص لنشر بضعة آلاف النسخ منه، وسرعان ما تصدر الكتاب قائمة أكثر الكتب مبيعا، حيث بيع منه الملايين من النسخ حول العالم. وكان أحد أتباعه رئيس جامعة ستانفورد، وهو رجل يدعى ديفيد ستار جوردان، قد تنبأ بعد تدريس نورمان أنجيل، قائلا: «إن حرب أوروبا العظيمة التي تهدد دائما لن تقع أبدا. فإن رجال البنوك لن يجدوا المال لمثل ذلك القتال، ولن تتحمل الصناعة ذلك. لن تكون هناك حرب عامة»، لم يكن توقيته جيدا، فقد كتب ذلك في عام 1913، عشية الحرب العالمية الأولى.
من المحزن أن تلك الحرب والمصائب التي خلقتها دمرت جميع الآمال العظيمة التي كانت لدى الناس يوما ما في أن يكون القرن الـ20 وقتا للسلام العظيم والرفاهية. خلقت الحرب العالمية الأولى، التي تعتبر أسوأ حرب في تاريخ البشرية حتى ذلك الوقت، ظروف الحرب العالمية الثانية، التي كانت أسوأ من الحرب العالمية الأولى. خلقت ظروف البلشفية في روسيا التي كانت مأساة إنسانية على مستوى هائل، والنازية في ألمانيا وغيرها من المآسي الإنسانية الهائلة، والماوية في الصين وهي الثالثة. ولذلك وبدلا من أن يكون قرن الوعد العظيم فإن السنوات الـ50 التي تلت ذلك كانت أكثر نصف قرن دموي في التاريخ الحديث.
لا نستطيع أن نعيد ذلك التاريخ بأسلحة أكثر فتكا في هذا القرن، لذلك أعتقد أن أهمية تحالف الديمقراطيات الغربية للعالم ستستمر، خاصة لنا. ليس من المبالغة القول إن مصير أجيال المستقبل (وذلك جيلكم، فجيلي يتلاشى من المشهد) والأجيال التي تليه يعتمد على لعب الدور بالصورة الصحيحة هذه المرة.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.